نقد

الانزياح التركيبي في شعر سمير العمري (2-4)

الجزء الأول من المقالة

الانزياح التركيبي في شعر سمير العمري

التقديم والتأخير

حسب قواعد النحو لا تكون الجملة صحيحة إلا إذا كانت مدونة حسب التركيب القائم عند النحاة، فالذي نعلم أنّ النحو مجال القيد والضبط اللغوي، وأما بالنسبة إلى الأدب فنجد الشعراء والكتاب يتصرفون في مثل هذه الضوابط والأسس اللغوية واللسانية لتجعلهم قادرين على التعبير عن مواقفهم الشعرية والكشف عن خباياهم وترسيم المواقف الرؤيوية لتمكنهم من التعامل مع الأسلوب بمرونة وسهولة، فمن ثمّ نراهم يقدّمون أو يأخّرون مواضع الألفاظ ليخدموا حالتهم الشعورية. فبنية التقديم والتأخير «تسمح بمنح الخطاب الأدبي سمات خاصة تدخله في دائرة التركيب الإبداعي الذي يتميز بخصائص تضمن خروجه عن الأصل، وتتيح فنية وجمإلىة التركيب بتغير مواقع أجزاء الكلام داخل التركيب النحوي»([1]).

  قد تجلت هذه السمة الأدبية في شعر الشاعر حيث يقول:

أسرِج قناديلَ الصَّلاةِ وهاتِ لي

في ساحةِ الأقصي خشوعًا يعكفُ

أرنو لمعراجِ النُّبُوَّةِ والرؤي

مشدوهةٌ وصدي المشاعرِ يعصفُ([2])

كلُّ الدُّفوف على جراحكِ تُعزَفُ

وأنا الذي يبكي علىكِ ويأسفُ

وعلى جبال الطُّهرِ تشمخُ نخلةٌ

وعلى وجوه العابرينَ تصلُّفُ([3])

يا قدسُ تَرسُفُكِ القيودُ فليتني

في القيدِ دونَ عظيم قَدرِكِ أرسُفُ([4])

يتبين لنا من خلال هذه الأسطر الشعرية أنّ الشاعر عمد إلى توظيف نمط من التقديم والتأخير ليضفي على خارطة النص الشعري نمطاً من الدلالة الجديدة التي لا تفهم إلا عبر تواجد هذا الأسلوب التعبيري. نلاحظ أنّ الشاعر يقدّم خمسة مواضع للتقديم الذي يمتّ بصلة إلى مكملات الجملة الاسمية والفعلىة. نراه في السطر الأول من البيت يقدّم شبه الجملة (لي في ساحة الأقصي) على المفعول­به (خشوعًا)، وفي البيت الثاني قدّم الخبر (لمعراج النبوّة والرؤي) على المبتدأ (مشدوهةٌ)، وفي الشطر الثالث قدّم شبه الجملة (على جراحكِ) على الفعل المضارع (تُعزَفُ)، وفي الشطر الرابع قدّم شبه الجملة (وعلى جبال الطهر) على الفعل المضارع وفي الشطر الثاني منه قدّم الخبر (وعلى وجوه العابرين) على المبتدأ (تصلُّفٌ)، وفي الشطر الأخير قدّم شبه الجملة (في القيد دون عظيم قدركِ) على الفعل المضارع (أرسُفُ). فالشاعر يعتمد على تقنية التقديم والتأخير بوصفه آلية جمالية للإبانة عن مساحة تعبيرية أعمق وأكبر يشكل في ذهن المتلقّي دهشة وقلقًا ونمطًا من التأويل وصولًا إلى تكوين جمالي مدروس يشير إلى رغبة الشاعر في كسر نظام اللغة وتحطيم النمطية في التلقّي.

نلاحظ عبر هذه المقطوعة أنّ ظاهرة التقديم والتأخير تشكل نقطة محورية وبؤرة دلالية للنص الشعري الحديث حيث اتخذه الشاعر أداة مطواعًا وطيعة للتعبير عما خامره من أفكار ومشاعر مكبوتة تعصر نفسه وتجيش في ذاته، فيخلق عبر هذه التقنية التعبيرية ذلك الانزياح التركيبي لتنشأ دلالات جديدة. أيضاً نجد الشاعر يستخدم في الشطر الأخير من النصّ حرف الجرّ (على) لإفادة الاستعلاء ليمنح النصّ الشعري دلالة جديدة تعبّر عن قضية الوطن، وتمزّقه الداخلي وإحساسه بتدهور الأوضاع المحيطة به وتلك الظروف المتأزمة التي يعيشها.

يتضح لنا عبر إمعان النظر في ثنايا هذه القصيدة أنّ التقديم والتأخير يتعلّق تماماً بالنظرة الرؤيوية والمواقف الشعرية والعواطف الشعورية التي يحاول الشاعر التعبير عنها والتي ترأسها قضية الاحتلال الأجنبي لفلسطين ليستفزَّ وعي القارئ من خلال إحداث خللٍ في توقعه.نلاحظ أنّ هذه الأسطر الشعرية تكتظّ بالشعور بالتوتر والحيرة التي تسيطر على نفسية الشاعر والذي يجعله يضطرب، ومن ثمّ نراه ينتهك نمط التعبير التقليدي ليمكنه من التعبير عن رؤاه ومواقفه الثورية تجاه العدو الشرس، كما يمهّد السبيل للكشف عن دور التقديم في الإفصاح عن بؤرة نصية جعلته يعبّر عن ذاته الشاعرته وتجربته الإبداعية عند توظيف الانزياح التركيبي.

لاحظنا من خلال الأسطر الشعرية المذكور أعلاها أنّ الشاعر الحديث بوصفه من شعراء المقاومة استطاع توظيف تقنية الانزياح للتعبير عن مواقفه وتجاربه الشعرية والشعورية، فتجربته العميقة هي المعاناة والمقاساة والمكابدة النفسية والروحية تجاه قضية إنسانية شغلت باله واختلطت بلحمه ودمه. من المعلوم في النصّ أنّ الشاعر يقيم صلات وثيقة ومتشابكة بينه وبين القضية الفلسطينية عبر توظيف الأزمنة، فتربتطه بمصدر الإلهام الشعري ألا وهو قضية الوطن والانتماء الحضاري والفكري حيث يعمل الانزياح التركيبي على تكوين انزياح دلالي رؤيوي جديد يناسب وموقف الشاعر النفسي والروحي.فتوظيف النمط الجديد للتراكيب النحوية وإخضاع مكوناتها للتقديم والتأخير يدلّ على تجربة الشاعر وعمقها عبر هذه القضية المصيرية ويعبّر بصورة واضحة عن المواقف النفسية والفكرية التي ينطوي عليها النصّ الشعري. فالعدول عن التراكيب النحوية المعتادة والمألوفة يلعب دوراً هامًّا في إثراء الصورة الشعرية وزيادة فاعليتها، فلا تبعد مقصدية القصيدة عن موقف الشاعر وتجربته الشعرية والشعورية، وهذا مما جعله يخرج عن الصورة المعتادة للقواعد النحوية تعبيراً عن خروجه عن الظروف المعيشة التي أحاطت به في الوطن المحتلّ، والذي جعله يكشف عن معني الابتعاد عن الوطن والشعور بالغربة النفسية والروحية. استطاع الشاعر عبر هذه التقديمات والتأخيرات أن يعطي النصّ دلالات خاصة ومتميزة للقصيدة حيث تضفي على النصّ سمة جمالية جديدة تشدّ انتباه المتلقّي.

الحذف

يعدّ الحذف صورة أخري من صور الانزياح التركيبي، فالأصل في الكلام ألاّ يقع فيه أي حذف وجرح ويرد تمامًا وهذا مما يجعل الكلام واضحًا ومبينًا لدي القارئ أو المتلقّي. إذا قمنا بالمقارنة بين لغة النحو ولغة الأدب من منظور الالتزام بالمعايير اللغوية  نجد بينهما بعض الفرق والاختلاف، ومن هنا يعلم أنّ لغة الأدب لما تحمل في طياتها مهمّة التوصيل وتبليغ الرسالة وإقناع المتلقي ومشاركته في خلق الوجدان المشترك أحياناً تميل نحو الحذف وقصر الجمل والتراكيب وخلق الفجوات في اللغة المعيارية. انطلاقًا من هذا الموقف، فالحذف «أسلوب يعتمد إلى الإخفاء والاستبعاد بغية تعدد الدلالة، وانفتاحية الخطاب على آفاق محدودة، إذ تصبح وظيفة الخطاب الإشارة، وليس التحديد، فالتحديد يحمل بذور انغلاق النص على نفسه، ولا يبقي للقارئ فرصة المشاركة في إنتاج معرفة جديدة بالنص ودلالته»([5]).

من نماذج الحذف ما ورد في شعر الشاعر الحديث حيث يقول:

القابضون على الزّنادِ بقوّةٍ

الصامدون على الثُّغورِ نِبالا

إخوانُ صدقٍ جسّدوا بصمودهم

قِيمًا وأعطوا للوفاءِ مِثالًا([6])

 قصفٌ لو أنَّ الصَّخرَ حَسحَسَ نارَه

لامتدَّ من زُبُر الحديدِ سيولًا

فتراهم عند العدوِّ دواجنًا

وعلى الشعوب أساودًا وفُحولًا([7])

هي محنةٌ لمن استقامَ ومِنحةٌ

حتّي نحُفُّ القدسَ مِيلًا مِيلًا([8])

نلاحظ عبر هذه الأسطر الشعرية أنّ الشاعر عمد إلى تقنية الحذف تعبيرًا عما خامره من هواجس وعواطف تخامر نفسه وتثير في كيانه تلك الآمال والطموحات النبيلة للوطن المحتلّ، فنراه دومًا يميل نحو الحذف تعميقًا للدلالة. نجده في الشطر الأول يأتي بالخبر (القابضون – الصامدون) ويحذف المبتدأ (هم)، وفي البيت الثاني يأتي بالخبر ولم يذكر المبتدأ، وفي البيت الثالث يحذف الفعل المضارع (تراهم)، وفي الشطر الأخير من المقطوعة يحذف المبتدأ (هي) آتياً بالخبر (مِنحةٌ). يجسد الحذف في الأبيات الشعرية لونًا من الصراع القائم في نفسية الشاعر والتصادم مع الواقع المعيش حيث يمنح النصّ حضورًا فعّالًا عبر غياب المحذوف. نظرًا لما ورد في المقطوعة من المواقف والهواجس، تتمحور الأسطر الشعرية حول فكرة الصمود والثنائيات المتضادة التي يواجهها الشاعر في المجتمع الفلسطيني، فالصراع بين الدواجن والأُسُود والمحنة والمنحة يمثّل ذلك الصراع المحتدم في كيان الشاعر وتعبّر هذه البنية اللغوية عن ذلك التشكيل الدلإلى العميق في نفسيته حينما «تخرج على المعايير المألوفة وتسهم في صنع الجانب الشعري للنص، فضلًا عن زيادة قدراته التأثيرية في المتلقّي مما يقوي الطاقة الدلالية»([9]). نجد عبر هذه الأسطر الشعرية مكانة اللحظة الإبداعية للشاعر عندما يعمد إلى توظيف الجملة الاسمية خمس مرات مما يعطي النص المبدع فاعلية الثبوت والدوام، فمن ثمّ إن صار المحذوف غائباً لم يرد في النص، لكنه معلوم ومشهور لدي المتلقّي وهو ذلك العدو الشرس الذي لا يستحيي من ارتكاب أي جريمة ضد الشعب العزّل. لا ريب أنّ الشاعر عبر عملية الحذف غيب نفسه واختبأ وراء هذه التقنية إنكارًا لنفسه وتشييداً للمناضلين والشعب الصَّمُود وما تحمّلوا من مصاعب ونوائب شتّي، فنجد الشاعر يجنح إلى حذف المبتدأ ليدّعي «أنّ ذلك المبتدأ حيّ في ذهن المخاطب، ومعلوم، ولسنا بحاجة أن نورده مرة أخري»([10]). من هنا تتبلور دلالات جديدة لم تعرف من قبل ولو ابتدأت الأسطر الشعرية بالضمير، وهذا الحذف مما يخدم غاية فنية تضفي على النصّ الشعري ضربًا من الجدة والاستحداث. هنا يتضح دور القارئ أو السامع في إبراز ما يعبر عنه المحذوف ضمن الأسطر الشعرية لملء هذا الفراغ وإزالة الاحتمالات التأويلية التي يحتضنه النص.

من المعلوم عبر تدقيق النظر في هذه المقطوعة الشعرية أنّ الشاعر استخدم تقنية الحذف التعبيرية أداة طيعة ومطواعًا للاتصال بالقارئ أو السامع، فالحذف يمثّل نمطًا من التخفيف من اندفاع الكلام بشكل فني يجسّد براعة الشاعر ومقدرته الأدبية، لأنّ «الخفّة هي المطلوبة، والمقام يستدعيها، والحال تطلبها، ففي الخفّة تلك تكمن البلاغة ويسمو الكلام»([11]).

الشاعر في الأسطر الشعرية المذكور أعلاها عمد إلى الحذف الذي لم يكن صدفة ولا اعتباطيا، بل كان مقصوداً ومدروسًا عنده لما ينطوي في طياته على امتلاك قدرة فاعلة في مدّ النص وتشحينه بالدلالات المختلفة، فالحذف «باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، نجيب الأمر…فإنّك تري به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أفطن ما تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما  تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما تكون إذا لم تبن»([12]). لا ريب أنّ الشاعر أراد من خلال توظيف تقنية الحذف التعبير عن عدة محاور فكرية ونفسية اختلجت كيانه، منها قضية فلسطين المأساوية وما رافقها من الشعور تجاه الوطن المقهور من خلال مجازر بشعة وممارسات إجرامية من قبل الكيان الصهيوني وحلفائه في المنطقة والعالم، ثمّ التعبير عن الانتماء القومي والديني ومحاولة تدويل القضية الفلسطينية ليعتبرها قضية عالمية وإنسانية تهمّ أبناء البشر على مرّ العصور. إذن، فالتجأ إلى هذه التقنية – أعني الانزياح- ليخرج عن اللغة المعتادة والمعيارية تعبيرًا عن هدفين أساسيين: رفض النظام اللغوي المألوف وثورة ضدّ النظام السياسي القائم.

نلاحظ أنّ الشاعر يستثمر تقنية الحذف لما يشتمل على إمكانيات كبيرة تخلقها اللغة وتوسّع مجالها للشاعر المبدع استجلاء للمواقفه الفكرية والنفسية، فالشاعر لا يجد طريقاً أمامه سوى اللجوء إلى الحذف إبرازًا لجماليات نصه الشعري عبر الانزياح التركيبي ليدلّ على أنّ عملية الإبداع الفني تمّت عبر الوعي والعفوية وهذا مما أشار إلىه الجرجاني حيث ذهب إلى أنّ الصياغة التي يعتمدها الشاعر لاتنعزل عن الامتداد داخل ذاته المبدعة، وهو ما يؤكد الوعي والإدراك اللذين يتمتع بهما بحيث يكون قادرًا على تكثيف المستوي الجمالي للتعبير من خلال بنية متداخلة قوامها التفاعل([13]).

إذن، فالمتلقي عبر هذه الأسطر الشعرية يواجه ما لا يتوقع وفي بداية الأمر لا يستطيع  أن يقيم تعاملًا جيدًا مع ماحذف من الأسطر الشعرية وهذا مما يثير في نفسيته نمطاً من التخالف والتصادم مع خارطة النصّ الشعري ويشعر بالمفارقة الفكرية والنمطية في اللغة المألوفة. إذا أمعنا النظر في المقطوعة الشعرية نجد أنّ المتلقّي يلاحظ في النص الشعري فجوة لفظية تقوده نحو المحذوف ليتمّ المعني مما يؤدي إلى ظهور إرهاصات التواصل بينه وبين الشاعر، إذ إنّ عملية الحذف والتحوير «أصبح عنصرًا حافظًا للمتلقّي لكي يحضر في الخطاب ويسهم في استدراج المحذوف وتقديره، وللدخول فيه بوصفه منتجًا له ومساهمًا في تشييده»([14])، فيخلق الانزياح التركيبي ضربًا من الانسجام والائتلاف بين الشاعر والمخاطب نتيجة الفراغ والفجوة التي حدثت في بداية الأمر عند قراءة النص.

الجزء الثالث من المقالة

1- حسين قاسم،1980م،231.
2- العمري،2015م،21.
3- نفسه، 28.
4- نفسه، 31.
5- كوهن،1986م،55.
6- سمير العمري، السابق، 109.
7- نفسه، 83.
8- نفسه، 84.
9- جيرو،2007م،267.
10- درويش،د.ت،172.
11- شاهين،د.ت،160-159.
12- الجرجاني،2007م،170.
13- عبدالمطلب، السابق، 329.
14- درويش، السابق، 188.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى