قضايا ثقافية

في غياب المساءلات المعرفية – فوضى الجموع وأزمة اللاوعي

ثمة معضلات يفرزها في كل مرة اضطرارنا إلى مواجهة النوازل (جائحة كورونا أنموذجا)

جهل مطبق، أو تبعية مطلقة.

فرقة أصابها من الغباء والجهل والسفاهة والتخلف وانعدام الوعي ما جعلها تدور بين التنكيت وعدم فهم العواقب، وبخس كل جهد مبذول، وكل إجراء مفروض لمواجهة الأزمات، فكانت جزءا لا يتخلف عنها، بل كانت سببا رئيسا في تفاقمها،

وفرقة مواكبة للأحداث، واعية بخطورة الأوضاع، لكنها تحاول أن تصنع الحدث كما صنعه غيرها، حذو القذة بالقذة بدخول جحر الضب الذي دخلوه.

وبينهما حاطبة ليل، قد غلب تمثلها وشعورها بهويتها؛ المساءلات المعرفية، فحللت بمنطقها الهزيل، ومعرفتها المدخولة؛ الأحداث والنوازل، وأدلت بدلوها المفرغ من المنطق والعلم؛ فأتت بالعجائب والغرائب باسم الدين، وشككت ونفت وهاجمت كل إجراء مدني متخذ لأجل الحد من الوباء، وبادرت إلى اختراع السنن، وابتكار المنجيات بذريعة ترميم انهيار المعمار الروحي الذي كشفت هشاشته النوازل، فكانت سببا من أسباب اهتياج الناس، مستهدفة، عن علم أو بجهالة، شخصية الجموع اللاواعية النزقة الساذجة القابلة لتصديق كل شيء، غير القادرة على استشراف المستقبل وبالتالي تخمين النتائج، خاصة في غياب روح المسئولية الفردية التي تجعل الفرد يرعوي ويرتدع ويفكر قبل أن يقوم بالفعل.

وحيث أن الاستثارة قد أخذت بعدا دينيا، فإن المنخرط  في الدعاوى المقوضة للإجراءات الحكيمة المتخذة لأجل حماية الفرد والمجتمع من عواقب أي تجمع،  يرى في انخراطه ذاك واجبا لا يحيد عنه إلا متهم في ديانته، بل إن ذلك كان مبررا لعدم تفكيره واحتكامه إلى عقله؛ بله انتقاده الفكرة المحرضة، أو الهدف من التحريض، أو عواقبه،  فاختلط عنده هذا بالتضحية والفداء ومعاني الصبر على البلاء في سبيل نيل “المحجوب المرغوب”، ومناصرة”الدين” المتمثل هاهنا في منع المساجد ومنع الاجتماع لأجل الابتهال والدعاء.

ولعلها نفسها تلك الجموع قد استطاعت الانتقال من النقيض إلى النقيض بسبب الاستثارة المتطرفة المستفزة، والتهييج العاطفي باسم الدين من غير مخاطبة للعقل ولا محاجة عقلانية، فهي نفسها التي كان من الممكن أن تصفق لفكرة الغناء الجماعي، وتنخرط في الصدح بالنشيد الوطني بل وغيره من الأغاني، بسبب استثارة ما، فإذا بها خرجت في مواكب “اللطيف” تلهج بالدعاء، وتندد بطريقة غير مباشرة بغلق المساجد مكان الاجتماع للعبادة وللقنوت وللدعاء، مخترعة البديل بقوة الجمع، ربما لأن الهيمنة الاستبدادية للخطاب الديني المتطرف المتعصب، المدغدغ بالأساس للمشاعر، و”صوت الضمير” المنبعث من الاقتراح التحريضي على الائتلاف لأجل كسر الحواجز، وشق عصا الطاعة الملزمة بالانحسار بالبيوت، والجأر بالدعاء؛ كان أقوى باعتبار ظرفية الوباء، وحاجة الروح إلى العون السماوي قبل كل شيء، بل ربما فيها نوع تحد للسلطات، و”أخذ الثأر” باليد إذ شعرت بأن قوة ما مست ممتلكاتها وعقيدتها الدينية، مفجرة غضبها اللاواعي من الوباء، وخوفها المتنامي من انتشاره؛ في الحنق والتمرد والهيجان وعصيان أمر الانعزال والبقاء بالبيوت إلى حين انقشاع الأزمة، مغلفة كل ذلك بجأرها بالدعاء.

إنه من السهل أن تقنع من تعطلت قواه التفكيرية، وآلياته العقلية؛ بأن يشك في العواقب، بل بأن ينفيها وذلك عن طريق تمييع النتائج، وتمويه الأحداث، أو عن طريق تضخيم فكرة المساس بالشرع. فالصورة الذهنية التي من الممكن أن تعطى عن غلق المسجد؛ في غياب الفوارق الفقهية الدقيقة،  والتدرجات الانتقالية في أذهان التابعين والمتبوعين على حد سواء؛  قد تترك العنان للتتابع الغريب للأفكار؛ للتفكير في أن هذا الغلق لا ينبني على حكم شرعي ومسوغ مبيح بله موجب لذلك، خاصة في غياب فهم مناطات الأحكام، ومقاصد الشريعة، ومن ثم إلى أن هذا الغلق قد يصبح مؤبدا، وبأن القوى السياسية ستتمكن من العبث بالشرع وبالمقدسات الدينية، وبأن عدم الانتفاض لأجل استرجاع هذا الحق قد يؤدي فيما بعد إلى تحكم المؤسسة القانونية في عقائد الأفراد، وبأن عقوبة سماوية وغضبا إلهيا قد يحل بالجميع إن لم تتحرك الجموع، بل وفي نفس التتابع للأفكار، أن الوباء في أصله مجرد وهم وذريعة لمحاربة الدين. يطعم هذا ويغذيه ويزكيه مواقف بعض الناطقين باسم الدين في محاولاتهم التشكيكية في الوباء ابتداء، وفي نية الحكومات وصولا، كل هذا وغيره قد جعل الجموع في هياج، واضعين المجتمع ككل أمام أزمة لاوعي.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى