لغة

ما هو الشعر؟

هل يمكن تحديد ماهية الشعر، والتنصيص على خصائصه المائزة؟

عندما نظر النقاد إلى الشعر بنظرة تبتغي تحديد ماهيته، انساق أغلبهم إلى تحديدها في موسيقاه؛ فقالوا “الشعر كلام موزون مقفى”. ومعلوم أن الخليل بن أحمد بعد كشفه للنظام الموسيقي المحايث للشعر العربي وضع تعريفا إجرائيا ومعياريا، صار مقياسا لقراءة الشعر السابق واللاحق أيضا؛ فقال:” الشعر ما وافق أوزان العرب”، فنفى بذلك الخاصية الشعرية عن كل نظام من القول يخرق هذه الأوزان الموسيقية ولا يوافقها.

فهل بالفعل يصح اختزال الشعر في إيقاعيته؟

إن ماهية الخطاب الشعري أوسع من أن تختزل في إيقاعه الموسيقي، أو فلنقل بلفظ أدق “في وزنه” على اعتبار أن ابن سينا يفرق بين الموسيقى والوزن في الشعر. لكن فائدة هذا التعريف الشائع هو أنه يبرز الصلة الوثيقة بين الشعر والموسيقى، وهي في نظرنا صلة أكيدة لا يمكن إنكارها . لكن مع ذلك، لابد من أن ننتقل إلى بحث الماهية الشعرية خارج هذا الاختزال الإيقاعي الذي اتجه إليه أغلب نقاد الشعر العربي، إن لم نقل كلهم.

ولعل أول من تنبه إلى بيان الماهية الشعرية خارج ذلك الاختزال الشائع الذي يحصرها في النغم الإيقاعي هو الجاحظ، عندما أشار إلى الصورة كمكون رئيس في تعريف الشعر؛ حيث قال:” إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير.”.

تجاه هذا التعريف نلقى أحد كبار أساتذة الأدب العربي ـ أقصد شوقي ضيف ـ ينتقد الجاحظ؛ لأنه لم يلتزم بتعريفه هذا، حيث يقول:”ولكن للأسف لم يعن هو نفسه( يقصد الجاحظ) بهذا المعنى فيما جمع من الشعر بكتابه البيان والتبيين.”([1])

ونعتقد أن الصواب غير ذلك، فما جمعه الجاحظ في كتاب “البيان” لا يخلو من سمت وفعالية التصوير. ولا يسمح المقام بالإيغال في إيراد الشواهد الشعرية من متن الجاحظ لاحتوائها على الصور، إنما نكتفي بهذا الإلماح لنفرغ لسؤال بحثنا:

هل يمكن تحديد ماهية الشعر؟

إن كثيرا من المفكرين والنقاد لم يجدوا مسلكا إلى ضبط ماهية القول الشعري، لذا تجدهم يصرحون باستحالة التحديد الماهوي للشعر . فـ “تيفر” يرى بأن “كلمة الشعر ككلمة الجمال من الكلمات المبهمة.”([2])

كما أن لمبورن ينطق صراحة باستحالة التحديد، مستدلا على هذه الاستحالة بغموض موضوعين رئيسين يكونان أصل المادة الشعرية، هما الحياة والحب؛ حيث يقول:”لا يمكن تعريف الشعر إلا إذا عرفنا الحياة والحب اللذين يترجم عنهما.”([3])

وقبل هذه التأملات القاضية باستحالة التحديد الماهوي للشعر، نجد التفكير الفلسفي منذ أرسطو، قد اهتم ببحث القول الشعري من مدخل آخر هو المحاكاة؛ ففي كتابه “فن الشعر” يعرف أرسطو الشعر بكونه محاكاة.

ويربط بين الشعر والصورة والخيال؛ فالقول الشعري عند أرسطو إبداع للصور من المخيلة، يستوي في نظام لغوي إيقاعي. لكن إذا كان أرسطو قد حدد مكونات القول الشعري في الصورة والخيال واللغة والإيقاع، فإنه سرعان ما سينفي خلال بحثه اللغة والإيقاع؛ لأنهما ـ حسب تقديره ـ عنصران لا يملكهما الشاعر؛ ومن ثم لا يتبقى إلا الصورة المتخيلة؛ فأصالة الشعر والشاعر ينبغي أن تلتمس في الصورة التي يبتدعها المخيال الشعري.

وتعريف أرسطو للشعر بوصفه محاكاة، تكرر من بعد عند مختلف نقاد الشعر المتأثرين بالفلسفة الأرسطية مركزين على فكرة الأداة المتوسلة في المحاكاة الشعرية، فبحثوا فيها بقصد التنصيص على خصائص مائزة للقول الشعري عن غيره، إذ أدركوا أن الاقتصار على التحديد الإجمالي لا يثمر فصلا ماهويا؛ لأن المحاكاة – كما تقول الفلسفة الأرسطية ذاتها – سمة لجميع أنماط الفنون. فكان لابد لكل فلسفة تتلقى القراءة الأرسطية للشعر، أن تلتفت إلى تحديد ماذا تمتاز به المحاكاة الشعرية عن غيرها من أشكال المحاكاة . ومختلف الفلاسفة العرب الذين انتهجوا التعريف الأرسطي استشعروا أهمية تحديد هذا التمييز الفارق بين المحاكاة الشعرية ومحاكاة الفنون الأخرى. ونلحظ أنهم في هذا الإيغال في تحديد المائز اختلفوا وتبيانوا رغم انطلاقهم من الأرضية الأرسطية ذاتها في تحديد الشعر. وآية ذلك أن ابن رشد اختلف مع ابن سينا، وهذا الأخير نجده متمايزا عن الفارابي مع قولهم جميعا بالمحاكاة.

فلنستحضر بوجيز القول هذا التمايز الذي ميز كيفية تلقي العقل الفلسفي العربي لنظرية المحاكاة في الشعر:

استعاد الفارابي التعريف الأرسطي، بكون المحاكاة مسلكا حاضرا في مختلف الفنون، مؤكدا أن الاختلاف بينها في الأدوات فقط؛ حيث يقول:” فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول؛ فالذي بفعل، ضربان:

أحدهما: أن يحاكي الإنسان بيده شيئا ما، مثل أن يعمل تمثالا يحاكي به إنسانا بعينه أو شيئا غير ذلك، أو يفعل فعلا يحاكي به إنسانا ما أو غير ذلك.

والمحاكاة بقول: هو أن يؤلف القول الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشيء الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالا على أمور تحاكي ذلك الشيء.”([4])

ومن هنا يتضح أن الفارابي يجعل الفارق بين المحاكاة الشعرية وغيرها في كون أداة الشعر هي اللغة. وهذا ما يبدو عند تمييزه بين الرسم والشعر في قوله :”إن بين أهل هذه الصناعة (أي الشعر) وبين أهل صناعة التزويق (أي الرسم) مناسبة، وكأنهما مختلفان في مادة الصناعة ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها، أو نقول: إن بين الفاعلين والصورتين والغرضين تشابها، وذلك أن موضع هذه الصناعة الأقاويل، وموضع تلك الصناعة الأصباغ، وإن بين كليهما فرقا، إلا أن فعليهما جميعا التشبيه.”([5])

إذن، فالشعر والرسم كلاهما فعل تشبيه؛ أي محاكاة، لكن الأول يحاكي بالقول، والثاني بالصباغة.

غير أن ابن سينا رغم اتفاقه مع الفارابي في كون الشعر يتفق مع غيره من الفنون في فعل المحاكاة، ويختلف في الأداة، فإنه يتمايز عن الفارابي في عدم اختزاله للوسيلة الأداتية التي تتوسلها المحاكاة الشعرية في اللغة؛ حيث أضاف لها الوزن، إذ يقول :”والشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به، فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيرا لا يرتاب به، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسطه، وبذلك التأثير تصير النفس محاكية في نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك، وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلا محاكيا وبالوزن، فإن من الأوزان ما يطيش ومنها ما يوقر. وربما اجتمعت هذه كلها، وربما انفرد الوزن والكلام المخيل : فإن هذه الأشياء قد يفترق بعضها من بعض، وذلك أن اللحن المركب من نغم متفقة، ومن إيقاع قد يوجد في المعازف والمزاهر. واللحن المفرد الذي لا إيقاع فيه قد يوجد في المزامير المرسلة التي لا توقع عليها الأصابع إذا سويت مناسبة . والإيقاع الذي لا لحن فيه قد يوجد في الرقص، ولذلك فإن الرقص يتشكل جيدا بمقارنة اللحن إياه حتى يؤثر في النفس.”([6])

ويبدو هنا أن ابن سينا مايز بين خاصيتين اثنتين هما: الوزن واللحن؛ حيث لا يراهما شيئا واحدا. ومن ثم، يمكن للكلام الشعري أن يكون موزونا دون أن يكون لحنا؛ حيث يقول: “وربما انفرد الوزن والكلام المخيل”. ولهذا يتحقق الشعر بالخيال والوزن. وقد يزيد في امتلاك الخصائص، فيحصل التركيب بين الخيال والوزن واللحن.

وهذا ما يقوله ابن رشد أيضا، مستحضرا قصائد الموشحات كنموذج على الشعر الذي تتوافر فيه الخصائص الثلاثة (أي الوزن واللحن والخيال) فضلا عن المحاكاة، حيث يقول: “والتخييل والمحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه. وهذه قد يوجد كل واحد منها منفردا عن صاحبه، مثل وجود النغم في المزامير والوزن في الرقص، والمحاكاة في اللفظ، أعني الأقاويل غير الموزونة. وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها، مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة(يقصد الأندلس). إذ كانت الأشعار الطبيعية هي ما جمعت الأمرين جميعا، والأمور الطبيعية إنما توجد للأمم الطبيعيين. فإن أشعار العرب ليس فيها لحن، وإنما فيها إما الوزن فقط ، وإما الوزن والماحكاة معا.”([7])

ومن ثم إذا كان الفارابي قصر المحاكاة الشعرية على اللفظ، فإن ابن سينا وابن رشد يضيفان الوزن إلى اللفظ.

وعودا إلى أرسطو، لنذكر باختزاله وظيفة القول الشعري في إبداع الصورة، لنر ما النتيجة المستلزمة عنه:

إذا ما التزمنا بهذه الرؤية النقدية الأرسطية، فإن تحليل القول الشعري سيكون متجها ليس إلى الأسلوب اللغوي ولا إلى الإيقاعية التي يبتدعها الشاعر بتوليفه بين صوتية الألفاظ، إنما فقط إلى الصورة. وذاك ما حصل بالفعل من بعد أرسطو؛ حيث هيمن تصوره الفلسفي هذا على النقد، فاتجه إلى تحليل الصور وإغفال الإيقاع والأسلوب، “حتى ظهر الناقد اليوناني ديونيسيوس لونجينوس”([8])

ومما ساعد هذا الناقد على خرق السلطة الأرسطية هو أنه كان متخصصا في علم البلاغة. وانطلاقا من زاوية نظره التخصصية هذه كان مدفوعا إلى إعادة قراءة العرف النقدي الأرسطي، لخرق محدودية رؤيته إلى الشعر؛ ففي تحليل ديونيسيوس للأوديسا، نظر، ليس فقط إلى الصورة الشعرية الكامنة فيها، بل إلى بلاغة خطابها، فانتهى إلى القول بأن “أساس الشعر الأسلوب.”([9])

وبعد زوال السلطة الأرسطية، ذهب “كثير من النقاد في أوائل العصر الحديث كل منهم يخطئ أرسطو ويبرهن على أن الأسلوب والوزن لهما أثر كبير في صناعة الشعر.”([10])

وعليه، فنحن هاهنا أمام ثلاثة مكونات تؤسس الخطاب الشعري، اختلف الفلاسفة والنقاد في شأنها هي : الصورة والأسلوب والإيقاع. أيها محدد لماهية الشعر؟

لكن لم هذا السعي إلى اختزال الماهية؟

لم يتجه التفكير الفلسفي إلى تضييق الواسع واختزال الكثرة؟

ألا يمكن أن تكون الماهية متعددة متكثرة؟

لعل من بين الحوافز التي دفعت الوعي الفلسفي إلى اختزال الماهية في محدد واحد هو فهمها للكينونة الماهوية ذاتها.

بمعنى أن مكمن نزعتها الاختزالية لماهيات الأشياء هو اختزالها لماهية الماهية.

فالتعريف الماهوي عندها هو ذاك الذي يمسك بـ”الفصل” المائز بين الأنواع. وبذلك استقر داخل التفكير الفلسفي عرف يضبط عملية التعريف، فيوجه التفكير نحو الإمساك بعنصر مائز يسميه فصلا ماهويا. وبما أن الكينونة حسب التصور الفلسفي متراتبة، وبما أن العناصر متفرقة في مراتب الكينونة، فإن كل مرتبة تتميز عن سابقتها بمائز هو ماهيتها. لذا فتحليلها للخطاب الشعري كان مدفوعا بهذا التوجه نحو تحديد فصل ماهوي يميزه عن غيره من أشكال الخطاب.


[1] – ضيف، شوقي (1987)، في التراث والشعر واللغة، القاهرة ، مكتبة الدراسات الأدبية، دار المعارف، ص 88.
[2] – ضيف،شوقي (1987)، ص89
[3] – م س ، الصفحة نفسها .
[4] – الفارابي :مقالة في قوانين صناعة الشعراء، كتاب فن الشعر، (1973) ترجمة عبد الرحمن بدوي دار الثقافة بيروت ط 2 ،150
[5] – الفارابي، م س .
[6] – ابن سينا، فن الشعر،م س، ص 168 .
[7] – م س، ص203.
[8] – ضيف ،شوقي . م س ، ص89.
[9] – ضيف،شوقي. م س ، الصفحة نفسها.
[10] – ضيف، شوفي ، الصفحة نفسها.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى