فلسفة وأخلاق

ضعف النظر الإبستمولوجي (3-5)

عدم رؤية التساؤلات

من علامات ضعف البصر الإبستمولوجي في دراسة الفكر الإسلامي وتراثه الحضاري، عدم القدرة على ملاحظة الإشكاليات الإبستمولوجية التي تتضمنها هذه الدراسة، والأسئلة الحقيقية التي تجمعها. لقد ظل الفكر الإسلامي وتراثه الحضاري لفترة طويلة موضوعا للدراسة أو للتفرج، أعني لفعل “التهديم الذي بدأه الاستعمار وعلم الأجناس” كما يقول عبد الكبير الخطيبي[1]. الدراسة محاولة لإدراك موضوع وضع مبدئيا موضع العدو، والتفرج محاولة وضع التراث في موضع الفلكلور والاحتفالات والرقص الشعبي.

لذلك وعلى الرغم من أن علم الدراسات الإسلامية (الإسلامولوجيا L’islamologie) يمتد إلى جذور يتداخل فيها الاستشراق والاتنولوجيا والدراسات العربية الشرقية من قبل المؤسسة الغربية، فإن محاولة  صياغة تساؤلات إبستمولوجية جذرية حول هذا العلم ما زالت ضعيفة عموما، رغم امتداد حجم هذه الدراسات في التاريخ والجغرافيا الثقافية. حتى أصبح مثقفو البلاد الإسلامية يحملون راية الإسلامولوجيا.

ما هو هذا العلم إذن؟

إن اصطلاح العلم في كثير من الاستعمالات الإبستمولوجية المعاصرة يشير إلى ممارسة معرفية قد حددت موضوعها ومنهجها ونتائجها. فهل حددت الإسلامولوجيا، موضوعها بدقة. إذا كان “الإسلام” موضوعها، فما هي الحدود الإبستمولوجية لهذا الموضوع؟ هل يتميز بنوع من الخصوصية أم أنه كسائر المواضيع العلمية ولا يتميز عنها بشيء؟ ثم ما هو المنهج الذي يمكن  بواسطته تناول هذا الموضوع؟ وما قيمته النتائج فيه؟

1- هل حددت الإسلامولوجيا موضوعها؟

يعرف علم الدراسات الإسلامية بأنه العلم الذي يتخذ من «الإسلام» موضوعا له. ولكن هذا التعريف يثير أسئلة عديدة: فأي «إسلام» يقصد؟ هل الإسلام من حيث هو «وحي إلهي» أم من حيث هو ممارسة لجماعة بشرية؟ وأي ممارسة تصلح أن تكون موضوعا لهذا العلم بالذات؟ أهي الممارسة الروحية النفسية؟ أم الممارسة الاجتماعية؟ أم باقي أشكال الممارسة الاقتصادية واللغوية والأدبية والنفسية..؟

إن أيا من هذه التساؤلات لا يمكن أن تدخل في إطار علم الدراسات الإسلامية وحده ! فتناول الإسلام من حيث هو وحي أو دين يمكن أن يكون موضوعا لعلم الأديان. أما تناول الإسلام من زاوية كونه ممارسات لجماعة إنسانية فلابد أن يكون جزءا من العلوم الإنسانية المختلفة: يتناول علم النفس الجانب النفسي منه، وعلم الاجتماع  الجانب الاجتماعي منه، وعلم التاريخ وقائعه التاريخية وهكذا.. فعلم الدراسات الإسلامية هو إذن، جزء من الدراسات الإنسانية عامة.

ويبدو أن الحديث عن استقلالية مفترضة له عن سياق العلوم الإنسانية لا ينتج إلا عن ادعاء نوع من الخصوصية التي تميز الممارسات الإنسانية العربية الإسلامية. وهذا يتناقض مع تذويب الإسلامولوجيا في الدراسات الإنسانية. فلقد ولدت العلوم الإنسانية في لحظة ساد فيها شعور فلسفي غربي بضرورة إلغاء الفلسفة، وبأن وجود الفلسفة كان طوال تاريخه دلالة على وجود شرخ أو فصم في المجتمع البشري. دولوز يؤكد أن الأمريكان ليس لهم فلسفة لأنهم ليسوا في حاجة إليها. والأمة السعيدة فيما يقوله معلقا على جوبوسكي: ليس لها فلسفة، فأهلها يمتلكون الهدف الأبعد الطوباوي لكل فلسفة. الفلسفة تحدث عن تمزق وشرخ وعن ضياع. والفيلسوف ليس يرقق الفصم بين الإنسان والخارج. الفيلسوف رحال إلى عالم الأموات، لذلك فهولا يعرف، فلو أنه عرف حقا لا متنع بدءا عن الرحلة، يقول بلانشو «إذا عرفت منعت اللقاء». إن موت الفلسفة ينتج عن طابعها المذهبي. ما الفلسفة إلا «مشي» على ما صورها أرسطو، أي أنها بحث مستمر، لكن، عندما تصل تموت، تصبح نظرية. وكل نظرية تمارس نوعا من الغلطة. فالقناعات الراسخة في الفلسفة غلظة. لذلك انفرط عقد الفلسفة منذ أن بدأ أبناؤها يستقلون واحدا فواحدا: الرياضيات، فالفلك، فالفيزياء، فالبيولوجيا. لقد أوشك أن يسود شعور بموت الفلسفة، وبقاء الإنسان. هنا ولدت العلوم الإنسانية.

لكن هذه العلوم، على ما بين ميشيل فوكوه وغيره، مارست التمزيق والتقطيع على موضوعها: الإنسان. فالإنسان المتكلم صار موضوعا للفيلولوجيا واللسانيات، والإنسان المفكر أصبح موضوعا لعلم النفس، وهكذا… لذا يرى فوكوه إنها ليست علوما على الإطلاق. كما رفضها أيضا بياجيه والوضعيون الجدد وكثير من الإبستمولوجيين. إنها ليست علوما، لأنها لم تحدد موضوعها. فالعلم على ما يقول بياجيه «يعطي لنفسه موضوعا محددا، ولا يبدأ بالفعل، كميدان علمي إلا عندما ينجح في مثل هذا التحديد»[2].

لم يعد الإنسان في العلوم الإنسانية موضوعا بريئا من التيه الفلسفي. فها هو الصراع العنيف بين دعاة المناهج الموضوعية والمناهج الذاتية في تناول ما يسمى «الظاهـرة الإنسانية»، بل داخل المناهج الموضوعية أو الذاتية نفسها. ففي علم النفس مثلا، نشهد ذلك الصراع الطويل بين تيار يحاول «بيلجة» (من البيولوجيا) هذه الظاهرة، وتيار يدعو إلى أنسنتها بحجة أن الظاهرة النفسية ظاهرة غير معطاة تماما، وتتميز بخصوصية، وهي تتضمن عناصر الوعي والشعور والإرادة، وتختلط فيها الغائية بالسببية، وتتدخل فيها أحكام القيمة.

هل لعلم الدراسات الإسلامية موضوع؟ إن موضوعها مختطف مرتين: مرة من قبل العلوم الإنسانية، ومرة من قبل الغلظة الفلسفية التي اكتسحت حقول العلوم الإنسانية. فلننعطف على سؤال المنهاج.

2 – هل حددت الإسلامولوجيا منهجها؟

تحديد الإسلام بأنه «ظاهرة إنسانية» جعل الإسلامولوجيا تتناوله عبر منهاج العلوم الإنسانية المتنوعة. ومفهوم «الظاهرة» دفع إلى سيادة نوع من الاعتقاد بأن منهج دراسة الظاهرة الإنسانية-الإسلامية يجب أن تنطلق من اعتبار «البشر كحقل اختباري»[3]، أي باعتباره موضوعا قابلا للتجريب. لذا ازدهرت العلوم الاجتماعية والتاريخية. وكان أولها المنهج التاريخاني، ثم بعده المنهج المادي التاريخي. فالبنيوية، فالمناهج اللسانية فضلا عن المنهج النفسية، والمنهجية الأكسيوماتيكية. وهي مناهج لم تستطع إلى الآن التخلص من مفارقة رئيسية هي أنها لم تستطع توحيد الرؤية بصدد الموضوع المدروس رغم أنها لم تستطع التخلص من ادعاء الكونية والموضوعية. فكيف ينسجم هذا الادعاء مع التشتت في الرؤية، والتضارب في الوسائل المنهجية؟

فالمنهج التاريخاني اتخذ صورتين متعارضتين على الأقل: إحداهما استشراقية ترى أن الفكر الإسلامي ليس سوى نقل للمسيحية واليهودية والفلسفة اليونانية وباقي التيارات الخارجية. والثانية: إسلامية يمثلها مفكرون من أمثال مصطفى عبد الرازق وتلاميذه ليؤكدوا ما في الدفاع عن علم الكلام ونفي الفلسفة والتصوف من مخاطر معرفية جسيمة.

إن المنهج التاريخاني يقوم على خطوات منهجية أهمها:

–       جمع الوثائق وتحقيقها.
–       وصفها وتصنيفها.
–       دراستها وتحليلها.

وإذا كانت الخطوة الأولى والثانية تعبر عن مجهود علمي واضح، فإن الدراسة والتحليل لا يمكن أن تكون مستقلة عن الذات. وبالنسبة للاستشراق فالأمر واضح إذ كان لابد أن ينخفض من المفهومي إلى النفعي، ومن العلمي إلى الاستغلالي والارتهاني[4].

وأما المنهج المادي التاريخي فقد نشأ مع محاولات الاستشراق السوفياتي بعد الثورة البولشفية احتواء العالم الثالث أو تصدير الثورة إليه. فمع تصاعد المد الاشتراكي في الصين والبلاد الشرقية شرع ماكسيم رودنسون[5]، وجان شينو، وجوزيف نيدعام، وميكويان.. في التأكيد على التغيير في ذلك التصور الذي خلفه ماركس حول ما سماه «ركود»  نمط الإنتاج الآسيوي[6]. ولم يكن يرى دعاة المنهج المادي التاريخي في الحضارة الإسلامية نحو بندلي جوزي، وحسين مروة، وعباس صالح وغيرهم، سوى وجهة الاشتراكي العقلاني المادي مع الإلحاح على أن ما سواها لا يمثل سوى الوجه الظلامي للحضارة الإسلامية. وكما كان التعدد والتناقض سمة المنهج السابق فقد صار أيضا سمة للمنهج المادي التاريخي، وخاصة بين الصورة الأرثودوكسية المرتبطة بالمركزية السوفياتية والصورة التجديدية المرتبطة بالاشتراكية الأوروبية.

ثم قامت محاولات كثيرة في التجديد المنهجي: باستغلال المنهج السيكولوجي والبنيوي اللسني والمادي التاريخي نفسه والفينومينولوجي والاكسيومي الرياضي. فقد ألح علي زيعور على دراسة الذات العربية والمنحى الصوفي فيها دراسة سيكولوجية بمنهج التحليل النفسي مركزا على دور «العقل والحرية» في تحقيق «إعادة توازننا الحضاري»، هذا العقل وهذه الحرية لا يوجدان إلا في «حقل حضارة القوى» ذاته. وكأن المركزية الأوربية قوة حتمية، فأي رفض لها إنما يعبر عن نرجسية مشرقية في مواجهة النرجسية الغربية على ما يرد به صادق جلال العظم على إدوارد سعيد وكتابه «الاستشراق». ويرى أركون أنه لابد من إخضاع الإسلام للمنهج البنيوي ـ التاريخي، الذي يؤكد على أن «مفهوم العقل الإسلامي» يمكن الكشف عنه، وكونه مقدسا لا يمنع من إخضاعه للبحث العلمي الإنساني. وهو بحث يقوم على جمع النصوص وتصنيفها والاستعانة بالأدوات للكشف عن دلالات النص وتكوين نظرية في تحولات المعنى.

على أننا مع أركون، نلاحظ على أنه لا تناقض بين ما تذهب إليه الماركسية الأصلية، لا الماركسية التي مورست بطريقة نضالية سياسية ـ وبين ما تذهب إليه البنيوية من ضرورة «نقد المقدس» وممارسة «الشك» على طريقة ماركس ونيتشه في القرن التاسع عشر[7]، أي اقتداء بنموذج الفكر الغربي على حد تعبيره.

إن علم الدراسات الإسلامية تتصارع فيه مناهج متعددة، فضلا عما سبق ذكره، كالمنهج الفينومينولوجي الذي يصر على ضرورة العودة لا إلى ماركس فقط، بل أن نعود إلى ما هو أكثر جذرية: إلى فيورباخ[8]. حتى نتمكن من وضع الله في العالم، والوحي في الواقع. وأخيرا يأتي حسن عبد الحميد ليلغي كل هذه المحاولات، داعيا إلى التجديد المنهجي على أساس تطبيق المنهج الأكسيوماتيكي الرياضي، الذي يلح ـ في نهاية التحليل ـ على ضرورة قبول: «الحلول العصرية لمشكلات المجتمعات الإسلامية»[9] عبر «النقل الثقافي الحضاري عن الغرب»[10] الذي لا يقدر عليه إلا «الإنفتاحيون»[11].

إن علم الدراسات الإسلامية، لا على صعيد الموضوع فقط، بل أيضا المنهج، تفتقر إلى أي استقلالية منهجية، فهي تعتمد على المناهج السائدة في العلوم الإنسانية. هذه المناهج التي أخذتها أيضا عن «نموذج منهجي سابق»[12] هو النموذج الفيزيائي والرياضي، أو المذهب الفلسفي.

لقد تجاهلت الإسلامولوجيا خصوصيتين: خصوصية موضوعها، كعلم إنساني، اعني الإنسان ثم خصوصية موضوعها كعلم يدرس الإنسان في حالة ما. الإنسان من حيث هو موجود في إطار حضارة ودين هما الإسلام. ومن الأكيد أن هذا التجاهل أثر على المنهج المستخدم بشكل حاسم. وها هنا يمكن أن نميز ـ فضلا عن الأزمة المنهجية المشار إليها بين نوعين من  الخلط في الممارسة المنهجية:

1- الخلط الأول بين الوحي والحضارة

فالإسلامولوجيون لا يتساءلون بصراحة: هل الوحي إنتاج بشري حضاري أم العكس؟ أم هناك فوارق بينهما؟ فهم يكتفون بلغة الإشارة التي تحتمل عدة قراءات وتأويلات، قصد إبعاد تهمة «الإلحاد» التي قد يتعرض لها الباحث إذا نص على «بشرية الوحي» رغم الاقتناع الضمني عند البعض بضرورة «نفي المقدس». مما يؤدي إلى اضطرابات منهجية شنيعة، نحو ما نجده عند حسن نفي حيث يعرف الوحي في «التراث والتجديد» بأنه تراث، والتراث وليد الواقع، فهو بعدي[13]، ثم يعود بعد ذلك فيقول إن الوحي قبلي[14].

2- الخلط الثاني: بين المصادر المتعددة: 

       إذ أن البحث الإسلامولوجي مع انه تاريخي فكري وحضاري يتناول اتجاهات متباينة، لم يستطع بعد أن يحدد طريقة للتعامل مع النصوص. فأسلوب المقارنة بين الروايات لا يسلم من خطورة رئيسية، وهي الوقوف أمام تعارضات ضخمة لا يمكن تجاوزها بين المعطيات المدروسة. وهذه المشكلة تضع كل المناهج التاريخية والمادية في خطر. أما محاولة تجاوز هذه التناقضات بمحاولة الكشف عن بنية «نفسية» أو منطق «لا شعوري» وراء التناقضات فإنها محاولة تصطدم بصعوبة من نوع آخر، وهي إلغاء الفوارق الفردية أو الاجتماعية وإلغاء التطور الفكري، فضلا عن إسقاط الذات على الموضوع، والتأمل على «الظاهرة» فيغدو الكشف عملية بناء ذاتي محض.

مازالت الإسلامولوجيا إذن ، غير ذات منهج، وادعاء العلمية لا يبعد التدخل الأيديولوجي وما يحدثه من مشاكل منهجية عديدة.

3-   ما هي قيمة اليقين الإسلامولوجي؟ 

 من غير شك أن كل الدراسات الإسلامولوجية نشأت عن رغبة في جعل موضوعها علميا، ولذلك فإن كل دراسة من هذه الدراسات قامت على أساسين. أولهما ادعاء الكونية  Tendance à l’universel . وثانيهما ادعاء الموضوعية. وهما صفتان ملازمتان لما يصطلح عليه بـ«العقلانية» وفي المقابل تم سلب هاتين الصفتين عن باقي الدراسات الأخرى. وهذا ما ينتهي بنا إلى ملاحظة نوع من التعدد المتنافر أو تعدد التناقض والتضاد بين هذه المدارس.

المنهج التاريخاني بحكم انه المنهج الأقدم تاريخا وظل سواء في صورته الاستشراقية أو في صورته الإسلامية، محكوما بنشوة علمية بالغة، نشوة سرعان ما كسرها المنهج الماركسي عندما وصفها بـ«اللاتاريخية» وبالتالي اللاموضوعية، وأن البديل لها هو التحليل الجدلي الذي نشط مع الاستشراق الروسي (بندلي جوزي، وماسينيون.. وغيرهما).

وقد كان جوزي يعتقد أن الطريقة الأسلم لمعرفة تراث المسلمين هو الكشف عن أبعاده المادية. الأمر الذي عمل حسين مروة على ممارسته. وكان ذلك رمزا لمحاولة اكتشاف القوانين الموضوعية الحتمية لسير المجتمعات الإسلامية. لكن سرعان ما انشق هذا الموقف على نفسه. فظهر عباس صالح مركزا على التقسيم السياسي (بين يمين ويسار) وطيب تيزيني على التقسيم الفلسفي (بين مثالية ومادية) متبادلين الاتهامات ومتناقضين بصدد القضايا المطروحة، فما يعتبره البعض مثالية قد يكون عند البعض الآخر ماديا. في حين يلح البعض على رفض هذا التقسيم الثنائي بحجة أنه تقسيم لا علمي ودوغمائي. وهنا نستحضر مشروع الجابري الذي لم يمنعه المنهج الماركسي من الاعتقاد بأن الطريقة البنيوية الأركونية اللسانية لا يمكن تجاهلها قصد تحليل الفضاءات المعرفية أو الأزمنة الثقافية للعقل العربي، وهو أمر سيؤدي إلى انشقاق عنيف في صفوف المنهج المادي التاريخي عندما يقوم البعض مثل عبد السلام المودن ـ في كتابه مقالات من بعيدـ بنقد لهذا المشروع العلمي ورده إلى جذور فلسفة لا علمية ولا عقلية. ولم يكن المنهج السيكولوجي أقل هجوما على المناهج الأخرى وأقل ادعاء للموضوعية والكونية، والعقلانية ذلك أن على زيعور كان يعتبر أن التحليل لنفسي لم يعد منهجا يقبل النقاش، فهو رمز التقدم العلمي العقلاني الغربي، وهو الحل الأوحد لإدراك ماهية الصوفي وعبره لتحليل «المقدس» كما لم يتورع عن توجيه النقد لباقي الدراسات بصورة واسعة النطاق. وبعد ذلك تأتي محاولة المنهج الأكسيومي لتصف كل المحاولات السالفة، وتصفها بأنها «تلقائية» و«عفوية»[15] وأن البديل المطروح هو المنهج الرياضي العلمي الصارم: المنهج الأكسيوماتيكي.

هناك إذن تعدد ينبنى على التنافر والصراع الحاد. وهو ليس «تعددا موضوعيا»[16]، قابلا للتجاوز مع التقدم الزمني، لأنه تعدد نابع من العلاقة المتجذرة بين المشاريع المطروحة، وبين إشكالية النهضة الإسلامية المعاصرة. تعدد يكون فيه الدارس جزء من الموضوع المدروس، والعكس صحيح. هذا الأمر جعل برهان غليون، مثلا يقر في نهاية المطاف بصعوبة تجاوز الصراع العربي المعاصر[17]. وبالتالي صعوبة ادعاء الموضوعية والكونية والإطلاقية والعلمية، كما جعل الفكر العربي اليوم، يميل إلى الاعتراف بالتعددية والتراجع عن الاعتقاد بوحدة المعرفة عندما يتعلق الأمر بالمجال الإنساني الحضاري.

إن ادعاء الموضوعية أمر أصبح مستحيلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومنذ أن أعلنت التجربة الغوسية عن تعدد في تصور المكان، وأعلن إنشتين عن تعدد في تصور الزمان، وصاغ هيزنبرغ علاقات الارتياب التي تدمج الذات في الموضوع. ومعنى هذا أن العلوم الإنسانية، ومنها الإسلامولوجيا ـ مع أنها تنحو إلى تشييء الظاهرة المدروسة ـ فإنها لم تذهب إلى التطور العلمي نحو النسبية، لم تصنع نتائجها ويقينها في موضوع نسبي. والواقع، أننا عندما نتكلم عن النسبية فيما يخص معرفة الظاهرة الإنسانية والإسلامية بشكل خاص، فإننا نلح على أنها ليست كالنسبية في الفيزياء والرياضيات، إنها فلسفية محضة لأن أي تعدد في سياقها، لا ينم عن اختلاف في الفرضيات فقط، بل أساسا عن اختلاف جوهري بين المواقع الأيديولوجية.

كل ذلك أدى إلى نوع من الإحساس بوقوع «كبوة» كما يعبر البعض، أو «أزمة هوية» كما يرى آخرون، أو «أزمة المجتمع العربي» أو غيرها من الأوصاف. بل إننا نعيش لحظة مأساة اغتيال العقل فيما يقول «برهان غليون». وهي مأساة دعت إلى ضرورة ممارسة «النقد المزدوج» على التراث والغرب معا. أجل فإلى الآن لم تفعل تلك الدراسات شيئا سوى أن عملت على «استغلال التراث» قصد تحقيق مصالحها الإيديولوجية. فهل عمي النظر الإبستمولوجي عند دارسي التراث الإسلامي عن رؤية كل هذه التساؤلات؟

(يتبع ..)


[1]– يقول الخطيبي: “إننا بمعنى ما نتابع التهديم الذي بدأه الاستعمار وعلم الأجناس”. النقد المزدوج، منشورات الجمل، بغداد-بيروت، 2009، ص 19.
[2] J.Piaget – Introduction à l’épistémologie génétique. Tome 1.P.U.F. 1973 –P :13
[3] – خليل احمد خليل. الاستشراق: مشكلة معرفة أم مشكلة اعتراف بالآخر ـ مجلة الفكر العربي ، العدد 31، السنة 5 ، 1983، ص 55
[4] -نفس المصدر والمعطيات
[5] -انظر M. Rodinson : Islam et capitalisme
[6] -حول نمط الإنتاج الآسيوي» مجموعة من المؤلفين ـ ترجمة جورج كرابيشي ـ دار الطليعةـ بيروت.»
[7] – محد اركون، الإسلام والعلمنة، مجلة «دراسات عربية» العدد 5ـ مارس 1986ـ ص37.
[8]– جاءت هذه الدعوة في مختلف دراسات حسن حنفي. يقول بصريح العبارة: «للأسف انتقل البعض منا إلى الماركسية دون ان يتظهر في «قناة النار»[ = فيورباخ (بالألمانية) مقطع من مقالة نشرت في عالم الفكر بعنوان: الاغتراب الديني عن فيورباخ ـ العدد3 ـ سنة 1979.
[9] – حسن عبد الحميد: محاولة نظرية الحضارة الإسلامية ـ المجلة العربية للعلوم الإنسانية ـ العدد22 ـ المجلد السادس ـ ربيع 1986.
[10] – نفسه: ص34.
[11] – نفسه ص 27.
[12] – محمد وقيدي: العلوم الإنسانية والأيديولوجييا ـ دار الطليعة ـ بيروتـ 1983ـ ص77.
[13] – حسن حنفي: التراث والتجديد ـ بيروت ص 11.
[14] – نفسه ص 77.
[15] – حسن عبد الحميد ـ سبق ذكره.
[16] – محمد وقيدي: العلوم الإنسانية والأيديولوجيا ـ ص 46.
[17] – في حوار أجرته معه مجلة العالم، العدد 159 ـ السنة 1987.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى