معتقدات

الشباب والإلحاد (2-4)

دراسة لتجليات الإلحاد الجديد في واقع الشباب المسلم

⇒ الجزء الأول

الإلحاد الجديد (أصولية جديدة)

منذ عصر النهضة وما تلاها من تطورات علمية، واقتصادية، واجتماعية، وانطلاقا من القرن الثامن عشر بدأ الدين في صورته المسيحية ينزاح رويدا رويدا عن الساحة الغربية، ويفقد أساسه، خصوصا بين العقلانيين([1])، الذين أضحى العقل عندهم السبيل الوحيد للمعرفة، لينطلق التنوير من ثقة غير مسبوقة بالعقل البشري([2])، حيث رأت الحركة العقلانية الأوربية أن المنهج العقلي والعلمي يجب أن يطبق على كل مظاهر حياة الإنسان([3])،غير أن فكرة الإلحاد الخالص كانت إلى حد ما حسب كارن أرمسترونج مستهجنة، فمعظم فلاسفة التنوير اعتقدوا ضمنيا بوجود إله([4])، و”كان الإلحاد كما نعرفه اليوم مازال غير متصور”([5]).

 لكن مع نهاية القرن الثامن عشر ميلادي سينسلخ الغرب  تماما من الدين، لتبدأ “عملية النزعة الغربية ومعها العقيدة الدنيوية التي أعلنت استقلالها عن الله”([6])، وفي القرن التاسع عشر ميلادي سيصبح الإلحاد قوة حقيقية، مع ظهور عدد من المعادين للاهوتيين على المسرح، من بينهم لودريك فيورباخ (1804-1872) الذي سمي بأب الإلحاد الحديث، والذي كان بوضوح مصدر النقد الحديث الكلي للدين، تاركا أثره في كل من ماركس وفرويد ونتشيه وآخرون([7])، وفي هذا السياق تقول كارن أرمسترونج “كان الإلحاد تحديدا على جدول الأعمال بحلول القرن 19م ([8])، و”كان الملحدون الجدد يهاجمون بعنف المفهوم المحدد لله الذي كان سائدا في الغرب أكثر مما كانوا يهاجمون مفاهيم أخرى عن المقدس”([9]) .

ففي هذا القرن سيقول ماركس أن الدين “زفرة الإنسان المسحوق”، وأفيون الشعوب”، إنه ” روح عالم لا قلب له”، وسيصرح فرويد بأن الدين هو “إجراء مسكن” للاستخدام في العالم الذي يقودنا إلى الكثير من الآلام، وخيبات الأمل، والمهام المستحيلة، فالدين هو البلسم الذي يمكننا من الصبر على حياة لا تطاق ([10])، وسيعلن مجنون نتشيه “موت الإله”([11]). ليكون هذا الثلاثي الملحد أكثر من غيره حزما في تحليل سبل وجود الإله ([12]).

وقد وجدت بعض هذه الرؤى الإلحادية في الداروينية أرضية ومرتكزا تبني عليه أفكارها، فمع داروين اكتسبت هذه الرؤى مزيدا من التأكيد والتضخيم([13])، “فأيُّ تصورات لاهوتية ذات علاقة بإدارة العالم الإلهية ومكانة الإنسان الروحية الخاصة تعرضت لاعتراضات بالغة الشراسة مدعومة بالنظريات والشواهد الجديدة”([14])، ومن خلال كتابه ” في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي، أو بقاء الأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة” الذي نشر سنة 1859، أصبح الانتقاء الطبيعي آلية تقود وتحدد الحياة، وأضحى العلم الطبيعي فجأة عند البعض “الدين البديل”([15]).

وهكذا استطاع الملحدون شرعنة الإلحاد، الذي استهوى الجماهير ([16]) ولم يعد محصورا في فئة معينة من المفكرين والفلاسفة الذين لهم موقف معاد ضد الدين المسيحي، تقول كارن أرمسترونج ” لأول مرة لم يعد عامة الناس ممن لا ينتمون إلى فئة العلماء والفلاسفة الحاملين لمشعل الريادة يجدون غضاضة في المجاهرة بإلحادهم، دون أن ينفقوا الوقت في دراسة الأدلة العلمية والعقلية النافية لوجود الله. فقد أصبح الله عند الكثير من الأوروبيين فكرة لا طائل منها وعبثا لا داعي له”([17])، فبعد هذه الفترة أصبح من الممكن أن نتحدث عن الإلحاد الشعبي «The popular atheism» الذي عرف انتشارا أكثر من أي وقت مضى بين عامة الناس.

لكن بعد توالي الأحداث، وفي القرن الواحد والعشرين، ستنبثق موجة إلحادية جديدة، لا تقل شراسة عن الفلسفة الإلحادية التي صاغها فيورباخ ومن تبعه من دعاة الإلحاد في القرن التاسع عشر، وسيطلق على هذه الموجة اصطلاح الإلحاد الجديد «The New atheism»، الذي ظهر لأول مرة في مجلة “وايرد Wired ” في نوفمبر 2006م ([18])، وقد كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر دور محوري في تنامي هذه الموجة ([19])، فلو أردنا التأريخ للإلحاد بوسمه المعاصر لجاز لنا القول إنه جاء كنتيجة لاصطدام الطائرتين ببرجي التجارة العالمي.

 وعليه “ترسخ في وعي كثير من الملاحدة أن قضية الإيمان والتدين باتت مهددا حقيقيا للبشرية، وأن التزام ذلك الهدوء والحيادية من الدين لم يعد خيارا مقبولا، وأنه من المتعين على الملاحدة اليوم السعي جديا في استئصال مبدأ التدين من الحياة البشرية وإحلال قضية الإلحاد كخيار منقذ”([20]).

وبإلقاء نظرة على مؤلفات دعاة الإلحاد الجديد وخصوصا فرسان الإلحاد الأربعة ([21]) سينكشف لنا حجم العداء الذي يكنه الملحدون الجدد للدين، فسام هريس (Sam Harris) سيشرع مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بتأليف كتابه ” نهاية الإيمان” مؤكدا أن السبيل الوحيد ليتخلص عالمنا من الإرهاب هو إلغاء الأديان جميعها ([22])، وسينشر كذلك” رسالة إلى أمة مسيحية” سنة 2006، ليتوالى التأليف الموجه لنقد الأديان السماوية بشكل رئيسي ([23])، فيخرج كريستوف هيتشنز (Christopher Hitchens) بكتاب “الله ليس عظيما… كيف يسمم الدين كل شيء”، ثم كتاب ” كسر السحر… الدين كظاهرة طبيعية” لدانييل دينت (Daniel Dennett)، بيد أن كتاب ” وهم الإله” للملحد الشهير ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) يمثل “الكتاب الأهم والأشهر للظاهرة الإلحادية الجديدة، كما يمثل مؤلفه الأيقونة الأشهر للإلحاد الجديد”([24])، فقد تربع على عرش الكتب الأكثر مبيعا في مجلة النيويورك تايمز لمدة 51 يوما، وبيعت منه منذ ظهوره سنة 2006 إلى غاية 2010 أكثر من مليون نسخة ([25]).

والمتفحص لهذه العناوين سيرى أنها جاءت مطرزة بعبارات التخويف والتحذير، حاسمة بذلك موقفها تجاه كل ما هو ديني، لتعبر عن أصولية جديدة يكون الإلحاد شعارها، وقد أجمل روي أبرهام فارجيس الوصف حين قال أن ” الكتب تبدو كما لو كانت عظات أصولية، والجزء الأكبر من المؤلفين يبدون كما لو كانوا واعظين يشتاطون غضبا محذرين إيانا من العقاب الأليم، أو حتى نهاية العالم، إن لم نندم على معتقداتنا الضالة والممارسات المرتبطة بها”([26]).

ففي الإلحاد الجديد وفي العصر الحديث للكسمولوجيا، التطور، والجينوم البشري، أصبح السؤال الذي يثير النقاش والجدال في الأوساط الإلحادية هو: “ألا يزال هناك احتمال لتعزيز انسجام مرض بين الرؤية العلمية والروحية للعالم؟”([27])،  فهذا الاشكال يضعنا أمام العلم كدافع آخر قوي لمَّع صورة الإلحاد، إنه الفلسفة الوحيدة للملحد([28])، ولغة العلم والعقل كما يقول كريس هيدجز “تستخدم الآن من طرف عدد من الملاحدة للتعبير عن الأشواق القديمة لكمال الإنسان، ووفقا لهم، فإن العقل والعلم بدلا من الدين سيضبطان صراعات الإنسان ويجلبان الجنة”([29]).

 فزمن الدين انتهى في نظر الملحدين الجدد، وولت الأهمية التي كان يحظى بها، في عصر بات فيه العلم الطبيعي يفسر كل شيء، فهذا هيتشنز يقول” شكرا للتلسكوب والمكروسكوب، فالدين لم يعد يقدم تفسيرا لأي شيء مهم”([30])، فالإله في الرؤية الإلحادية الجديدة كان يلجأ إليه ببساطة لسد الفجوات في العلم، أما الآن، العقيدة ([31]) الوحيدة للملحد هي العلم، وفرسان الإلحاد الجدد يرون أنفسهم في طليعة حركة عقلانية وعلمية ستتمكن في نهاية المطاف من محو فكرة الله من الوعي البشري ([32]).

وهكذا لا نتعجب حين يقول ريتشارد دوكنز بأن العلم والدين يخوضان معركة حتى النفس الأخير، وسينتصر أحدهما[33]، فالرؤية العدائية للعلم ودعاته في القرون الوسطى، تنطرح من جديد، لكن بصورة معكوسة يكون العقل فيها عند الملحد المعيار الوحيد للحقيقة، ويضحي كل إيمان ديني في إطار الإلحاد الجديد عدوا للعقلانية، بعدما كانت العقلانية عدوة للكنيسة، فنحن هنا أمام أصولية جديدة لم تنبثق من رحم الأديان، وإنما من جوف الإلحاد، تحمل بين ثناياها تصورا عدائيا وإقصائيا للعقيدة الدينية، وتجلياتها على واقع الإنسانية.

⇐ الجزء الثالث


[1]) The sources of modern atheism, Marcel Nausch, translated by Matthew J.O Connel, Paulist press , New York- USA. 1982, p(6)
[2] ) ينظر: آلام العقل الغربي، ريتشارد تارناس، ترجمة: فاضل جتكر، العبيكان، الرياض-السعودية، الطبعة الأولى، (1431-2010)، ص(396)
[3])When atheism becomes religion, Chris Hedges, free press, New York-USA, (2009), p(17)
[4] ) الله والإنسان، كارن أرمسترونج، ترجمة: محمد الجورا، دار الحصاد، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى، (1996)، ص(297)
[5] ) مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟، كارن آرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، وهبة محمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى (2010)، ص(330)
[6] ) المرجع السابق، ص(293)
[7](The sources of modern atheism، Marcel Nausch, translated by Matthew J.O Connel, p(10)
[8]) مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟، كارن آرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، وهبة محمد، ص(345)
[9] ) نفس المرجع، ص(353)
[10](The sources of modern atheism، Marcel Nausch, translated by Matthew J.O Connell, the Missionary society of S.T Paul, New York-USA, (1982), p(20)
[11] ) العلم المرح، فردريك نتشيه، ترجمة: حسان بورقية ومحمد ناجي، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى (1993م)، ص(132)
[12](The sources of modern atheism، Marcel Nausch, translated by Matthew J.O Connell, p(19-20)
[13] ) آلام العقل الغربي، ريتشارد تارناس، ترجمة: فاضل جتكر، ص(388)
[14] ) نفسه، ص(388)
[15]) When atheism becomes religion, Chris Hedges, p(47-48)
[16]) The sources of modern atheism, Marcel Nausch, translated by Matthew J.O Connell, p(7)
[17] ) مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟، كارن آرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، وهبة محمد، (442)
[18] ) هناك إله، أنطوني فلو، ترجمة: جنات جمال، مركز براهين للدراسات والأبحاث، الاسماعيلية-مصر، الطبعة الأولى(2017)، ص (20)
[19] ) ينظر: ميليشيا الإلحاد، عبد الله العجيري، ص(21)
[20] ) نفس المرجع، ص(21)
[21] ) وصف يطلق على كل من ريتشارد دوكنز، سام هاريس، دانييل دينت، وكريستوفر هيتشنز، وهي عبارة تقابل فرسان الرؤية الأربعة الواردة في سفر رؤيا يوحنا الإصحاح (6)، العدد (1-8)
[22] ) مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟، كارن آرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، وهبة محمد، ص(463)
[23] ) هناك إله، أنطوني فلو، ترجمة: جنات جمال، ص(20)
[24] ) ميليشيا الإلحاد، عبد الله العجيري، ص(25)
[25] ) ينظر: المرجع نفسه، نفس الصفحة
[26] ) هناك إله، أنطوني فلو، ترجمة: جنات جمال، ص(20)
[27] ) Delusion of atheism, David Aikman, library of Tyndal house publishers, Carol stream III, Illinois- USA, (2008), p(63)
[28]) la religion de l’athée, Jules Sageret, Payot & Cie, BOULEVARD SAINT-GERMAIN, France,1er édition, (1922), (96)
[29] When atheism becomes religion, Chris Hedges, p(17)
[30]) Ibidm, p(31)
[31] ) رأى جيليس ساجوري Jules Sageret أن العلم لا يستحق أن يوسم بالفلسفة إلا إذا اعتبرناه عقيدة للنشاط والكائن الكونيين، La religion de l’athée, p(96-97))، والناظر للحالة الإلحادية المعاصرة يرى أنها تمضي إلى جعل العلم طريق الإنسانية المقدس للمعرفة.
[32]) مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟، كارن آرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، وهبة محمد، ص(459)
[33]) وهم دوكنز، ليستر إدغار ماكغراث وجوانا كوليكات ماكغراث، ترجمة: محمد عوده، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى (2017م)، ص(47)

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى