أدبقصة

جَلْدُ طَيْفٍ

أَغرَقَهَا كَدَائِمًا فِي مَوجِ عَواطِفَ لا قِبَلَ لِقَلبِهَا الطِّفلِ الغَافِلِ بِجَمَالِها، وَرَسَمَ لَهَا بِعَذْبِ حَرْفِهِ حَدَائِقَ نَرْجسٍ، بَدْرُهَا خَالِدٌ، وَنُجُومُهَا زُهْرٌ حَنيَّات، تُهَدهِدُهَا هَمْهَمَاتُ شَفَتَيْهِ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهَا فَتَغْفُو عَلَى خُدُودِ الوَرْدِ، وَتُدَاعبُهَا هَسْهَسَاتُ نَبْضِهِ فِي أُذُن حَنِينِهَا، فَتَتَمَطَّى مَعَ غَزْلِ الشَّمسِ لِخُيوط ابْتسَامَةِ فَجْرٍ نَدِيَّةٍ عَلَى بَتَلاتِ السِّحْرِ المُتَفَتِّحَةِ أَجِنَّةً قَيْدَ اكْتِمَالٍ في ظِلالِ جَفْنَيْهِ، لِتَجِدَ ذِرَاعَيْهِ مَفتُوحَتَيْنِ عَلَى مِسَاحَةِ الدُّنيَا تَحْتَويَانِهَا فِي خَيْمَةِ صَدْرٍ لا يَهُونُ وَلا يَخُونُ، تَحْتَمِي فِيهِ مِنْ صَعْقِ بَرْقِ الشَّراراتِ المُكَهْرَبَةِ بَيْنَ صَبرِهَا وَقَسْوَةِ عُمْرِهَا، فَتَحظَى بِفُسْحَةٍ مِنْ طُمَأْنِينةٍ وَسَلامٍ، وَتُطْلِقُ العِنَانَ لِأحْلامِهَا بِوَفَاءِ دَيْنِهِ، تَهَبُهُ نَفْسَهَا عَجِينَةً تَتَثَنَّى بَينَ أَنَامِلِهِ وَتَتَمَايَلُ عَلَى أَلحَانِ أَمَلِهِ كَجِنِّيَةٍ طَالِعَةٍ مِنْ فَانُوسِ أُسطُورَةٍ ، تَقْرَأُ فِي قَلْبِهِ نَجْوَاهُ وَحَنِينَهُ، وَتَتَلَمَّسُ فِي نَبْضِهِ هَوَاهُ فَتَكُونُهُ، لا يُثْنِيهَا عَنِ التَّعَلُّقِ بِأَذْيَالِهِ قِطَّةً عَاشِقَةً غَيْر تَوْقِهِ لِلانْفرَادِ بِأَحزَانِهِ إِذْ لا يَجِدُهَا إِلَى جِوَارِهِ حِينَ يُرِيدُهَا فِي غَفْلَةٍ مِنْ مَشَاغِلِهِ.

تَنْزَوِي فِي رُكْنِ تَوْقهَا إِلَيْه مُسْلمَةً الرُّوحَ لأَجْنِحَةِ الخَيَالِ تَحْملُهَا إِلَى حَيثُ هُو، فِي جَوْقَةٍ مِن أَسْرابِ الفَرَاشِ تَعْزِفُ عَلَى أَوْتَارِ النَّسِيمِ لَحْنَ هَوًى تَمِيسُ عَلَى أَنِينِهِ مُسْتَكِينَةً لِإيقَاعٍ لا يَعِيهِ سِوَى قَلبِهَا، يَرِفُّ وَيَضْطَرِبُ كَعُصْفُورٍ صَغِيرٍ يَضِيقُ بِأَسْرِ القَفَصِ الَّذِي يَحْتَويِهِ، وَيَتَقَافَزُ نَحْوَ الشُّرُوقِ الآسِرِ فِي عَيْنَيْهِ إِنْ تُشْرِقَا بِابْتِسَامَةٍ.

عَبَثًا حَاوَلَتِ البُكَاءَ حِينَ أَجْبَرَهَا ضَبْحُ شَمسِ الحَقِيقَةِ عَلَى فَتْحِ عَينَي خَيَالِهَا لِترَى الوَجْهَ الآخَرَ لَلضِّياءِ، عَبَثًا حَاوَلَتِ الصُّرَاخَ لِيَسْمَعَهَا فِي تِيهِهِ، لكِنَّهَا اسْتَحَالَتْ تِمْثَالًا صَقِيعِيًا، تَحَجَّرَتْ عنْدَ طَرَفَيْ عَيْنَيهِ بِذُلّ الصَّمْتِ مَاسَتَانِ بَرّاقَتَانِ تَعْكِسَانِ فِي البَسْمَةِ الجَوْفَاءِ فِيهِمَا لَوْنَ المَوْتِ، فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَ بَرْدِ شِتَائهَا دُونَ شَمْسِ صَيْفِهِ، وَأَسْلَمَتْ نَفْسَهَا لِأَسْيَافِ الظَّلامِ تُمَزِّقُ مَا بَقِيَ مِنْ كِيَانِهَا، لِتَسْتَجْدِي القَلْبَ نَزْفَهُ، تَجْدِلُ مِنْهُ سَوْطًا يَجْلِدُ طَيْفَهُ.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
Powered by atecplugins.com