لغة

من أشجان العربية

منذ بضعة أيام، احتفل الناس باليوم العالمي للغة العربية، ورأينا في الإعلام ومواقع التواصل غيرة على لغة الضاد، وحماسا للذب عنها، يُرجى بهما الأجر لأصحابهما.

ولكن ليس كل دفاع سليما، ولا كل نية حسنة تفيد في تصحيح العمل ..

فقد رأينا مقالات ومنشورات كثيرة تسيء من حيث تريد الإحسان، أو تخطئ المفصل الذي ينبغي أن يتحرى إصابتَه من يقصد إلى حسن الدفاع.

وإذا كان اليوم المخصص للاحتفال بالعربية قد مرّ، وانقضى عند الكثيرين الحماس الذي يبعثه في النفوس، فإن العربية عندنا قضية لا تنقضي، ومعركة لا تنتهي، ومشروع عمر تكمّل مادتَه روافد المشروعات الأخرى، ثم هو يبقى الأساس الأعظم الذي يُبتنى عليه كل بناء ..

فلأجل ذلك: أجعل حديث اليوم عن بعض السبل التي لا تؤدي إلى المطلوب، فلا وجه لسلوكها؛ وعن السبل الأخرى التي لا بد من السير عليها، للوصول إلى المراد: إحياء العربية..

ينكر الكثيرون على من يستعمل ألفاظا أجنبية لا يوجد نظيرها في العربية، ويطالبونه باستعمال لفظ عربي قريب، أو يطالبون المجامع اللغوية بالمسارعة إلى إيجاد اللفظ العربي البديل.

وكل ذلك ليس المهيع المسلوك عند العرب في زمن رقيهم وتفوقهم الحضاري، فكيف صار اليوم مطلبا ونحن في زمن الانحدار، الذي نعيش فيه على هامش التاريخ؟

علينا أن ننطلق من واقع ضعفنا وتخلفنا في جميع مجالات المعرفة، سواء أكان ذلك في العلوم أو التقنيات أو العلوم الإنسانية أو الإعلام والفن، أو حتى في الأدب! وعلينا أن نعلم جيدا أن عدد المصطلحات التي تولّدها اللغات الغربية – خاصة الانجليزية – لمواكبة التطور المعرفي، كبير إلى الدرجة التي يستحيل معها عمليا انتظار اجتماعات المجامع اللغوية لاختراع الألفاظ العربية الملائمة، ثم انتظار عمل التعليم والإعلام لتنزيل تلك الألفاظ المخترَعة في الواقع!

ثم إن كثيرا من الألفاظ المخترعة تكون ثقيلة في صياغتها، غير صالحة لمواجهة تقلبات التراكيب المختلفة. وانظر مثلا إلى لفظ “ابستمولوجيا” الذي وُضع له مقابل هو “فلسفة العلوم”، ثم تدبّر هذا اللفظ المقابل عند الحاجة إلى النسبة والإضافة ونحوهما!

ولست عند تقرير هذا الأمر من متتبعي الرخص الباحثين عن اليسر على حساب الصحة – وإن كان ذلك في اللغة لا يصل إلى درَك نظيره في الفقه – ولكنني تأملت فوجدتُ العرب في عصورهم الزاهية يعرّبون الكلمات الأعجمية التي لم تتكلم العرب بمرادفها، على أوجه مختلفة، دون غلو في الحرص على إيجاد لفظ عربي يقابل كلا منها!

ولذلك وجد في العربية منذ القديم ألفاظ مأخوذة من الفارسية أو الرومية أو اليونانية أو غيرها من اللغات التي احتك أصحابها بالحضارة العربية الإسلامية. واختلف علماء العربية المتقدّمون في حكم الاشتقاق من المعرّب.

بل وُجد المعرب الذي أصله أعجمي في القرآن، على خلاف بين العلماء في ذلك. وقد وَفّق الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام بين طرفَي هذا الخلاف بقوله: (والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الحروف أصولها أعجمية، كما قال الفقهاء، إلا أنها سقطت إلى العرب فأعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فهو صادق).

وقد كان العرب يأخذون اللفظ الأعجمي ويدخلونه في العربية، فتارة يتصرفون فيه ليوافق أبنية العرب المعروفة، وتارة يبقونه على حاله دون تغيير. وهذا ما لخصه سيبويه بقوله: (اعلم أنهم مما يغيرون من الحروف الأعجمية ما ليس من حروفهم البتة، فربما ألحقوه ببناء كلامهم، وربما لم يلحقوه، فأما ما ألحقوه ببناء كلامهم، فَدِرْهَم, ألحقوه ببناء هِجْرَع، وبَهْرَج ألحقوه بسَهْلَب، ودِينار ألحقوه بدِيمَاس .. وربما تركوا الاسم على حاله إذا كانت حروفه من حروفهم، وكان على بنائهم أو لم يكن، .. وربما غيروا الحرف الذي ليس من حروفهم ولم يغيروه عن بنائه في الفارسية، نحو فِرِنْد, وبَقَّم، وآجُرُّ)..

وقال الفيومي: (والاسم المعرب الذي نقلته العرب من العجم نكرة نحو إِبْرَيْسَم، ثم ما أمكن حمله على نظيره من الأبنية العربية حملوه عليه، وربما لم يحملوه على نظيره، بل تكلموا به كما تلقوه وربما تلعبوا به فاشتقوا منه).

فهذا منهج العرب في التعريب كما وضحه علماء العربية، أما اختراع الألفاظ المقابلة لكل لفظ أعجمي، وإدخال ذلك في اللغة فليس من سبيل العرب في تصرفاتهم اللغوية.

وقد أطلت في النقطة السابقة لكثرة ما يغلط المعاصرون فيها.

فلأذكر الأمور الأخرى باختصار أكبر ..

فمن ذلك ما يصنعه بعض الغيورين من البحث عن أبيات شعرية مستغربة في تركيبها أو ألفاظها، ويجعلون ذلك برهانا على شرف العربية وقوتها أمام اللغات الأخرى. وذلك كالبيت الذي يبدأ بقوله: (ألم ألم ألم ..)، أو ذاك الآخر الذي أوله: (مودته تدوم ..)، ونحوهما.

وكل ذلك – فوق كون نظيرِه موجودا في اللغات الأخرى – هو إلى اختبارات الذكاء والبراعة أقرب منه إلى دلائل الفصاحة والبلاغة! وهذه الأبيات المصنوعة إنما نشأت في أزمنة انحدار الأدب العربي، حين فشت الصناعة اللفظية، وغلبت على المعاني الشاعرية.

ومن ذلك أيضا الافتخار بالكلام الذي يكثر فيه اللفظ الغريب الوحشي، كالأبيات الأولى من تلك القصيدة التي أنشأها الصفي الحلي، وأولها: (إنما الحيزبون والدردبيس ..). ولو علم المفتخر بهذا أن الغريب مناقض للفصاحة – كما يقرر ذلك البلاغيون – لثاب إلى الكلام الفصيح، وترك هذيان الصناعة، والمباهاة بإظهار البراعة.

ومن ذلك تتبع الأصول العربية للكلمات المستعملة اليوم في اللغات الأوروبية، والاعتداد بكثرتها. وهذا إنما يدل على أمرين:

  • أولهما: أن الأمة العربية الإسلامية كانت يوما ما في أزهى أحوال الحضارة، فكانت الأمم الأخرى تمتح من معينها. وليس لذلك علاقة مباشرة باللغة العربية في ذاتها.
  • والثاني: أن العربية لم تخالف في شيء الظاهرة العامة “للتبادل اللغوي”، فهي ظاهرة معروفة بين لغات العالم. وقد أخذت العربية كما أعطت، فكان ماذا؟!

ولو كان ذلك دليلا على شرف العربية وتقدمها، لكان ينبغي أن يكون ما يحدث اليوم في الاتجاه الآخر – أي من اللغات الأوروبية إلى العربية – دليلا على شرف تلك اللغات الأخرى وتقدمها!

وإذا كانت هذه بعض الأمور التي يكثر لغط الناس حولها عند إرادة الاحتفاء بالعربية في يومها السنوي أو في غيره، فإن هنالك أمورا أخرى تمر عندهم دون أدنى عناية، مع أنها أخطر وأثرها أعظم. وأخص بالذكر هنا:

أثر العامية على الفصحى، والحديث عن تجديد قواعد النحو والصرف والإملاء والعروض، وانقطاع الصلة بالأدب العربي القديم، وضياع الأساليب العربية البليغة التي تنمّي الملكة اللغوية السامية.

لكن الحديث في هذه الموضوعات يحتاج إلى تفصيل لا يطيقُه هذا المقال، فلنكف اليراع هنا ولنجعل لهذا الحديث مقاما آخر يناسبه في قادم الأيام..

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى