أدبقصة

تشابه

استلقى على ظهره وتمـدّد .. صوّب الوسادة تحت قفاه ، مـص بقوة دخان تبغه الرخيص ؛ أخرج من فمه سحابة دخان أسود ، استرد أنفاسه فصفعته برودة شتاء قارس .. جلول يعرف سنه الحقيقي بالتقدير. ذكرت جدته أنه ولد في ليلة شاتية . يقارب العشرين من عمره ، تابع دراسته في السلك الثانوي شعبة الأدب ؛ لكنه لم يحصل على الباكالوريا .خجول يتوارى في المناسبات الاجتماعية ، يجد صعوبة في التعامل مع الناس ، ولا يتقاعس عن مساعدة أبيه طيلة أشغال الفلاحة.

جارته عائشة تصغره بعامين، تحمل ملامح جمال متميز، وقد يـبرز بحدة عند ما ينضج ..! تكبر أمامه وتنمو كما تنمو الزهرة البرية . يُعِدُّ الأيام والأعوام لتصبح زوجته . يحيّـيها خفية ، ترد التحية وهي تختبئ وسط السنابل الخضراء، يعترضها في البئر، فترسم ابتسامة رقيقة على شفتيها. عمداً لا تبادله نفس الشعور مخافة افتضاح أمرها في القرية . ومع ذلك كان يمني نفسه بأمل منبثق من اللحظة ، لكن ثغرة عميقة نسفت ما كان يحلم بتشييده .غرق في أفكاره أياماً ، لكنه لم يسمح للفتور أن يتسلل إلى نفسه ،كلما تذكرها عاتب نفسه جهاراً قائلا :
ـــ كان من الأولى أن أتـقدم لخطبتها ، بدل أن أجْـري من ورائها مدة من الزمن . رمتـني كعقب السيجارة، استخفـت بالدُّوَار وأهله ، تنكرت لكَرْمتها وعوسجها . وفضلت مدينة الإسمنت لتعمل في البيوت.

جـلول يعاند الأيام ويرجو نفادها ، يراقب منشار الزمن وهو يأكل أعصابه على مهل . لم يذق طعم النوم كأنه وهب مقلتيه لسهاد الدهر كله كعاشق مبتدئ أصابه داء الحب بغتة .. أخذ يبحث عن مخرج لنفسه ، فقرر أن يرحل عن المكان مهما كانت العواقب ..
جاء فصل الصيف شحيحاً ومبكراً، ولم تجُد السماء بالمطر الكافي من قبل ، ضاقت النفوس ، وبرزت ملامح الجفاف تؤشر عن موسم فلاحي ضعيف الإنتاج ، مما حفزه أكثر ليغادر القرية بدعوى البحث عن العمل رغم اعتراض والديه.

مر جواد الزمن يطوي أيامه ، سأل عنها في الحي الذي قصدته ، تقصى أخبارها فلم يصدق كل الشائعات المخيبة لآماله . أسر المأساة في نفسه ولم يعقب ..
عاشر جلـول المدينة يوماً كاملا ، يتناوب علي الدروب والأزقة .. درب يلفظه وآخر يحتضنه . خطواته متـثاقلة، رياح ضعيفة تتلاعب بستائر النوافذ، شوارع إسفـلتية صلبة تعاند الزمن ،غربة مملة وتهميش قاتل؟
اندس في شارع كبير، اسمه تاريخي، انغلـقت دائرة الحياة من حوله . لا ينتظر من هذه المدينة مفاجآت سارة.. ومع ذلك ، استمر فيها بقوة داخلية لا يعيها تماماً . يعاند الزمن في كبرياء ، يحدق في وجوه غير مألوفة لديه ، بنظراته الحادة يخرق أجساد المارة. أجساد نساء تتماوج بين عينيه ، فتيات تـتـقن فن الإثارة ، صورة خلقت له ارتباكاً في رغباته . عادت به الذاكرة إلى رقصات الأجواق الشعبية التي كان يحضرها باستمرار. يتـنقـل بنظراته بين المارة كمن يبحث عن شخص معين ، يصطدم بحشود من الأجسام فـيفيق من سكرته . فكان نهْباً لكل الهواجس والتخمينات.
توقفت بالقرب منه حافلة ، لفظت ما في جوفها من لحوم بشرية . عادت جعجعتها في الاستمرار، استأنفت سيرها تاركة وراءها دخاناً أسود لم تستطع الرياح أن تبدده بسرعة . تقززت نفسه ، فاعترض بيده ما تسرب من دخان إلى أنفه. خواطر نهشت عواطفه بحدة فغمغم قائلا : أسير بكل حرية في قريتي .. لا أتوقف، ممراتها مفتوحة أمامي . خريطتها مرسومة في ذهني . بعـوسجها وقصبها وصبارها ، الآن من أنا ؟ قد أموت في هذه المدينة فلا يعرفني أحد؟

كـبُر العالم في عينيه لما كان مألوفاً لديه في قريته . اعترف أنه غير قادر على احتواء ما يقع في شوارع المدينة . لوحة متنوعة الأحياء ، مبعثرة الأحشاء .. تـيقن أنه يلهث عبثاً وراء عالم جديد ، من الصعب أن يمتلكه دفعة واحدة . ومع ذلك ، توهم أنه قادر على اختراق هذا الفضاء الجديد عن طريق حرق مراحل عديدة من الزمن ..اسودّ الفضاء في عينيه ، ضاق بالدنيا وأهلها . استولى عليه الخوف ، فتحاشى أن يفتح مجموعة من الأسئلة ، والوساوس تتلجلج في صدره.. لم يعد يذكر من أين جاء ؟ ولماذا جاء ؟ بحث عن اللهو فوجده في نفسه، فـشتان بين الأمس واليوم .. بكل سهولة تجاوز العلامات الحمراء.
في الواحدة ليلا ، أفرغت الحانات ما كان بداخلها من لحوم بشرية ، فتسابق الكل إلى العلب الليلية ، حُفَر الموت البطيء كما يسمونها . فقد سمع عن نوادي المدينة أنها تـبتـلع خلائق بشرية من كل الأصناف . فتيات جميلات تتنافسن على آخر صيحات الموضة ،عصارة أحمر الشفاه تحدث ضجيجاً في النفوس ، وأصباغ تأكل الخدود وتتجدد في كل لحظة ..
لم يتمالك نفسه ، تدحرج في درج ملتو والأضواء الحمراء تداعب الأجساد والجدران . نغم صاخب يلعلع في الفضاء ، ورقـص يؤشر على خرق فاضح للأخلاق . حاول أن ينصهر في الوضع الجديد رغم أنه لم يألفه . اشتد جنون الرقص الماجن ، تحركت الأجساد وهي تتلوى بين أضواء خافتة ، تماوجت مع إيقاع شعبي مبتذل .. نشوة نادرة تستفزه قلما أحس بها من قبل . أرقام بشرية خارجة عن الرقابة تعيش زمن جاهلية ثانية.

دون تفكير تواطأ مع الزمن على نشوة اللحظة ، استجابت نفسه فوراً للحاضر الماجن . سرى شيء في مسامه، احتار أيْنَ يركز نظره ، تاه بين منعرجات أجساد تتحايل على الحياة ، يدفعها الجوع إلى الغوص في الرذائــل بلا مجداف إنه عالم الخطيئة والـقذارة، ومع ذلك وجده ممتعاً.
ـــ أيعـــقل هذا ؟ عائشة تقتل ذاتها هنا ؟ صنعت لنفسها شخصية متميزة ، ترقص وترقص ، وتقول : ما رقصت !ولكنها لا تدري أنها كانت توقع على أيامها الخالية ، ولم تعد تخبئ شيئاً تتدفأ به في المستقبل..
ضحك . أسْرَف في الضحك ، أصابه فزع يابس ، وخوف مبطن بالشك ، من يدري ؟ قضم حبة لوز بأسنانه الأمامية ، زحزحها بلسانه تحت أضراسه ، عندما يتوقف عن المضغ يَشْدُو جهاراً مع نغم شرقي صاخب : ” ياريٌـي..ياريٌـي”

مـــر زمان وهي تسرق النظر إليه ، ترقبه من بعيد ، تترصد حركاته ، تقرأ ملامح وجهه على مهل . تكونت لديها قناعة أنه جلول ابن بلدها ؛ فلم تصدق أبداً، قالت في نفسها :
ـــ ما أظن أن الزمن يصلح ما فات ، ولكن .. من يدري ؟ فالزمن يدور بأيامه ..
اقتربت منه ، ودت أن تهمس في أذنه كلمات ، تمنت لو مد يده ليصافحها ، لكن …؟ تأمل شعرها ، دقق النظر في وجهها، بحث عن سمات معينة.. احتار أين يركز نظره ، تلهى بشاربه الأشعث ، ابتسم ، أطال في ابتسامته ، غمغم بنبرة تنم عن شفقة خالية من الحب والوفاء وقال :
ـــ من أنت ؟ لا أدري أين رأيتك ؟

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى