فلسفة وأخلاق

ضعف النظر الإبستمولوجي (1-5)

مقدمة

بدأ النظر في التراث العلمي الإسلامي منذ فترة غير يسيرة على يد المستشرقين الذين كونوا مدرسة بارزة، اختلفت فيها الرؤى والمواقف في قضايا مهمة، أبرزها يتعلق بالقيمة العلمية لما أنجزه المسلمون وأهميته في التاريخ العلمي العام، وكان هذا النظر أكثر التصاقا بتاريخ العلوم من الإبستمولوجيا. وظل الأمر على هذا النحو على يد المدرسة الإسلامية في تاريخ العلوم بفضل علماء ركزوا جهودهم على تحقيق النصوص العلمية التراثية والتعريف بها، وبيان الإضافات النوعية التي قدمها المسلمون لتاريخ العلوم.

ولكن “النظر الإبستمولوجي” في هذه المعارف العلمية لم ينشأ إلا في فترة متأخرة، بعد التطورات في البحث الإبستمولوجي في الغرب نفسه، واهتمام شعب الفلسفة والعلوم الإنسانية في العالم الإسلامي بهذا النحو من النظر، ويبدو أن اطلاع أساتذة الجامعات على التيارات الإبستمولوجية الغربية وتطبيقها على الفكر العلمي الإسلامي الذي لم يشهد حركة علمية مواكبة، ثم تضخيم هذا النظر الإبستمولوجي لدرجة جعله المنهج الوحيد لدراسة الفكر الإسلامي بكل اختصاصاته، ودون مراعاة شروط هذا المنهج وحدوده، ولا خصوصية الموضوعات المدروسة وخصائصها، كان بداية الإصابة بمرض (قصر النظر الإبستمولوجي) الذي تفاقم عند بعض أشباه الباحثين حتى أصيبوا بالعشى والعمى، حتى لم يعودوا يرون فرقا بين أبسط المفاهيم العلمية المستعملة. ويبدو أنه مرض عام لا يخص مجال البحوث المشتغلة بتاريخ الأفكار في العالم الإسلامي على ضوء المنهج الابستمولوجي، بل عامة بأغلب مناهج التفكير والبحث في التراث الإسلامي عامة، والتراث العلمي منه خاصة.

1- من استعارة العين إلى عتمة البياض: تشخيص عام للنظر الفلسفي

تبدو استعارة العين ـ إذن ـ مهمة جدا، في تاريخ الأفكار، علمية كانت أم فلسفية. فككل أمراض العين الحسية، حيث تصيب الجسد كله، فإن أمراض النظر العقلية تصيب الجسد الثقافي العام للمجتمع. والعقل كالعين بالغ الحساسية إزاء الأمراض والعدوى، إذا أصيب بها فقد وضوح الرؤية ودقة الملاحظة، وفقد معهما كل متعة تحملها إليه رؤية الأشياء الجميلة، ولكنه مثلها أيضا إذا بلغ الدرجة العالية من صحة الرؤية تبدو له الأمور في غاية الدقة والجمال. ولأمر ما استعمل ديكارت استعارة النور ( العقل نور)، فبه يكون الوضوح والتمايز في الإدراكات المعرفية، وحين استعمل جون لوك استعارة اللون الأبيض (العقل صفحة بيضاء) للدلالة على الطابع المكتسب للمعارف، فلم يكن البياض هنا إلا كناية عن الوضوح في الرؤية العقلية حتى وإن كانت أدواتها حسية، فهذا من الخصائص المشتركة في الفلسفة الحديثة. ولذلك دشنت (لعصر الأنوار). ولم يكن هؤلاء المؤسسون يظنون أن استعارة البياض تتحول إلى سواد قاتم في الرؤية سببه سطوة بياض يغطى شبكية العين العقلية مثلما يغطي الغلوكوما أو الماء الأزرق Glaucoma[1]. الذي يصيب العصب البصري بالتلف فتفقد العين قدرتها على الأبصار تدريجيا.

إننا نعاني أيضا من موجة انتشار لأمراض ضعف البصر العقلي في ثقافتنا، والمرتبطة بأخطاء الانكسار Refractive Errors ، كالعمش amblyopia  أو العين الكسولة” Amblyopia – Lazy eye ، حيث تنخفض الرؤية في إحدى العينين لأن العين والدماغ لا تعمل معا بشكل صحيح. يبدأ العمش الفكري في مرحلة مبكرة من حياة المثقف، عند مرحلة التحصيل الدراسي أو الجامعي، وحين لا يعالج في تلك المراحل المبكرة فإنه يستفحل، وقد يؤدي إلى إعاقة دائمة في رؤية إحدى عيون التفكير السليم. ثمة أيضا من حالات اللابؤرية astigmatism التبصرية، وهي في البصر الحسي رؤية مشوهة في جميع المسافات، مما يسبب رؤية ضبابية أو مشوهة. كما توجد حالات كثيرة من الضمور البقعي[2] Macular degeneration، وهو تعبير عن شيخوخة في الفكر تصاحبها نتائج مدمرة على مستوى الرؤية الثاقبة والمركزة للتفاصيل الدقيقة. فيبدأ خلط القيم، وتداخل المفاهيم، ويترجم كل ذلك في وصل ما حقه الفصل، والفصل بين ما شأنه الوصل، وسيطرة الأحكام العامة على القول التخصصي الدقيق، والغرق في خضم من النقائض الفكرية التي تنتهي بالعمى العقلي المطبق.

منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي بدأ تطبيق المنهج الإبستمولوجي، بالمغرب والمشرق معا، وكانت الأعراض الخطيرة لهذه الأمراض المذكورة ظاهرة منذ البداية. حتى إن أحد هؤلاء “الناظرين” من المشارقة ليجرؤ على القول بأن النظرية القياسية الأرسطية التي تبناها الغزالي، هي الشرط الضامن للعقلانية الشرعية في الفقه الإسلامي، وذلك تطبيقا في نظره للابستمولوجيا الارتقائية عند جان بياجي والابستمولوجيا  التاريخية النقدية  عند باشلار[3].

وما هو في الحقيقة إلا “عمى إبستمولوجي” مزمن، لم يعد بسببه الباحث قادرا على فهم الإبستومولوجيتين معا، من حيث المنهج، ولا فهم النسق الفقهي الإسلامي، وأنحاء تطوره، وخصائص العقل الذي أنتجه من حيث الموضوع.

ثم يذهب غيره من المغاربة مذهبا لا يدل إلا على أن صاحبه كان من أكثر هؤلاء “المفكرين” إصابة بهذه الرؤية الابستمولوجية المشوهة في جميع المسافات، عندما وضع نظارة إبستمولوجية يمناها من بياجي واليسرى من باشلار، وإطارها مصنوع من  لدائن بنيوية، ووضع الكل على عدسة جدلية، ليصحح بكل ذلك أخطاء الانكسار العقلي في رؤيته إلى مساحة شاسعة تمتد في الزمان القرون المديدة، وترتاد في المكان المساحات البعيدة، وتشغل في الأفكار والنصوص جبالا شاهقة من الأوراق، شملت العقائد ومذاهب الفكر والفلسفة والعلم والفقه والسياسة والأخلاق[4].

ولقد أعجبني كثيرا ما فعله الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي، وهو من شيوخ الفلسفة الإسلامية المعاصرة، في كتابه “صونا للفلسفة والدين”[5] من تشخيص لأهم أعراض المرض العضال في فكرنا الفلسفي المعاصر في العالم الإسلامي[6].

ثمة إذن موقفان كبيران:

  1. أصحاب العلاج الإبستمولوجي: وهو في نظره “تغابي”(من الغباء) لأن أصحابه يدعون التحليل والحداثة في عصر ما بعد الحداثة. فهو موقف تقليدي ماضوي.  وله فرعان كلاهما من بقايا الماركسية:
  2. 1. فرع المنتسبين زورا إلى الابستمولوجيا وتاريخ العلوم: فهم خريجو آداب ينخرطون في نقاشات علمية يجهلونها (علوم الرياضيات والطبيعة) بسلاح لا يعرفون أنه ينتمي إلى جنس من أعقد أجناس العلوم الإنسانية (وهو الإبستمولوجيا).
  3. 2. فرع المدعين زورا تطبيق المنهج العلمي الوضعي على الدراسات الحضارية والتاريخية:وهم خريجو آداب ينخرطون في نقاشات علمية يجهلون قواعدها وحدودها (الدراسات الأنتربولوجيا والاجتماعية) بسلاح لا يفقهون أنه ينسب إلى الترجيح لا إلى التحقيق.
  4. أصحاب العلاج الهيرمينوطيقي:وهو في نظره تذاكي (ادعاء الذكاء) لأن أصحابه يدعون انتسابهم إلى ما بعد الحداثة، وهم يفكرون بمنطق ما قبل الحداثة: منطق يتجاهل “النسبية المطلقة” التي تقوم عليها ما بعد الحداثة. ولهذا الموقف، كما للسابق فرعان:
  5. 1. فرع ” جماليات الأدب” والنقد:وهم يتكلمون في تاريخ النقد والفن الحي بكلام مضمونه أفكار ميتة، الفن الحي “ليس فيه من الثوابت الكلية ما يقبل التعميم إلى بهيم الكلام في التعميم والترميم”[7].
  6. 2. فرع المدعين زورا تطبيق المنهجية التأويلية على الدراسات الثقافية والدينية:وهم يجهلون مسلمات هذا العلم وقواعده، ولا يملكون سلاح العمل به وفيه، وهو (الدراسة الميدانية) بدل الركون إلى (التقليد البليد بمنطق المقايسة السخيفة) بين سنن ذات توثيق تم نقدها وتحقيقها بالمتواتر مع النص المركزي الذي دارت عليه، وبين سنن فاقدة له، ولم يتم نقدها وتحقيقها بالتوازي مع نصها المركزي، بل بعده بمئات السنين[8]. فأي مقايسة هذه إذن؟

تتخذ هذه الأصناف  الأربعة في دعواها الانتساب إلى الفكر النقدي باسم التنوير، علما بأن الغرب نفسه لا يعرف بأصحابها “مهما كان مقدار تفانيهم في الحرب على الذات”(ص11). وذلك من باب (انزع جلدك حتى أتعرف بك) [9].

2- تشخيص خاص لضعف النظر[10] الإبستمولوجي:

يبني المرزوقي هذا التشخيص على سؤالين[11]:

↵ الأول: ما دلالة الكلام الإبستمولوجي من دون تكوين في العلوم الطبيعية والرياضية يعتد به؟

↵ الثاني: ما دلالة الكلام الإبستمولوجي في الحضارة والدين من دون تكوين في العلوم الإنسانية يعتد به؟

وبيِّنٌ أن هذين السؤالين يدوران على النوعين الأول والثاني من الموقف الأول المشار إليه أعلاه، وهو موقف أصحاب العلاج الإبستمولوجي، وهما سؤالان مهمان جدا بالنسبة لمؤرخي العلوم والباحثين في فلسفتها وإبستمولوجيتها، حقا إن النظر الإبستمولوجي يملك ضرورة علمية وتاريخية مهمة في عملية بناء العقل الإسلامي. وهو أمر لم يثره الدكتور المرزوقي لأنه أذكى من أن ينكره، ولأن ما يشغله في هذا السياق ليس المبحث في مبررات الاشتغال العلمي وأنحاءه، بقدر ما يهمه الأعراض المرضية القاتلة التي أصابت المشتغلين بالمعرفة العلمية، أيا كان مجال اختصاصها.

(يتبع)


[1]  ـ ويسميه المغاربة بمرض (الجلالة) وهي لغة فصيحة مشتقة من الأصل الثاني لمادة (جل) وهو شيء يشمل شيئا، مثل المجلل وهو الغيث الذي يجلل الأرض بالماء والنبات، معجم مقاييس اللغة لابن فارس، دار الحديث، القاهرة، 2008م، ص 152. وأما تسميته بالمياه الزرقاء فإنما المرجح أن تكون من تسمية المرض ببعض أعراضه، لأن المريض يشاهد أشياء زرقاء حول مصدر الضوء، فاختار له الإغريق لفظ Glaucoma الذي يعني عندهم الشلالات الزرقاء. ويبدو أن الاستعارة هنا تأخذ كل أبعادها: فقد فاض الماء الأزرق على العين من كثرة رؤيتها للعالم والأفكار والأشياء من عدسة الرجل الأبيض البشرة والأزرق العينين، لا من الرؤية الطبيعية المفتوحة.
[2] – اضطراب العين المرتبط بالشيخوخة والنتائج المدمرة في الرؤية الثاقبة والمركزة. إنه مرض يؤثر على البقعة، والجزء المركزي لشبكية العين التي تسمح برؤية التفاصيل الدقيقة.
[3] -المقصود بذلك حسن عبد الحميد (مراحل الارتقائية لمنهجية الفكر العربي الإسلامي)، منشورات حوليات كلية الآداب- جامعة الكويت- الحولية8، الرسالة44، 1987. انظر مثلا: (ص9)، 27-28،54
[4] – المقصود بذلك محمد عابد الجابري،  فقد زعم أنه يستفيد من الإبستمولوجيا التكوينية لبياجي ومن إبستمولوجية باشلار واللاشعور المعرفي عند فوكو، ومن المدرسة البنيوية، فضلا عن المنهج الجدلي الذي شغله منذ كتاباته المبكرة في فترة السبعينيات من القرن الماضي. وأراد بكل ذلك الخليط أن يفهم القرآن، وأن يقرأ التراث العربي كله، قديمه ومعاصره.
[5] – صدر عن الفرقد دمشق 2007
[6] – قد لا نوافقه الرأي في بعض الآراء والمقارنات، ومن ذلك الصورة المبالغ فيها التي أعطاها للمنهج النقدي عند الغزالي، ومقارنته بين لحظة الغزالي ولحظتنا، وقوله إن ثمة تناظرا بين لحظتنا التاريخية هذه وما ساد في لحظة الغزالي من تيارات: فما يناظر الباطنية الدينية في لحطة الغزالي هم في لحظتنا أدعياء فلسفة التأويل أو الهيرمنيوطيقيون، من أصحاب تأويل الخطاب الديني والأدب خاصة. وما يناظر الظاهرية الدينية في لحظته هم في لحظتنا أدعياء فلسفة العلم أو الإبستمولوجيون من أصحاب تحليل الخطاب الفلسفي والعلمي (ص9). ولكن الإطار العام للتشخيص يقارب الصواب في أغلب جوانبه.
[7] – صونا للفلسفة والدين، ص 10.
[8] – صونا للفلسفة والدين، ص 11.
[9] – صونا للفلسفة والدين، ص 11.
[10] – الاصطلاح مني(إ. ن. الجابري)، والمرزوقي يبقي الاسم عاما (أعراض المرض)
[11] – صونا للفلسفة والدين، ص 11-12.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى