قصة

مات الوطن!!

حينما قرر ذات يأس  أن يبحث عن وجه الصباح خارج المدار، وأن يلثم جفون الورد في خميلة تحتفي بالورد، حزم حقائبه ليلا، وعند الإصباح، ولى ظهره للوطن..

وطن الحزن والفوضى والدمار، وموت الإنسان في قلب الإنسان..

كانت العصافير ذاك الصباح صامتة شاحبة قد سرق شدوها الرصاص والدخان.. والورد والشجر والحجر والمدر كان غارقا في الدماء وفي الأشلاء .. والدمع قد حفر الأخاديد في كل الشوارع .. في كل المنازل .. في كل القلوب..

يبتلع ريقه على مضض، فتنبت في حلقه غصة وحصائد عوسج .. يحاول أن يدير وجهه عسى شيئا يثني خطاه، فيغرق كل شيء خلفه في لجة حزن ويأس، ويرى كفوف كل شيء حوله تودعه .. تبارك هذا الرحيل ..

لا تعلق .. لا أمان .. لا انتظار..

 لابصيص نور ينتظره يجدد فيه الأمل ،عدا نور الكهرباء المنقطع ساعتين كل ساعة ، والوقفة اليومية في طوابير البنزين، وجمعيات الخبز واللحم ..والمشارح..

حتى ما منه نسج الأحلام قد سرقه هذا الوطن..

تمنى أن يرى دمعة تستبقيه .. وجه خليلة تستجدي بقاءه فيصبرها بعودة حثيثة .. أو ضفيرة أم مضمخة بالحناء تشعل فيه الحنين .. أومنديل  صديق قد نقش فيه أول حرف من اسمه يدسه في جيبه كي لا ينسى الوداد .. فلا يجد.. كلهم قد رحلوا قبله .. كلهم قد انفضوا ذات دجيج .. حصدتهم آلة رعناء حينما قرر الإباء يوما أن يشجب الظلام..

تتراءى له خطيبته التي كان سيحملها بعيد العيد على حصانه يزفها للأحلام .. قد زفتها أيادي الغدر لتربة ممسَّكة مضمخة بدماء المغدورين .. انتحبت حمامة تلك الليلة وشجن الكروان، وزغردت دبَّابة تحتفي بالأشلاء ورصاصة عمياء تنقش في جسمها حناء عرسها .. صوتها كان رخيما ترفع الشهادة، وصوته ابتلعته الدهشة والصدمة والانهزام .. مهزوما كان أمام بسمتها الأخيرة .. مهزوما كان أمام نظرة في عينيها  هادئةٍ صامتةٍ لا تستجدي الإنقاذ.. لم تكن تريد أن تعيش في وطن تموت فيه كل يوم قبل أن تموت .. ويموت الكون حولها في عينها قبل أن يُنجَب.. لم تكن تريد أن تموت مرتين .. ولا أن تعيِّد مرتين..

يعانده طيف رفيق دربه “مهند” الذي كان هنا يحجب الغيم عن الأمسيات فينبت القمر، ويغرد بصوته الشجي فينصت الطير لشداه .. ويجعل الصحبة في عالم الوحوش منسمة بنكهة المطر.. و”حسام” الذي قد غيبوه عن العيون .. وأمه التي ماتت حسرة على أبيه الشيخ الهرم المهزوم بصقيع الوحدة في المعتقل وجمر ذاك الإحساس المتنامي بالظلم .. كان ينجب كل يوم في حلقه شوكة، وكلما أراد اقتلاعها نبتت له كما التنين شوكات عصية تنجب شوكا .. غصة بها قد رحل دون أن يرى الشمس مرة أخرى تشرق في سماء هذا الوطن..

كلهم قد غابوا.. وبقي وحيدا هنا، كأنهم أبقوه كي يخلد الوجع في شريانه ذكراهم ..

مات العيد هذا العيد..

ماتت الأحلام على الشفاه..

 مات الوطن!!

اقترب من المركب يحث الخطى، وظله المختفي مذ قرر الرحيل، ووجع الأيام تحمل معه الحقائب.. والأمن الهاجع، وأطياف من رحلوا .. والسماء المثقلة بالرصاص، وبوح ثمل قديم … وحضن مجهول يستبق الخطى كي يرتمي فيه .. لا يعلم إن كان سيضمه .. سيستوطن في أحداقه أم أن الأوطان قد أدمنت لفظ الشعوب..

يريد فقط أن يتحير .. أن يتردد .. أن يوهم نفسه أنه باق هنا، وبأن السحابة السوداء ستنجب شمسا ومطرا .. لكن التردد  العنيد يناصبه .. لا يريد أن يبقي له ما يدعوه لاختيار البقاء..

يحاول –عبثا- أن يتذكر اسم هذا الوطن .. أن يسترد رسمه .. فتنبت في عينيه جثة وأسلاك وأشواك وردة..

يختلط صمته بعويل المركب  المتحين الرحيل .. ينتزعه من تحايله المكشوف على التردد .. تلتحم خطاه بخطى الهاربين من الأوجاع .. يقيم سرادقات العزاء في أحشائه ثم يصرخ ملء الوجع:

“سوف أرحل..
قد ماتت الأحلام..
قد مات الوطن !!”

اظهر المزيد

‫2 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى