مراجعات

الكفتجي والغشيم

(1)

السوق الثقافي كغيرها من الأسواق، تتعدد فيها أنماط المنتجين الذين يقومون بدور الباعة، كما تتنوع فيها خبرات المتلقين الذين يقومون بدور المشترين. نحن نكتفي في هذا المقام بإلقاء الضوء على نمطين جديرين بالاهتمام من أنماط المنتجين للثقافة، والثقافة هاهنا يدخل فيها جميع المنتجات الفكرية بالمعنى العام، سواء أكانت أدبية أم فكرية أم دينية. ونحن نركز هاهنا على الديني.

ترجع أهمية هذين النمطين، وإلقاء الضوء عليهما: لكونهما يمثلان نوعًا من التوسط البيني، بين المنتجات الثقافية الجيدة، والرديئة. إنهما يقدمان، بصورة متفاوتة بالتأكيد؛ منتجًا مغشوشًا، يروج على المتلقي العادي، وقد يخدع في مستويات معينةبعضَ الخبراء أيضًا. إنهما النموذجان اللذان أسميهما: الكفتجي والغشيم. وهذه التسمية أيضا من معجمي الخاص الذي أعتقد أنه قد يبدو ظريفًا في بعض الأحيان.

(2)

مهنة الكفتجي، ومع كامل التقدير بل الحب الخاص لها؛ تقوم في الأساس على مهارة تكرارية تلقائية لا تتسم بكثير من الفنية والدقة. يقوم الكفتجي بجمع خلطة مختلفة من اللحم مع أشياء أخرى، ثم يقوم بـ تصبيعهاعلى السيخ لتأخذ الهيئة المطلوبة للإنضاج. ونظرًا لأنه يبدو أن تلك العملية لا تتطلب قدرًا كبيرًا من الدقة أو المهارة؛ فإنه يشيع في العامية إطلاق ذلك اللقب على الشخص الذي لا يجيد في صنع ما يتطلب دقة وإتقانًا.

(3)

كثيرًا ما نجزم أن المثقف أو الفقيه الفلاني ينطبق عليه لقب الكفتجي. فمن الواضح أنه يجمع أخلاطًا شتى، دون معرفة كافية بأي نوع منها، ليقوم بعجنها سويًّا، ثم تصبيعها، لتخرج في هيئة شبيهة بالمطلوب، لكنها ليست إياه في الحقيقة. المهمة الأساسية التي كان ينبغي عليه الاضطلاع بها: كانت تحتاج مستوى مختلفًا تمامًا من الإتقان والمهارة والدقة، بعد تحصيل المعرفة وسر الخلطة أساسًا.

قد تصادف كاتبًا في صحيفة، أو وسيلة للتواصل الاجتماعي، أو محاضرًا، يحدثك بوَلَهٍ عن اكتشافه الجديد الذي غاب عن العيون والألباب، وعاش الناس قبله في جنون وتباب. ثم يصدمك هذا الكفتجي بأمر من تافه القول وركيك العلم وردئ الصنع. فقد يطرح عليك بانتشاء أنه تبيّن بعد الفحص والتفتيش أن السنة الآحادية ظنية، وغالب السنة آحادية، فإذن هي ظنية. إنه اكتشاف مبهر بطبيعة الحال، ولكن بالنسبة إليه، وإلا فآحاد طلبة العلوم الدينية المبتدئين يعرفون هذا الاكتشاف المذهل من الصفحة الأولى للكتاب. ولكن صاحبنا الكفتجي ينطلق من ذلك إلى آفاق عريضة تتعلق بسرمديات حجية السنة، وقبضة النص، وسجن التاريخ، إلى آخر ذلك التصبيع.

وآخر يتكلم في ثقة عن بحث فقهي عجيب، توصل من خلاله إلى القول بطهارة الكلب، وإظهار الخفي المدفون في تلك القضية الخطيرة. القارئ يشعر بمفاجأته كما هو تفاجأ تماما. مجموعة من المنبهرين الذين لا يقدرون على الكلام من فرط تردد النفس. المهم أن صاحبنا ينطلق من ذلك إلى رحاب التيسير في الدين، ومسايرة الإنسانية الحديثة، وربما حقوق الحيوان أيضا.

هذا وذاك، وغيرهما مثلهما: مجرد كفتجي، بل أقل، فإن الكفتجي يجيد في عمله ولا يفسده، وإنما كان محل الذم في وصف صاحبنا بالكفتجي لأنه مارس صنعة الكفتة في مجال ليس هو الكفتة. مجال يتطلب قدرًا من الدقة والإتقان والفهم أعظم من ذلك التصبيع.

(4)

وقال لها روحي مطرح ما بتروحي كل مرة
تلك عبارة حلوة من عبارات المعلق الكروي الذي أدخل اللغة الصحافية في التعليق الرياضي: ميمي الشربيني. ربما قد سمعها بعض من أدرك الكرة في التسعينيات، حين كان يقولها لبعض كبار الهدافين الذين تعودت أقدامهم على المرمى حتى كأنها تراه.

وبالفعل فإن المتقنين عمومًاتتولد لديهم تلك الملكة، ملكة الإصابة ومعرفة موضع الإصابة. هذا جيد، ولكن هذه الملكة لا تأتي عبثًا ولا حظًّا مستمرًا، بل إنها تتطلب قدرًا كبيرًا من المِراس والدُّربة، تصبح به مهارتك ملكة راسخة، تروح معها الرمية كما تروح كل مرة. وتلك هي فكرة الغشيم، النمط الثاني الذي يقاسمنا هذا المقال.

(5)

بصفة مبدئية: الغشيم ليس كفتجيًّا. نحن نتعامل الآن مع شخص لديه مقومات جيدة، وقدر لا بأس به من الكفاية والمهارة. الأزمة تتولد من نقص تلك الكفاية وهذه المهارة. لقد عرف سر الخلطة، ولكن هذا ليس كافيًا، فإن الخلطة قد تتغير لأسباب مختلفة، وليس كل مفتاح يفتح كل باب.

الغشيم يقف على نكتة معينة، معلومة، أو آلية، أو إجراء، أو بناء معرفي أو استدلالي معيّن؛ وقد يكون هذا المعروف شيئا دقيقًا يغفل عنه الكثيرون ويزلون بسببه. ولكنه يتمادى في ذلك، ويحسب أنه صالح لكل استعمال. وقد يخرج به ذلك عن الصواب عند الجميع، من حيث لا يدري. تنطبق عليه عبارة مبيعرفش يوقفهاالتي قالها الممثل ممدوح عبد العليم رامي قشوعفي فيلم بطل من ورقإن كنت تذكره.

فبعضهم مثلا قد تعجبه قضية الخلاف السائغ، ومحدداته، وضوابطه. إنه قد (عرف اللعبة)، ومن ثم فإنه يمارسها في أمور خارجه عن حدودها بصورة صارخة، وهو يظن أنه قد حقق تحقيقًا بالغًا في ذلك الموضوع. آخر ينتبه لقضية التراث والحداثة، ويقف على بعض مشكلات القراءة العلمانية والاستشراقية لتلك القضية، وبذلك يكون قد توصل إلى سر الخلطة، التي يستعملها في كل قراءة لا تعجبه للتراث، إما لوقوفها على الجانب الإنساني والتاريخي فيه، أو لمحاولة تطويرها عمومًا. قضايا كثيرة يمكن أن تقاس على ذلك، ويأخذ بعضها رواجًا بحسب الظروف السياقية المختلفة، كنقد فكرة ما، أو شيوع تهمة ما، أو حتى مجاراة موجة ما من الكلام في موضوع أو مجال معين، أو بوجهة نظر معينة، ونحو ذلك. فيطرده ويجاوز به موضوعه أو حدوده.

(6)

إن من أبرز سمات عدم الفقاهة بالمعنى العام للفقاهة-: عدم التمييز بين الفروق .فيعمد الفقيه أو الباحث أو المفكر أو الصانع أو المدير أو اللاعب،..: إلى دليل، أو نظرية، أو فكرة، أو أسلوب، أو حل،.. ، تحقَّق مِنْ نجاحه ونجاعته في ظرف معين، فيعممه في كل ظرف وموضوع، وقد يكون ذلك لأدنى مشابهة، دون تفقه في طبيعة كل ظرف، وأنه لا شيئين يتشابهان بالكلية من كل وجه.

وذلك التمييز بين الفروق نفسه قد لا يتأتى لكل أحد بمجرد العلم والتأمل، فإنه مع طول الممارسة والإتقان، يتولد لدى المتقن نوعٌ من الحاسة الباطنة الخفية التي يقدر أن يميز بيها بين صنوف الموضوعات وأشكالها وأوزانها. هناك شيء في الحقيقة قد تضيق العبارات عن التعبير عنه. ولا يمكن تعليمه بالإلقاء والتلقين. نوع مما قيل إنه كالكهانة عند جهابذة نقاد الحديث، ونوع من أنواع الاستحسان التي قالوا عنها إنها تنقدح في نفس المجتهد وقد لا يقدر أن يعبر عنها، فإنه من المعلوم بالوجدان أن النفوس يصير لها فيما تعانيه من العلوم والحرف مَلَكَاتٌ قارَّةٌ فيها تدرك بها الأحكام العارضة في تلك العلوم والحرف، ولو كُلِّفت الإفصاحَ عن حقيقة تلك المعارف بالقول؛ لتعذر عليها، وقد أقر بذلك جماعة من العلماء، ويسمي ذلك أهل الصناعات وغيرهم: دُربة، وأهل التصوف: ذَوقًا، وأهل الفلسفة ونحوهم: ملكةكما يقول الطوفي، وما يسميه القرافي بالسلوك على طريقة الشارع!

(7)

ولأنه يعسر تفهيم هذا الغشيم ذلك التعليم؛ يقع في التعميم، فيمتد به أمره إلى ما لا تحمد عاقبته، ويتجاوز من دلّه على نوعٍ من الفهم، وقد يزدري غيره ممن هو أعلم منه لأنه لم يصل إلى ما وصل إليه من فتوح.

لقد جسّد ابن تيمية هذه الحالة للمتوسطين في العلوم الذين يبحثون فيما لا طاقة لهم به، معتمدين على مجرد التقليد والاستهوال: ونحن نضيف إلى ذلك ما يتعلق بموضوعنا: وهو الاطراد المخالف لروح العلم وإن كان على قانونه بحسب الظاهر وليس كذلك في نفس الأمر، فإن هذا الاطراد ليس في واقعه أكثر من تقليد لم تستبن حجته الصحيحة التي تستلزم التفريق.

يقول ابن تيمية:
أما المتوسط من المتكلمين، فيخاف عليه ما لا يخاف على من لم يدخل فيه، وعلى من قد أنهاه نهايته.
فإن من لم يدخل فيه = هو في عافية.
ومن أنهاه = فقد عرف الغاية، فما بقي يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قَبِله.
وأما المتوسط = فمتوهم بما تلقَّاه من المقالات المأخوذة تقليدًا لمعظمه وتهويلاً. وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان“.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى