فلسفة وأخلاق

الباراديغم العلمي الإسلامي.. قيمه الثقافية وخصائصه الإبستيمية (2-3)

القيم الثقافية الموجهة للبراديغم العلمي الإسلامي

1. تأسيس نظرية العلم: البناء الداخلي

القول في البناء الداخلي للبراديغم العلمي الإسلامي يقتضي القبول بمسلمتين يمكن صوغهما على النحو التالي:

إن النسق العلمي الإسلامي شكل ثورة على البراديغم العلمي اليوناني الذي هيمنت عليه الفلسفة اليونانية التي تزعمها المعلم الأول (أرسطو). وشملت هذه الثورة كلا من الأسس المعرفية، والطرائق المنهجية. وعلى الرغم من التقدير الخاص الذي حظي به الأعلام القدماء أمثال أوقليدس وأبقراط وجالينوس وبطليموس، فقد توجهت شكوك كثيرة لكثير من مصادراتهم وآرائهم ومناهجهم من قبل علماء الإسلام. وإذا كان البعض يتحدث عن عزلة الفلسفة والفلاسفة في المدينة الإسلامية، فمرد ذلك إلى أن الفلاسفة كالفارابي وابن وسينا وابن طفيل وابن رشد لم يستوعبوا هذا البراديغم الجديد، فظلوا مكبلين بالعوائق الإبستمولوجية التي فرضها عليهم البراديغم الأرسطي العقيم.

ينبغي أن نفرق بين مفهوم النسق المعرفي العام، وبين مفهوم البراديغم. فالأول يشمل أصول التفكير العامة التي يأخذها المسلم من الوحي، وتوجه نظرته للكون وللإنسان. فهذا النظام المعرفي له أسس توقيفية، يمكن أن تفهم وتعلل وتدرك مقاصدها بالعقل، ولكنها ثابتة بسبب ثبات مصدرها. أما البراديغم العلمي فهو يشمل كل الإنتاج العلمي الذي أبدعه العلماء متأثرين بروح النسق المعرفي العام، ولكن مفاهيمه وأدوات اشتغاله ومنجزاته تشكل نسقا معرفيا من الدرجة الثانية يقبل التغير والمراجعة والثورة عليه.

إذا سلم هذا، فالسؤال الوارد على المسلمتين هو: كيف نفسر وجود ثورة علمية في العالم الإسلامي القديم، رغم أن المدينة الإسلامية بنيت على أسس دينية؟ بعبارة أخرى: ما هو وضع المعرفة العلمية في الفترة المبكرة لظهور الإسلام وتأسيس الدولة النبوية ودولة الخلافة؟

لقد كانت الأجيال الأولى للمسلمين متشربة بالعقائد الجديدة التي أتى بها الإسلام، والتي كانت تتميز بالوضوح والبساطة والوسطية. لقد خاطبت العقل المفكر أن يتأمل في الطبيعة ليكتشف أن وراء دقة قوانينها وبديع جمالها، دليلا على خالق واحد، كما طالبت منه أن يعلم بأن للزمان مقادير مضبوطة يحتاج المسلمون إلى معرفتها لإقامة شعائرهم الدينية كالصلاة والصيام وغيرهما.. لقد أدى هذا إلى الإحساس بتقدير خاص لعلم الحساب من قبل المسلمين، ثم إلى ميلاد علم جديد هو علم التوقيت، شكل أصلا مهما لتطور الأبحاث الفلكية عند المسلمين قبل التعرف على كتاب المجسطي لبطليموس. وفضلا عن ذلك، فإن عددا مهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كان مدارها على موضوعات علمية دقيقة في مجالات الفلك والطب وعلوم الأرض والبحار والأجنة وغيرها… وليس المهم طريقة تفسيرها، بل القيمة الإبستيمية لوجودها ضمن الموضوعات الأساسية التي تضمنها خطاب الله المباشر إلى المؤمنين.

نستطيع أن نستنتج، إذن، بأن العقائد الإسلامية قد ولدت ممتزجة بالعلوم التجريبية والرياضية. وهذا ليس كلاما عاطفيا. فمن الممكن أن نستحضر مئات الشهادات العلمية على ذلك. لقد مثل القرآن الكريم وضعية جد متقدمة في تاريخ الكتب المقدسة الموجودة، فلأول مرة نلاحظ كتابا ربانيا يحرض على طلب العلم بصفة عامة، وعلى العقل الجبري التحليلي التجريبي بصفة خاصة. لقد تضمنت سورة العلق أول نداء تحريضي للتعلم، حيث يخاطب الله تعالى المسلم بقوله: “اقرأ”، ويتحدث عن مفاهيم الخلق والعلم والقلم… كان طلب القراءة باسم الله طلبا للتدبر في الكون والإنسان كيف خلقهما الله: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الاِنسان من علق﴾ (العلق: 1-2)، وهذه القراءة التدبرية في الكون والإنسان تستلزم تعلم القراءة والكتابة، فيدرك القارئ كيف علّم الله الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم.

﴿اقرأ وربك الاَكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الاِنسان ما لم يعلم﴾ (العلق: 3-5).

ولم يتوقف القرآن عند هذا الخطاب الأول، بل استمر في الدفاع عن قداسة والبحث العلمي والمعرفة العلمية، فيخاطب أتباعه وهم ما زالوا في مكة: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ (الزمر: 10)، ثم يقول لهم بعد تأسيس دولتهم في المدينة: ﴿يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ (المجادلة: 11).

ثم يأمر الله تعالى المتعلمين، منذ العهد المكي، أن يتمسكوا بالأخلاق العلمية المتمثلة في التواضع؛ لأنه: ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾ (يوسف: 76)، ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ (الاِسراء: 85).

كان لنظرية العلم التي بدأ تأسيسها مع خطاب الوحي مباشرة أثر مباشر في تكوين رؤية خاصة للمعرفة العلمية، ومناهج محددة للبحث العلمي، وسبل تنـزيل الرؤية والمنهج على الوقائع العملية المدروسة. لقد بدأت هذه الرؤية من توسيع مفهوم القراءة التي أمر بها القرآن أتباعه من أول يوم، لتكون فقها في القرآن والإنسان والأكوان.

لذلك كان التعريف الصوري للعلم الذي ورثه العلماء عن نظرية العلم الأرسطية محصورا بين دائرة ضيقة جدا من الفلاسفة، بينما ساد تعريف تداولي جديد للعلم عند أغلب الفقهاء والمتكلمين، حيث عرفوا العلم بأنه: “الاعتقاد الجازم المطابق للواقع”.

لقد عرف الفلاسفة العلم بأنه حصول صورة الشيء في العقل، وكان ذلك مدخلا لجملة من المشكلات الفلسفية التي انتقلت إلى الفلسفة عبر مفهوم الصورة الذي كان يعني عند أفلاطون فكرة Eidos  (idée) ولها وجود مفارق للمادة في عالم المثل. وهو عند أرسطو جوهر ملازم للمادة نفسها، لا مفارق لها. مما استدعى نقاشات عقيمة ملأت نظرية العلم عند الفلاسفة. أما عند العلماء: فإن ربط العلم بالاعتقاد من جهة، والدليل الصادق الجازم المطابق للواقع من جهة أخرى، قد شكل معلما من معالم الثورة على السياج البراديغمي اليوناني، وفتح النقاش في نظرية العلم في اتجاهين:

ـ الأسس الاستدلالية للعلم: من تحليل وتركيب، واستنباط واستقراء وتجريب وتطوير أشكال البرهنة من الشكل الصوري الأرسطي والشكل الرياضي الأوقليدي إلى الشكل التداولي الحجاجي. وهذا أغنى مناهج البحث التجريبي في فترة مبكرة من تاريخ العلوم الإسلامية، في مجالات الطب والكيمياء والفيزياء، فضلا عن علوم الحديث والتاريخ والفقه وأصوله. وهي علوم جمعت بين الاستقراء والبرهان، والدراية والرواية، ثم علم المناظرة وآداب البحث. بل كان بعضها علوما منهجية بالأصالة كعلم الأصول وعلم الحديث، تناقض التفكير المنهجي الموروث في الأورغانون المنطقي الصوري الأرسطي. وكان للعلم الرياضي حضورا أقوى من المنطق الصوري الأرسطي في ثنايا كل تلك المعارف العلمية.

ـ الأسس الاعتقادية والأخلاقية للعلم: كان للعلماء تقدير خاص للشريعة، يختلف جذريا عن نظرة الفلاسفة التي جعلتها خطابا من الدرجة الثالثة من حيث قيمتها العلمية، بعد البرهان والجدل. وهذا نجده عند ابن الهيثم وابن حيان وابن البناء وغيرهم. مما أدى إلى عدة نتائج من أهمها اثنتان على الأقل:

⇐ أولا: تحويل جوهري في النظرة إلى العلوم وأصنافها ومراتبها ومعايير دراسة العلاقات بينها. فبينما كانت لائحة العلوم الموروثة في تصنيفات البراديغم اليوناني للعلوم لا تتعدى البضعة عشر، نجدها تتجاوز الثلاثمائة علم في البناء العلمي الجديد للعلوم عند المسلمين. وترتب على ذلك أيضا تحويل جوهري في النظرة إلى العلوم الدائرة على الوحي كالتفسير والفقه والأصول والحديث، من النظرة الدونية التي تبناها الفلاسفة المتأثرين بالبراديغم العلمي اليوناني إلى نظرة جديدة تماما. نجدها عند مؤرخي العلوم المسلمين ابتداء من فهرست ابن النديم وما تلاه من عشرات المصنفات في تاريخ العلوم الإسلامية وأصنافها[10].

⇐ ثانيا: تحويل وجهة العلم الإسلامي من الاستغراق في البحوث الميثافيزيقية والكلام اللاهوتي الذي كان يعرف بجليل الكلام، إلى الاهتمام بالكلام العلمي في الكونيات والإنسانيات مما كان يعرف عند المتكلمين بدقيق الكلام، وأبدع فيه الفيزيائيون والكيميائيون والرياضيون… وغيرهم ممن أبدعوا نظرا ومنهجا وابتكارا، وانتهوا إلى نتائج باهرة مثل القول بحدوث العالم، وبإمكان توسعه ونسبية المكان والزمان، والنسبية الاحتمالية بدل الحتمية الصارمة، وهي نتائج متطورة في مجالها[11].

2. من نظرية العلم إلى بناء مجتمع العلم

قد يستغرب البعض من الحديث عن وجود ثورة علمية وبناء مجتمع العلم في المدينة الإسلامية التي بنيت على أسس “دينية”. ولكن ما بيناه سابقا من طبيعة هذا الدين الجديد ووضعية العلم الطبيعي والإنساني ضمن نصوص الوحي فيه، يرفع الالتباس. لقد كانت المدينة الإسلامية مدينة العلم والعلماء, وإنما السؤال الجدير بالإثارة هو: كيف حدث أنه في خلال قرن واحد حدث تحول كبير في المعارف العلمية؟ وبعبارة أخرى: كيف تم تأسيس تقاليد علمية في العالم الإسلامي بهذه الوتيرة بعد امتداد ما يسمى “بالفراغ الروماني” الذي استمر عدة قرون؟ أو بتحديد أكبر: من أين يبدأ فعليا تاريخ العلوم الإسلامية: هل من لحظة تأسيس نظرية العلم -أعني البناء الداخلي للنسق العلمي الإسلامي- أم من لحظة ترجمة معارف الشعوب المجاورة للمسلمين؟

تقدم الفقرة السابقة عاملا مهما يفسر هذا الأمر. علينا أن نتخيل كتابا دينيا أول آيات يخاطب بها أتباعه هي: اقرأوا واكتبوا وتعلموا. ويعلي من منـزلة العلماء في الدنيا وفي اليوم الآخر. كيف يكون هؤلاء المتدينون؟ طبعا سيقدسون العلوم وسيتنافسون في البحث عنها، وسيحترمون العلماء. إنهم سيقدسون العلم؛ لأن ذلك أول ما سمعوه في كتابهم المقدس.

إن العقائد الإسلامية الجديدة التي تميزت بالوسطية والوضوح، قادت الفكر العلمي في اتجاه مخالف في الغالب للعقائد الموجهة للبراديغمات العلمية القادمة من الهند والفرس واليونان، خاصة مع وجود قوة العلم التجريبي الناشئ. وهو أمر لاحظه بيير دوهيم P. Duhem (1861ﻫ/1916م)، فقال بأن رجال العلم المسلمين: “كان عليهم أن يتجرأوا، فيناقضوا آراء المعلم الأول. ولقد حتمت عليهم كسرَ نير المشائية قوتان: قوةُ العلم التجريبي، وقوة علم الكلام اللاهوتي. فالأول أجبرهم على التسليم بوجوب التنازل عن العقل إذا هم أرادوا اتباع حس أرسطو، والثاني أكد لهم أن ثقتهم في قول أرسطو تناقض إيمانهم بكلام الله[12].”

ومع ذلك، فلم يكن هذا هو العامل الوحيد الذي دفع إلى تأسيس تقاليد علمية في العالم الإسلامي. فقد كانت هناك حاجات مرتبطة بالتطور الحضاري للأمة الإسلامية دفعت إلى تأسيس تلك التقاليد التي ترتكز على عقلية علمية خاصة، تتميز بأنها عقلية جبرية وتحليلية وعملية.

إن الإسلام عندما كان يبني مدنه ويؤسس حضارته، تميز بعقلية تقدر العلوم الرياضية والطبيعية تقديرا كبيرا، وكانت أيضا عقلية عملية تستثمر العلوم في الحياة العملية للمسلمين؛ حتى أمور الالتزام الشخصي بالإسلام تطلبت نظرية متكاملة في الجبر والمقابلة، وعمليات الحساب في الكسور وفي الجذور، مثل مسائل الإرث والزكاة، زيادة على الأمور الحياتية الأخرى من تجارة وزراعة وصناعة ومعمار وتطبيب الخ…

 إذن، لم تكن الترجمة سببا في نشوء علوم الرياضيات والطبيعيات عند المسلمين، بل وسيلة مساعدة فقط. ونستطيع أن نضيف دافعين آخرين مهمين يفسران تأسيس تلك التقاليد العلمية في المدينة الإسلامية وهما:

أولا: الدافع السياسي والاقتصادي: ويتجلى في أمور ثلاثة:

أ. وجود إرادة سياسية في تحديث علمي للمجتمع الجديد. فكان هناك إشراف للدولة على النشاط العلمي تشجيعا وتنظيما وتمويلا. طبعا كان للشعب دور فاعل في هذا النشاط أيضا، سواء جمهور الناس أو النخبة، فالجميع –مثلا- كان يعطي قسطا مما يملكه وقفا على العلم والعلماء والمؤسسات العلمية[13].

ب. تطور النظم الإدارية في السياسة والاقتصاد: فمنذ بداية توسع الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، نشأ ما يسمى “فن الكتابة”؛ أي السكرتارية، وكان يضم فرعين: الأول: فن التدبير الإداري، وكان يسمى: كتابة الإنشاء، ويهتم بالكتابة في الدواوين، وبين مختلف إدارات الحكم. والثاني: علم المحاسبة، وكان يسمى: كتابة الأموال. كل ذلك دفع إلى تطوير علم الحساب، بصفة عامة، وتأسيس علم الجبر بصفة خاصة. كان هذا منذ مرحلة الخلافة الراشدة.

ج. تطور النظام النقدي: أعني صك النقود بدل حساب العصي الذي كان سائدا قبل المسلمين، واستمر في دول أوروبا إلى العصر الحديث. وهذا تطور مهم جدا؛ لأنه أدى إلى ظهور مناقشات في موضوعات اقتصادية بطريقة رياضية تتوقف على علم الحساب والجبر، مثل: سعر الصرف، ووزن النقود، وتداول النقد، والأسعار وحالات الرواج والركود… وغير ذلك من هذه الموضوعات. لهذا يقول رشدي راشد: إن اتساع الإمبراطورية الإسلامية من الصين إلى الأندلس، مع وجود نظم حسابية متعددة ذات أساس عشري، دعا -نتيجة لجمع الضرائب والخراج والجزية- إلى توحيد هذه النظم، وإيجاد علم رياضي مهم هو علم الجبر.

ثانيا: الدوافع الاجتماعية والثقافية: وتتجلى باختصار في اندفاع المسلمين إلى إنشاء حركة علمية واسعة تلبي الحاجات الاجتماعية المرتبطة بالصحة والتربية والتعليم ونحو ذلك. وقد ظهر ذلك في 5 أسباب:

أ. ميلاد المؤسسة التعليمية التي اتخذت عدة أشكال من أبرزها:

  • المساجد والكتاتيب القرآنية.
  • مجالس الخلفاء والوزراء والعلماء.
  • المدارس التي تطورت بشكل كبير في برامجها ونظمها التعليمية وطرق تسييرها الإداري والمالي، وحتى في عددها (مثلا: في القرن 4ﻫ كان في قرطبة وحدها 35 مدرسة، وفي القرن العاشر كان في مدينة سبتة المغربية على صغرها 40 مدرسة).
  • بيوت الترجمة ودكاكين الوراقة. ومن أشهرها “بيت الحكمة” الذي أسسه المامون العباسي.
  • إحياء المدن العلمية الكبرى مثل الإسكندرية وأنطاكية…
  • انتشار المكتبات العلمية الكبر وتطور نظمها بشكل واسع جدا.

ب. تطور علم المناهج La méthodologie لدى المسلمين؛ لأنهم احتاجوا إليه لفهم النصوص الدينية، ولحل المشكلات العديدة -التي كانت تسمى النوازل الفقهية- فنشأت عدة علوم ذات طابع منهجي: وخاصة علم أصول الفقه، وعلم التحقيق العلمي للنصوص والروايات والأحداث التاريخية، وعلم التفسير… وسوف نجد أن حركة البحث في ميدان الفقه لم تكن متزامنة مع حركة البحث في العلوم الدقيقة كالرياضيات والفيزياء والطب، فقط، بل كانت مرتبطة بها ارتباطا وثيقا.

ج. تطور علم اللغة بصفة عامة، وعلم المعجم بصفة خاصة، حيث ارتبط بالرياضيات منذ القرن (2ﻫ/8م) على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي (توفي 786م). نعلم أن هذا الرجل له أول معجم عربي ضخم هو “كتاب العين”، وأنه أول من استخرج أوزان الشعر العربي، ولكن لا يعلم الناس أنه أول من أدخل الرياضيات إلى علم المعجم، فاستخرج الجذور اللغوية للكلمات مستعملا ما سوف يسمى بعده بالتحليل التوافيقي L’analyse combinatoire وهو من أهم النظريات الرياضية التي أبدع فيها المسلمون، وبلغت قمتها في القرن السادس على يد فقيه ورياضي مغربي، يسمى ابن منعم العبدري الذي ابتكر مثلثا للتوافقات العددية ينسب اليوم خطا لباسكال حيث يسمونه Triangle de Pascal وهو موجود في كتاب “فقه الحساب” لابن منعم.

د. التطور التقني والعلمي الدقيق. فقد تطورت الصناعة الطبية في فترة مبكرة، ونشأت الميكانيكا مستعينة بالهندسة، حيث تم اختراع أول ساعة ميكانيكية ضخمة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وظهر علم التوقيت الذي كان السبب في تطور علم الفلك كما قلت سابقا.

ﻫ. نشوء الجدل العلمي في القضايا الدينية منذ بداية العصر الأموي، سواء بين المذاهب العقدية الإسلامية، أو بين المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد والديانات الأخرى، وبالطبع في جو هذا الجدال أثيرت قضايا فلسفية وعلمية مثل طبيعة المادة ومكوناتها، والزمان والمكان والحركة والخلق والعقل والجسم…

فهل يعني كل هذا إلغاء أي دور للكتب التي ترجمها المسلمون في ميادين علمية مهمة كالطب والفلك والرياضيات… في نشأة تلك التقاليد العلمية في العالم الإسلامي؟

ينبغي علينا أن ننظر إلى هذا الموضوع نظرة شمولية. فبعض المستشرقين الكلاسيكيين قالوا إن كل المعارف العلمية لدى المسلمين هي معارف يونانية كتبت بأحرف عربية. المسلمون اكتفوا بترجمة علوم اليونان وباقي الأمم الأخرى. هذه نظرة اختزالية وتبسيطية لما يجري في كيفية تكون الحضارات الإنسانية وعلومها. إن بيت الحكمة الذي كان مؤسسة لترجمة الكتب الأجنبية كان مجرد حدث واحد ضمن تيار واسع جدا من الأحداث الفكرية والحضارية، أسهمت كلها في إحداث ذلك الانقلاب العلمي الذي وقع في بلاد الإسلام. لم تكن الترجمة سببا لنشأة العلوم عند المسلمين، وإنما كانت وسيلة مهمة أغنت ذلك التيار العلمي والحضاري الذي كان يتصاعد بالتدريج. والذين يظنون أن مجرد ترجمة بضعة كتب قديمة كان سببا في نشأة العلوم عند المسلمين مخطئون وسطحيون: فكم من الكتب اليوم نترجمها في العالم العربي والإسلامي اليوم دون فائدة؟ المسألة أعقد من هذا؛ لأن بناء المجتمع العلمي هو عملية حضارية شاملة تتضافر فيها العوامل السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية…الخ.

ضمن الحركة الواسعة لبناء مجتمع العلم عند المسلمين، كان طبيعيا أن تكون ترجمة كتب الأمم الأخرى في المجالات العلمية جزءا من هذه الحركة، كما كان طبيعيا أن تكون الإدارة السياسية للدولة والإدارة العلمية لبيوت الترجمة، كبيت الحكمة مثلا، إدارة منفتحة إلى أقصى الحدود. فقد استوعبت الإدارة الحاكمة وسياستها التعليمية، منذ فترة الخلافة الإسلامية، علماء الملل الأخرى في مجال الطب والعلوم الدقيقة، وأمثلة ذلك كثيرة: هناك أسر نصرانية عرفت بالطب واشتغلت بكاملها في قصور الخلفاء وباحات المدارس، ولقيت كل تقدير واحترام، كأسرة بختيشوع مثلا، التي كان من أبرز علمائها المشتغلين بالترجمة من الجد حتى الحفيد الابن: جبرائيل بن بختيشوع (218ﻫ/833م)، وبختيشوع بن جبرائيل (256ﻫ/869م)، وجبرائيل بن عبد الله بن بختيشوع (396ﻫ/1005م)، وعبيد الله بن جبرائيل بن بختيشوع (453ﻫ/1061م).

وأيضا من العلماء الذين كانوا على ملل غير الإسلام: تاودون (نصراني توفي بعد 132ﻫ/753م)، ويوحنا بن ماسويه (243ﻫ/857م)، وثابت بن قرة صابئي (288ﻫ/900م)، وحنين بن إسحاق (260ﻫ/873م) وإسحاق بن حنين (298ﻫ/911م) وقسطا بن لوقا البعلبكي (300ﻫ/912م) ويوحنا يوسف بن الحراني (200ﻫ/815م)، وسنان بن الفتح الحاسب (نحو 210ﻫ/825م) وغيرهم من النصارى.

نستنتج مما تقدم أن الإنجازات العلمية المبكرة لدى المسلمين في الكيمياء والفلك وغيرهما قد تحولت إلى نماذج علمية إرشادية. فقد انطلقت مع حركة البناء الحضاري للأمة الإسلامية؛ إذ كانت هناك حاجات حضارية شكلت دوافع حقيقية نحو تأسيس تقليد علمي إسلامي، وكان إنجاز ذلك غير ممكن إلا مع تأسيس عقل جبري تحليلي عملي. فما هي الخصائص المعرفية للنسق العلمي الإسلامي الذي نبتت في أحضانه هذه النماذج الإرشادية العلمية؟


[10]. ينظر: إدريس نغش الجابري،  دراسات في تاريخ العلوم الإسلامية وتاريخها، ص22-47.
[11]. ينظر في ذلك بحث الدكتور محمد باسل الطائي: دقيق الكلام: الرؤية الإسلامية لفلسفة الطبيعة، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2010م.
[12]. دوهيم، بيير، مصادر الفلسفة الإسلامية، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، دمشق: دار الفكر، 2005، ص18.
[13]. في الحقيقة كما نحتاج اليوم إلى دراسات متخصصة تفسر لنا دور الدولة في البحث العلمي عند المسلمين، فإننا نحتاج كذلك إلى دراسات متخصصة تفسر لنا دور الوقف في تطور المؤسسة العلمية لديهم.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى