الحوار المعرفيفكرمعتقدات

هل هناك فلسفة إسلامية؟

بما أن الإسلام جوهر ممتد على جميع تفاصيل الحياة؛ فيكون من المشروع أن نطرح سؤالًا من قبيل: هل هناك فلسفة إسلامية حقًّا؟ وهل ثمّ إمكانات للتفلسف في سياق الوحي/ الإسلام؟

تروق هذه الأطروحة – (الفلسفة الإسلامية) – للعديد من الباحثين العرب الفلسفيين، ولاسيما مع بواكير التأريخ العربي للفلسفة من الباحثين المعاصرين، وعلى رأس زعماء تلك الأطروحة الشيخ مصطفى عبد الرازق في تمهيده المحوري لتاريخ الفلسفة الإسلامية، وكذا الدكتور إبراهيم مدكور في الجزء الأول من: (في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه)، وغيرهما كثير من الباحثين العرب في الفلسفة الذين دافعوا عن تلك الأطروحة – إسلامية الفلسفة الإسلامية – بحماس، مع إقرار باحثين آخرين بعدم أصالة الفلسفة الإسلامية، ولكن هؤلاء الباحثين الآخرين ظلوا تحت نير الاتهام بالتبعية للمستشرقين الحاقدين والاستنعاج الثقافي، والحط من العقول العربية الفذة.

ذلك رغم أن هذا الحماس لتلك الأطروحة حول إسلامية الفلسفة الإسلامية؛ لا يجد له أساسًا نظريًّا كافيًا، ويعتمد على جدل مطلق حول أن التشابه الذي لا تخطئه العين المجردة بين مضامين الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليونانية؛ لا يستلزم المساواة أو السببية، وأن الفلسفة الإسلامية اهتمت بموضوعات جديدة في السياق الإسلامي، أو عالجت موضوعات سبق تناولها في الفلسفة الكلاسيكية، ولكن بصورة إسلامية.

وكلا الحجتين غير كاف للزعم بوجود فلسفة كلاسيكية إسلامية بالمعنى الفني. فالفلاسفة الإسلاميون الروَّاد مصرحون بتعظيم الفلاسفة اليونان الأوائل، والأخذ عنهم، وبخاصة أفلاطون وأرسطو، وأنهم قدوات الكمال الإنساني وفي منزلة الأنبياء، واستفادتهم منهم، ونقلهم عنهم؛ أمر لا يحتاج إلى التدليل أو البرهنة. وكون الفلاسفة الإسلاميين خالفوا أرسطو أو أفلاطون أو غيرهما في مسائل، أو فرَّعوا مباحث جديدة، أو حتى موضوعات جديدة؛ فهذا لم تخل منه فلسفة تابعة قط حتى داخل المذهب الواحد.

الفلسفة الإسلامية التي يمكن أن توصف بهذا الوصف حقًّا هي علم الكلام الإسلامي. ولذلك فالمستشرقون الأوائل الذين كتبوا في تاريخ الفلسفة الإسلامية، مثل دي بور، وكوربان، ونحوهما، كانوا مصيبين حين وضعوا الفرق الكلامية الإسلامية ضمن التأريخ الفلسفي للإسلام، وهو ما سار على دربه أكثر الباحثين المحدثين العرب بعد ذلك.

لكن فلسفة المتكلمين تنطلق من الوحي، مستعملةً المنهج العقلي، فهي تهدف لإثبات العقائد الإيمانية والدفاع عنها من خلال المنهج العقلي.

وهذا يختلف تمامًا عن الفلسفة المحضة المنسوبة للإسلاميين -الفارابي، ابن سينا، ابن رشد -؛ فهي تنطلق من العقل والفلسفة الفنية. وذلك بقطع النظر عن محاولة الفلاسفة الإسلاميين التوفيق بين النظر الفلسفي المحض مع المطالب الدينية الواردة في الوحي من عدمه؛ فإن مجرد الاتفاق في النتائج – مع عدم التسليم بطبيعة الحال بالاتفاق في النتائج بين الفلسفة وعلم الكلام- لا يستلزم الاتفاق في المنطلق المصدري أولًا، وفي الآلة الفنية المنهجية والبناء الاستدلالي ثانيًا.

فقط الكلام الإسلامي هو الذي انطلق من الوحي باعتباره مصدرًا معرفيًّا مطلقا ينبغي الإذعان له، وتدعيمه، فهو ينطلق من نقطة متعالية، وفق دعواه على الأقل، بقطع النظر عن أي خلل حصل لذلك الانطلاق، سواء على مستوى فهمه، أو التعامل معه.

وهذا التصور في حد ذاته؛ يتنافى مع لبّ الفلسفة الإسلامية التي هي في جوهرها منظومة وضعانية، حاولت أحيانا التلون بالصبغة الإسلامية وعدم المعارضة الفجة مع النصوص الدينية، فنجحت أحيانا بعسر، وأخفقت غالب الأحيان (قضايا كقدم العالم، وعدم البعث الجسماني، بل ومفهوم النبوة نفسه، مثلًا).

الفلاسفة: أنبياء دون وحي. وما الفلسفة إلا نبوة مستغنية عن السماء.

الوحي يبحث في أسئلة الوجود الأساسية: المصدر، والغاية، والقيمة، يبحث في الحق والخير، يعني في الصادق في نفس الأمر، وفي الذي ينبغي أن يكون. ولكنه يقررها كحقائق نهائية، مقدسة، متعالية، بلاغات إلهية تنوِّر بصيرة الإنسان ليعمل ويتفاعل في الوجود على هداها.

الفلسفة أيضا، وسواء في دائرتها الكلاسيكية (الحكمة النظرية والحكمة العملية) أو في دائرتها الحديثة (الأنطولوجيا والإكسيولوجيا والإبستمولوجيا) تسعى إلى الأهداف نفسها والإجابة على الأسئلة نفسها، فقط دون أن تكون خاضعة للوحي كمنظومة متعالية.

كيف صورت لنا قصة (حي بن يقظان) إمكانية أن تنشأ في جزيرة وحدك، وتصل إلى الحقيقة الوجودية والأخلاقية، وتتفوق في ذلك على نشء الجزيرة الذي يتعلم من المنظومة الثقافية السائدة (الدين مثلا؟)، إلى الحد الذي يهرب فيه الاجتماعي إلى المتوحد المستنير. كيف يمكن أن يستقل العقل بمعرفة الحقيقة وفق ما أراد ابن طفيل الفيلسوف الأندلسي أن يقول، وكما قال إخوان الصفا من قبل، وكما قال الفارابي قبلهما إن المعرفة العقلية أسمى من كل معرفة، وهي السبيل الأمثل للارتقاء لمنازل النور مع العقل الفعال، أو التوحد بلسان ابن باجه؛ ذلك التصوف الفلسفي، المنافس للاغتذاء الروحي الوحياني؟

يبقى أن يقال: إن السؤال الذي سبق كان متعلِّقا بالفلسفة المسماة إسلامية، بمعنى الفلسفة التاريخية التي نشأت في السياق الإسلامي -وهذا فقط سبب النسبة في قولنا الفلسفة الإسلامية والفلاسفة الإسلاميون-، ولكن ماذا عن إمكانات التفلسف في الإسلام بصورة مطلقة، ومتحررة من هذا الإرث التاريخي للفلسفة الإسلامية القشرة اليونانية اللب؟

ماذا إذا افترضنا إمكان التأمل المطلق الوجودي في المناطق التي سكت عنها الوحي ولم يبتَّ فيها بحقائق مطلقة، بحيث لا يكون هناك فعليًّا مصدر متعال ملزم لها، فهل من الممكن قيام فلسفة إسلامية في هذه المناطق؟

أما الجواب العام: فنعم من الممكن قيام فلسفة في تلك المجالات، من مسلم. فلسفة من مسلم، وليس فلسفة إسلامية. والسبب في ذلك أن نسبة الفلسفة إلى الإسلام مع افتراض أنه لا مصدر متعاليًا من الإسلام في تلك المناطق؛ هو تناقض، فإذا لم يكن إسلامٌ في تلك البحوث، فبأي نسبة تكون تلك الفلسفة إسلاميةً؟ مجرد كون الفيلسوف مسلمًا لا ينتج أن تكون فلسفته إسلامية، ما دامت تلك النسبة لا تعود على بحثه الفلسفي بمعنى منهجي أو موضوعي، كما أن الفيلسوف الأبيض والأسود لا ينتج فلسفة بيضاء أو سوداء ما دام العامل الإثني لا ينتج تلك الفلسفة.

مهما افترضنا إمكان أن تنسب تلك الفلسفة المقترحة إلى الإسلام باعتبار أن موضوعها مسكوت عنه في الوحي ومن ثم فللعقل دور البطولة في إنتاجه = فإنه سيبقى أنّ هناك أُطرًا إسلامية وحيانية عامة، قيمية أو علمية يجب أن يخضع لها ذلك الباحث، لتكون فلسفته إسلامية بهذا الاعتبار. هذا صحيح، ولكنه ساعتها لن يكون فيلسوفًا بالمعنى الفني، كما جادلنا من قبل، مادام خاضعًا لمصدر متعال في تفلسفه.

والحق أنه يصعب إنتاج (فلسفة) في أي مجال، مهما كان مسكوتًا عنه في الوحي، دون أن يكون ذلك المجال مشمولًا تحت الوحي بأية طريقة. ومن ثم فإننا نرى أنه يتعسر قيام فلسفة فنية إسلامية على كل تقدير.

ولكن هل يمنع ذلك التأصيل من التأمل والبحث الدنيوي، في مسائل علمية (نظرية) أو عملية، في المناطق المسكوت عنها دينيًّا، ببذل الوسائل والمناهج العقلية واللسانية والاجتماعية والنفسية والعلمية التجريبية وغيرها؟ لا يمتنع طبعا، ولكن هذا التفكير ليس فلسفة فنية ما دام مأطورًا بالوحي.

إن ذلك البحث والتأمل في الموضوعات الفلسفية، مأطورًا بسقف الوحي: هو تفكُّر، والتفكر باستعمال أدواته الدينية، وغير الدينية في تلك المجالات، هو تفكر شرعي مأمور به. ولكنه ليس فلسفة بالمعنى الفني مادام ليس علمانيًّا وضعيًّا.

ولكن الاشتباه الذي يسيطر على الأذهان هنا هو أن ذلك النوع من البحث بما أنه تفكر، وقد يكون في موضوعات مبحوثة في الفلسفة كمجال؛ فهو إذن فلسفة.

وهذا استنتاج عامي، مبنيُّ على الدعاية القائلة إن التفكير كله فلسفة، وأنه حتى من ينقض الفلسفة فهو يتفلسف، وهذا باطل ميثودولوجيا؛ فالإطلاق الفلسفي العلمي الفني يراد به البحث في الفلسفة بمنهجها وموضوعاتها، أما إطلاق التفلسف بمعنى مطلق التفكر، فهذا مجرد اشتقاق لغوي أو عرفي، إذا خضعنا له في بحث فني كهذا نكون قد تعرضنا لسلطة مغالطة الاشتقاق – التأثيل – المعروفة.

بذلك يمكن أن نفهم الجواب على أسئلة من قبيل: هل الباقلاني فيلسوف، هل ابن تيمية فيلسوف؟ فيكون الجواب بالتفريق بين المجالين: مجال أنهما يبحثان موضوعات فلسفية مبحوثة في الفلسفة، فيمكن الإطلاق بهذا الاعتبار فقط وبصورة مقيدة، أما أن ابن تيمية أو الباقلاني أو الغزالي أو حتى الرازي فلاسفة بالمعنى الفني = فلا.

وهذا بخلاف علم الكلام، الذي بما أنه منطلق من نقطة أقرب من الفلسفة، من الوحي ومصدريته، فلا مانع منهجيًّا من إطلاق أن ابن تيمية من المتكلمين الإسلاميين، فهو ينطلق من الوحي، ويستعمل المنهج العقلي في بحثه، ثم هو يبحث الموضوعات الكلامية المدروسة في النظام الكلامي. أي خلاف آخر على مستوى التصور للمنهج العقلي، أو على مستوى الممارسة له بين ابن تيمية المتكلم الحنبلي السلفي وغيره من المتكلمين الأشاعرة أو المعتزلة = لا يضر أو يمنع من هذا الإطلاق.

ما سبق يتعلق بسؤاليْ: هل هناك فلسفة إسلامية، على المستوى الإجرائي، بمعنى السؤال التاريخي عن الفلسفة الإسلامية: أعلامها وروادها، وحقيَّة تمثيلهم للإسلام، وتقديمهم ما يسمى فلسفة إسلامية؟ وسؤال إمكانات التفلسف المطلق في الإسلام؟

أما إذا توجهنا إلى السؤال نفسه: هل هناك فلسفة إسلامية؟ على المستوى المضموني المجرد -المجرد يعني بقطع النظر عن مصدرية الاثنين: الوحي، والفلسفة-، فيمكن أن يقال إن في الإسلام مضمونًا فلسفيًّا واضحًا، من جهة أنه يتناول كثيرًا من الموضوعات ويقدم كثيرًا من الإجابات على الأسئلة الأساسية التي تتناولها الفلسفة، سواء الكلاسيكية في نظامها الثنائي: الحكمة العلمية: فقط على مستوى الإلهيات بالمعنى الأخص، والحكمة العملية: الأخلاق، والتدبير المنزلي، والسياسة، أم المعاصرة: الأنطولوجيا، والإكسيولوجيا، والإبستمولوجيا.

فالإسلام على مستوى النص يطرح أسئلة الوجود الإلهي، والكوزمولوجي، والإنساني، والعلاقة بين الجميع، وهي نفس الميادين التي يبحثها الفيلسوف. هذا ما يسميه سلطان العميري (المخزون الفلسفي في الإسلام). فللإسلام فلسفته بمعنى أن له أطروحاته وإجاباته على تلك الأسئلة.

ولكن إن نظرنا إلى ذلك السؤال بمعنى: هل في الإسلام فلسفة بالمعنى الفني، وهو الآراء الفلسفية المستمدة من الآلة -أو الجوهر- العقلية والتأملية في الموجود بما هو موجود، بمعزل عن أي مصدرية متعالية؛ فليس في الإسلام فلسفة بهذا المعنى قطعًا، فالإسلام لا يقدم آراء فلسفية، ولكن حقائق نهائية من الله العليم الخبير، مستندة ومسنودة بالوجود المتعالي مطلق الكمال، وهذا ليس فلسفة بالمعنى الفني كما هو واضح.

فالمضامين العلمية والعملية في الوحي تتقاطع مع الفلسفة موضوعيًّا، وتفارقها مصدريًّا ومنهجيًّا. والفلسفة الفنية -كعلم وممارسة- يجب أن يلتئم فيها المنهجي بالموضوعي كما لا يخفى.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى