ضعف النظر الإبستمولوجي (4-5)
إبستمولوجيا الابستمولوجيات والعمى عن رؤية الخلاف العالي
أذكر منذ ثمان وعشرين سنة، وأنا طالب في السنة النهائية من مرحلة التحصيل الجامعي الأساسي، أنني أنجزت بحثا صغيرا في موضوع “إبستمولولجيا الابستمولوجيات”. فخلال ثلاث سنوات متتالية تعرفنا على إبستمولوجيا العلوم الرياضية والطبيعية. وكانت الهموم الإيديولوجية خارج الدرس الابستمولوجي مثل ضربات المطرقة، ولكن صداها يصل إليه بين الحصة والأخرى.
أيقظتني ضربات المطرقة. وتنبهت من سحر الكلمات والأشياء، وكارزمية المفاهيم الابستمولوجية[1]، على ضجيج التضارب في “حدودها” و”آليات تشغيلها” و”ثمارها المعرفية والاجتماعية”. وأدركت على حين غفلة من أهل الفلسفة أن “أم العلوم” بعد أن عقها أبناؤها، وتنكروا لها، وأعلنوا انفصالهم عنها تباعا، وأمطروها بالنقض والشتم، لم تمت. بل جددت شبابها، وغيرت اسمها. ونثرت من أنفاسها في روحهم “الجديدة”. ألم يقل باشلار: “داخل كل عالم فيلسوف نائم”؟! أليست الممارسة الإبستمولوجية إذن ممارسة فلسفية بامتياز؟ ألسنا أمام “مذاهب” إبستمولوجية في كل مفهوم أو قضية؟ فقررت بحدس الباحث “القارئ” أن أقترح إبستمولوجيا للإبستمولوجيات. فكان ما كان مما لم أعد أذكر منه إلا زوبعة بقيت أصداؤها تزاحم في أعماق ذاكرتي أصداء ضربات المطرقة الإيديولوجية، وضجيج المفاهيم الابستمولوجية.
كانت ضربات المطرقة قد كسرت ظهور كثير من المثقفين. وكان كثير منهم أيضا قد سحرته كارزمية المفاهيم. وكان منهم من جنح إلى الابستمولوجيا الفرنسية، واختار منها البنيوية الارتقائية أو التكوينية أو التاريخية على خلاف بين المترجمين، التي عرف بها جان بياجيه، ويدعمها بمفاهيم باشلارية، كما فعل حسن عبد الحميد، أو يضيف إليها مفاهيم فوكوية، كما فعل محمد عابد الجابري. وهي مفاهيم يعلم الجميع أنها كانت موضع خلاف بين الفرنسيين أنفسهم. بينما ذهب فريق آخر إلى الإبستمولوجيا الأنغلوسكسونية، بمدارسها الوضعانية أو التجريبية أو البراغماتية أو التداولية. ألسنا في حاجة إلى إبستمولوجيا الإبستمولوجيات.
ولم يحسم هؤلاء جميعا في نجاعة هذه الأدوات الابستمولوجية، ولا عللوا على الأقل سبب اختيارهم لبعضها دون بعض، ومدى إمكانية نقلها من المجال المفهومي الغربي، ومن الموضوعات التي درست فيها، وهي الرياضيات والطبيعيات، ونادرا ما استعملت في العلوم الإنسانية، إلى موضوعات غريبة عنها في المضمون والزمان والمكان، أعني: موضوعات العلوم الإسلامية التي بلغت لائحتها عند المؤرخين إلى أزيد من ثلاثمائة علم. فلو أنهم أخذوا بالمفاهيم الابستمولوجية من معادنها، ودققوا فيها بنظر ابستمولوجي ثاقب، لكانوا أكثر تواضعا علميا. ولعلموا أن هذه الإبستمولوجيات لم تستطع بعدُ أن تحدد موضوعها ومناهجها، ولم تحسم في طبيعة اليقين العلمي فيها، لتكون علما كالعلوم الطبيعية. وهذا أمر بعيد وغير مطلوب على الحقيقة. أعني ليست الابستمولوجيا علما طبيعيا فيشترط فيها شروطه المؤسسة له. بل هي نظر داخل في أحسن الأحوال تحت مسمى العلوم الإنسانية، إن لم نرد الإقرار بأنها نظر فلسفي يخاطب الفيلسوف النائم في العلم، فيوقظه، ليكتسب العلم وعيا بذاته، ما دام العلم على ما يقول هيدجر: لا يفكر في ذاته.
بالطبع، عبارة “إبستمولوجيا الإبستمولوجيات” تدعو من كان له “نظر إبستمولوجي” صحيح، إلى التساؤل عن حقيقة هذه الإبستمولوجيا العليا: هل تحمل نفس خصائص الإبستمولوجيات التي هي موضوعات لها، فتصبح مثل مجموعة المجموعات التي تشتمل على نفسها، فنحتاج إلى إبستمولوجيا أعلى منها، وقد يفضي بنا هذا إلى التسلسل أو الدور؟ أم أنها لا تحمل نفس خصائص تلك الإبستمولوجيات، فكيف نعلل تسميتها باسمها مع أنها لا تحمل نفس مضمونها ولا خصائصها؟
دليل التسلسل عالجه القدماء بافتراض علة أولى تقف عندها السببية. فلنفترض إبستمولوجيا الإبستمولوجيات نوعا من الإبستمولوجيا العامة التي هدفها البحث في الخلاف العالي بين المداخل والمناهج والمذاهب الإبستمولوجية. وحينئذ لا يكون القصد من هذه الأسئلة الطعن في أهمية الممارسة الابستمولوجية، بالنظر إلى تعدد مداخلها واتجاهاتها. ومتى كان التعدد عيبا في العلم؟ وإنما الغرض تنبيه دعاة “نقد التراث العلمي العربي” أو “العقل الإسلامي” أو “العقل العربي” باستغلال المفاهيم والأعلام الإبستمولوجية، إلى أن ما يفعلونه هو أسوا أنواع الاستغلال اللاعلمي للمعارف العلمية. إنهم لا يبصرون الخلاف العالي بين الابستمولوجيات التي اختاروها منهجا للدرس التراثي، مثلما لم يبصروا الخلاف العالي في العلوم الإسلامية موضوع الدراسة. وقديما قال القدماء: لا يشم رائحة العلم من لا يعرف الخلاف العالي.
(يتبع…)
[1] – يتحدث دولوز عن شخصية المفاهيم. ومع أني لا آخذ بمذهبه في تفسير العبارة، ولكني آخذها بمعناها اللغوي. فالمفاهيم تولد وتكبر وتموت كالكائن الحي. ولكنها أكثر من ذلك قد تبلغ من تأثيرها في أتباع من يتبنونها تأثير الشخصية الكارزمية في أتباعها.