خارطة التنوير من التنوير الغربي إلى التنوير الإسلامي (ج1)

ليس سهلاً أن تسعى لتلخيص المعلومات الأساسية عن تيار فكري وتأريخ محوري وتصور معرفي بحجم (التنوير)، فضلاً عن أن يكون هذا التلخيص لتلك المعلومات الأساسية كافياً كي يدرك القارئ حقيقة التنوير؛ إلا أنه لا بد مما ليس منه بد، ولا مفر من أن أسعى لهذا الهدف ولو كان عسراً؛ لأن تحقيقه يُعد ضرورة معرفية من دونها لا يحصل الفرقان بين الحق والباطل، فكانت السطور القادمة خطوطاً عريضة لا غير.
2 – تعدَّدت الأسماء:تعددت الأسماء التي يُعبَّر بها عن المفهوم محل التحليل ها هنا، ولا بأس من أن نُشير إليها إشارة سريعة؛ رجاء ألا يشتبه على القارئ هذا المفهوم إذا عُبِّر عنه بأحد هذه الأسماء.
(النور)، و(التنوير)، و(الأنوار)، و(الاستنارة)؛ جميعها أسماء يُعبَّر بها عن هذا المفهوم، وربما تم التعبير عن الحقبة التاريخية التي استوت فيها المكونات الأساسية لهذا المفهوم بـ (عصر التنوير)، أو (عصر الأنوار)، أو (عصر الاستنارة).
(والنور في الوجدان الإنساني هو عكس الظلام تماماً، كما أن الخير هو عكس الشر، ومن ثم فإن كلمة (الاستنارة) بمعنى الفكر الشبيه بالنور الذي يُبدد الجهل الشبيه بالظلام)[1].
3 – قسمة أساسية:
قسمة أساسية لا بد من الابتداء ببيانها كي لا نقع في اشتباك الألفاظ والدلالات الذي طالما أضل عن الحق وأوقع في الباطل، وكي لا نظلم أقوالاً ورجالاً بأن نضمهم في حزمة واحدة مع أقوال ورجال ليسوا منهم ولا يرضون هم عنهم؛ لذلك فنحن في سعينا هنا لعرض المعلومات الأساسية عن التنوير لا نرى محيصاً من قسمة التنوير إلى ثلاثة أقسام، وإفراد كل قسم بما يتعلق به تاريخاً وفكراً ورجالاً.
وهذه الأقسام الثلاثة هي:
أولاً: التنوير العَلماني الغربي.
ثانياً: التنوير العَلماني الشرقي[2].
ثالثاً: التنوير الإسلامي.
فالقسمان الأول والثاني إنما تم تقسيمهما باعتبار التنوع الجغرافي لا الفكري، بعكس القسم الثالث، والذي كان اختلافه الفكري عن القسمين الأولين هو ما جعله قسماً ثالثاً على نحو ما سيتضح في باقي المقال وقابل المقالات.
أولاً: التنوير العَلماني الغربي:1 – التنوير العلماني، وبحسب المركزية الغربية التي جعلت أوروبا تاريخاً وفكراً هي محور الأفكار في العالم؛ هو ظاهرة أوروبية في المقام الأول، وكل حركة فكرية غير أوروبية توجد فيها مكونات الفكر التنويري فهي مما أفاضته أوروبا على العالم؛ ولا شك أن هذا واقع في صور كثيرة كما في التنوير الشرقي (بفرعيه العلماني والإسلامي)، وإن حاولت بعض النخب التنويرية العربية رد التنوير لمكونات تراثية؛ إما نُفرة من المركزية الغربية، وإما تبيئة للتنوير الغربي وعبوراً به للعقل الشرقي على جسر من التراث، وسنزيد هذه الفكرة إيضاحاً في مقالات قادمة.
2 – يُقصد بالتنوير من الناحية التاريخية: الحقبة التي تمتد من نهاية القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر[3]، وفي هذه الحقبة كان مخاض منظومة الأفكار والقيم التي عاشت مدة حمل بدأت من عصر النهضة في القرن الرابع عشر والخامس عشر ومرت بعصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ثم القرن السابع عشر، والذي يسميه بعضهم عصر العقل، وانتهت بعد هذا إلى ولادة تطبيقها العملي في الثورات الثلاث، الإنجليزية (1688م)، والأمريكية (1776م)، والفرنسية (1789م)، ودساتيرها، وما مرت به أوروبا بعد ذلك من مد وجذر، وصولاً إلى حداثة القرنين الأخيرين.
3 – في بداية عصر النهضة شهدت أوروبا موجة من موجات الصراع بين الإنسان النازع للفرار من قبضة الوحي وبين الوحي الذي كان متجسداً وقتها في المسيحية، وهي وإن كانت مسيحية محرفة، إلا أن الذي نُحب تقريره هنا؛ لنصحح به صورة نمطية من صور تناول التيارات الفكرية الغربية: أن النزوع للهوى وإرادة نزع قدسية الوحي وإلزاميته والتي يُعبر عنها بالعلمانية، هي حالة شيطانية لا يزال الشيطان منذ اجتال بني آدم عن دينهم يؤزهم إليها، سواء كان هذا الوحي سليماً أو محرفاً، ولا شك أن لتحريف الوحي أثراً في تسارع ودعم حصول هذا النزوع؛ لكن الذي نؤكده أنه نزوع يقع من بني آدم بأز الشيطان لهم وتلبيسه عليهم ولو لم يكن الوحي محرفاً.
4 – وكان من أهم دعائم هذا النزوع للفكاك من سلطة الكنيسة ووحيها الصحيح منه والمحرف؛ الرجوع إلى الآداب والفلسفات الإغريقية، والتي كانت هي نفسها ضرباً من أشهر ضروب العلمنة في تاريخ الأمم وأفكارها، حيث يُعد الفكر الإغريقي من أشهر النماذج الفكرية العلمانية التي أعرضت عن الوحي[4]، وبنت نماذجها التصورية للإله والطبيعة والإنسان مع ما يستتبعه هذا من تصورات قِيمية = بنت كل ذلك عبر العمليات العقلية التي قام بها فلاسفتها دون الاهتداء المباشر بنور الوحي، بل بنتها من خليط عظيم من الفلسفات الشرقية وشذرات من الوحي، إضافة للنظر العقلي المستقل لهؤلاء الفلاسفة.
5 – فكان هذا التراث الإغريقي، مع التراث الإسلامي المنتقل لأوروبا، مع ما حصّله الرحالة الغربيون من تراث وثقافات الأمم المعاصرة لهم مع المسيحية نفسها التي لا يستطيعون الفكاك منها تماماً؛ هي المدخلات الثقافية التي عمل عليها العقل الأوروبي في حقبتي النهضة والإصلاح حتى بزوغ الأسماء الرئيسية التي شكلت البذور الفكرية للحداثة الغربية وأسست الأعمدة الرئيسة للفكر التنويري، وأذكر منهم: فرنسيس بيكون (1626م) وإسهاماته التجريبية، وتوماس هوبز (1679م) بماديته ونظريته في السيادة، وعقلانية ديكارت (1650م)، وباروخ اسبينوزا (1677م) وتأسيسه لنقد الكتب المقدسة برسالته في اللاهوت والسياسة، ثم جون لوك (1704) وتطويره لعقلانية ديكارت ومساهمته الأساسية في الفكر السياسي التنويري برسالتيه في الحكومة ورسالته في التسامح، ثم فيزياء إسحاق نيوتن (1726م) ودعم النظرة المادية الآلية للكون، ثم التنويريان الفرنسيان جان جاك روسو (1778) وعقده الاجتماعي، وفولتير (1778) ورسالته في التسامح وكتابه المهم: رسائل فلسفية، ثم مونتسكيو (1755م) وكتابه روح القوانين، وصاحب الموسوعة دينس ديديرو (1784م)، ثم الألماني لسنج (1781م) وكتابه المهم: تربية الجنس البشري، ثم فيلسوف ألمانيا الأعظم عمانوئيل كانط (1804) وكتبه النقدية الثلاثة، وفلاسفة إنجلترا جريمي بنتام (1832م)، وآدم سميث (1790م) واضع النظرية الاقتصادية الليبرالية، وفي أمريكا توماس بين (1809)، وتوماس جيفرسون (1826م)، وبنجامين فرانكلين (1790)[5].
تابع: الجزء الثاني »»» الجزء الثالث »»»
[1] (فكرة حركة الاستنارة وتناقضاته)، عبد الوهاب المسيري، (ص/9)، نشر: دار نهضة مصر.
[2] والمقصود بالشرقي في هذا المقال: الشرق العربي والإسلامي.
[3] انظر في تعليل هذا التحديد: (أزمة الوعي الأوروبي) لبول هازار، نشر المنظمة العربية للترجمة، وترجمة المستكاوي التي بعنوان: (أزمة الضمير الأوروبي)، والتي قدم لها الدكتور طه حسين = أحسن من هذه الترجمة في نظري.
[4] نعم أعرضت؛ وما من أمة إلا خلا فيه رسول.
[5] وليس خفياً على الباحث أن بين هذه الاتجاهات التنويرية، سواء من حيث تنوعها الجغرافي أو تطورها التاريخي أو حتى بتعدد أفرادها؛ ألواناً من الخلاف ربما تبلغ بنا أن نرى أن الدقة إنما تستدعي الحديث عن استنارات وليس استنارة واحدة، لكن يضطرنا لهذا الإجمال الطبيعة المدرسية لهذا التلخيص مع اتفاق هذه الاتجاهات في الأصول الفارقة بينها وبين الإسلام.