مراجعات

الإنسان الارتكاسي “الحفري” (لذة الهدم وفن الإقصاء)

في سَيره وتقلباته وسقوطه وتيهه واستعادته البوصلة وتكرار أخطائه ومحاولة تفاديها، ما أحوج الإنسان إلى تلك الطاقة التي تجدده وتمده بمادة الحياة.

تلك التي تجعل منه محاربا دائم الاستعداد للمواجهة ولمحاولة الانتصار. يبتعد عن ذاته  فيلتقيها، ويعيد صياغة نفسه من خلال إعادة صياغة العالم حوله، ويتفاعل مع الماجريات ويفعل فيها.

تكونه المعرفة، وتقوي وعيه وشعوره ويقظته، وتمده بالآليات التي تمكنه من المحافظة على طاقته وتجديدها.

فالمعرفة في دورها المبدئي التكويني؛ تعمل على تكوين الإنسان الفاعل المنفتح، فهي انفتاح غير مشروط، إلا أن طريقة التعامل معها كأداة للتنميط والقولبة والحصر، قد تفرز لنا كائنا انفعاليا ارتكاسيا، قد خُلق – كما باقي البشر- برغبة وإرادة وعوز، لكنه انقلب ضد الحياة، وجعلها تنقلب عليه وتتقلب ضد نفسها.

إنسان له القدرة على مقاومة أسباب الحياة، وله قابلية للقضاء على الرغبة، وهو دائم الاستعداد للانقلاب على كل شيء بدءا بذاته.

هذا الاستعداد يعرضه في كثير من محطات الحياة إلى الانحراف أو الانتكاس؛ فتغلب بذلك “قواه الارتكاسية” “قوته الفاعلة” مستمدة ذلك من بين ما تستمده منه؛ من الوعي أو الذاكرة.

كائن نكوصي قد انفصل عن الواقع، وأعلن انشقاقه على الإبداع والحركة والابتكار: ينبذ التجديد، وينفي الآخر، ويكره المغايرة والمزايلة.

قد خلت جعبته مما يمكن أن يفيد به، فتكوم حول “وعيه الشقي”، ولوح براية الحرب على المشتغلين والمبدعين، وانبرى للهجوم والهدم، وجعل من تطاوله وتشكيكه حصانة ضد خوفه من الطارئ والغريب والمفاجئ والمختلف وما يعجز فكره السطحي عن فهمه واستيعابه.

“إن المعرفة والعلم إن لم يكونا ليحررا الإنسان من عبودية الذات والتمحور حولها واعتبارها الحق الذي لا حق غيره، ويحررا العقل من عجزه وقصوره، ومن القولبة والتنميط، ومن الأوهام والأحكام الجاهزة، ومن الضغينة والإقصاء، وإن لم تمداه بالموضوعية، وبالطرح العلمي الجاد، وبثقافة المغايرة والاختلاف، وبالأخلاق السامية التي يحث عليها ديننا السمح، فليستا لا علما ولا معرفة، وإنما قناع يتخفى وراءه الإقصائيون لأجل مشروعهم الحفري الهدمي” وصال تقة

قد عجز عن تأكيد ذاته والتماهي مع الإنجاز، فحمل معول الهدم يحقق به ذاته.

في النقد الأدبي والفني، تجده يوزع الأحكام مستندا إلى أناه وعوزه الفكري والتحليلي، وضيق رؤيته أمام شساعة التنوع والابتكار.

فانغلاقه على ذاته، وانطواؤه على نفسه يجعله مسجونا في ضيقه أمام لا نهائية المقاربات والتحليلات الممكنة وأمام كثافة المعاني والأبعاد.

هذا النوع يبلغ ذروته في تحديد النمط الارتكاسي؛ حينما يتعلق الأمر بمن تصدروا الدعوة ولما يتأهلوا لها، واعتلوا المنابر يمارسون “حقهم” في الأمر والنهي؛ وقد خلت جعبتهم مما يمكنهم من التحليل والاستنتاج وبالتالي الإقناع.

صنف ينقض على الشك ويجعله غائية للمعرفة وليس وسيلة لبلوغها، ويتجرأ على التفكير المركب دون أن يمتلك آليات التفكيك والتحليل والاستنباط، ويجعل المعرفة حماسا واكتساحا واندفاعا وتعجلا؛ فلا غرابة وحاله هذه أن يكون هدميا “حفريا”، همه الانتقاص والنقد والتشكيك، وليس البناء والتشييد والتراكم المعرفي.

صفاتهم الجلية التي لا تخطئها عين مجردة:

– الانفصال عن الواقع والدعوة إلى الانفصال عنه

– السطحية والسذاجة بل البله والعته في التحليل

– النفي والإنكار والتخطيئ الدائم والنقد الهدام

– التماهي مع الحذلقة والفذلكة وادعاء امتلاك ناصية الأحكام الشرعية

– الضغينة، والتطاول، والعجز عن التقدير، وتبخيس الناس- بشكل خاص المبدعين – وترصد حركاتهم بمعاول الهدم استنادا إلى تحليلات سطحية، وتأويلات دينية ساذجة تصل أحيانا إلى التفسيق والتبديع بل إلى التكفير والطرد من رحمة الله.

– الترويج لملائكيتهم وطهرهم من خلال شيطنة الآخر، لسان حالهم قولة “دولوز” المشهورة: “أنت خبيث إذن أنا طيب”.

– إصدار أحكام القيمة على الفن والجمال من خلال منفذ رؤاهم الضيق.

– وستر عورهم المعرفي وعوزهم الإدراكي بالتشدد والتنطع والاحتماء بسؤالهم المشهور: “هل هذا مما سنسأل عنه في القبر”؟ أو بتقريرهم الأشهر (وهو حق يراد به باطل): “لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ولا عن السلف الصالح بعده”.

– الاستيهام والإيهام باتخاذ مبادئ ضرورية يضفون عليها صبغة القيمة والمثل الأعلى، والترويج لذلك على أنه الحق الذي لا حق بعده، يخدمون ذلك بلي عنق الآية أو الحديث كي يثبتوا صحة أحكامهم ويقنعوا من خالفهم بأنه إن خالفهم فإنما حاد عن النص وجنف عن نهج السلف.

– التعلق بالعلية الخيالية، وبأوهام تقدّم ذاتها في صورة قواعد وقوالب وموازين يتخذونها أقنعة ومبررات يعلنون باسمها التصنيف والحرب ضد المخالف، تغذيهم الضغينة والتكالب والتطاول على المخالف، واحتقار الآخر والاستهتار بجهوده وبخس مردوديته، وتوزيع المثالب التي تمكنهم من التصنيف والإقصاء.

دع عنك جانبا كل هذا الكلام، وابحث واقعيا عن هذا النمط البشري – للمثال لا الحصر-  في أفكار بعض من اتبعوا الجرح والتعديل منهجا في تقييم كل من حولهم، والغلو واللاتسامح في تحليل الأحداث والمستجدات، والولاء الضيق لأصحاب فكرهم في مقابل معاداة كل من غرد خارج سربهم.

إن المعرفة والعلم إن لم يكونا ليحررا الإنسان من عبودية الذات والتمحور حولها واعتبارها الحق الذي لا حق غيره، ويحررا العقل من عجزه وقصوره، ومن القولبة والتنميط، ومن الأوهام والأحكام الجاهزة، ومن الضغينة والإقصاء، وإن لم تمداه بالموضوعية، وبالطرح العلمي الجاد، وبثقافة المغايرة والاختلاف، وبالأخلاق السامية التي يحث عليها ديننا السمح، فليستا لا علما ولا معرفة، وإنما قناع يتخفى وراءه الإقصائيون لأجل مشروعهم الحفري الهدمي.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى