اللغة والتواصل
هل اللغة مجرد أداة للاستخدام التواصلي فقط؟ أم أنها من أكثر الوسائل نجاعة في إعاقة التواصل وقطعه؟ وهل هي بالفعل مجرد أداة مطواعة للاستعمال أم لها قدرة على التحكم في من يستعملها؟
على مستوى تعداد وظائف اللغة، يقول جاكوبسون في كتابه «مقالات في اللسانيات العامة» بأن اللغة لا تؤدي وظيفة التواصل وحدها، بل لها أبعاد وظيفية أخرى، وهو بذلك كان ينتقد التصور التقليدي الذي يختزل وظائف اللغة في : الوظيفة التعبيرية ؛ أي تلك التي تتعلق بالمرسل، حيث يكون الدور الوظيفي فيها هو تعبير المرسل عن ذاته. والوظيفة التأثيرية؛ أي تلك التي يكون فيها القصد من الخطاب اللغوي هو تأثير المرسل في المرسل إليه. والوظيفة المرجعية، حيث يكون دور الخطاب هو الإخبار عن موضوع / مرجع ما، لأن جاكوبسون يرى للخطاب اللغوي ثلاث وظائف أخرى إضافة إلى ما سبق .
والمنهجية التي اعتمدها جاكوبسون في الكشف عن التعدد الوظيفي للخطاب اللغوي، هي تحليل الخطاب وتحديد مكوناته وعناصره. وبدراسته لعناصر الخطاب، انتهى إلى أنه مكون من ستة مكونات؛ أي كل مكون تقابله وظيفة، ومن ثم تكون لدينا ست وظائف، إذ ينضاف إلى الثلاث، السابق ذكرها، ثلاث وظائف أخرى هي: الوظيفة الشعرية، ووظيفة التأكد من الاتصال، ووظيفة وصف اللغة للغة.
لكن هذا التعدد في توظيفات اللغة لا يمنع القول، إن أشهر وأبرز بعد وظيفي انتبه إليه الفكر الإنساني في تأمله للغة كأداة هو التواصل؛ فتأدية وظيفة التواصل ضرورة ماسة داخل الاجتماع والعمران البشري. فلا يمكن للمجتمع الإنساني أن يكون وينتظم بلا لغة؛ أي بلا أداة لتوصيل الأفكار والمشاعر والرغبات، إذ من دون هذا التوصيل لا يتحقق الاجتماع . ومن هنا نفهم دلالة القول : اللغة ضرورة لتحقيق الاجتماع.
لكن النظر إلى اللغة من خلال بعدها السلطوي، أدى بالفكر الفلسفي المعاصر، فكر ما بعد الحداثة، إلى قلب كل المعادلات، حيث لم يقتصر على التشكيك في القصد التواصلي للغة، بل نحا في اتجاه التأكيد أن القصد الأساس في استخدام اللغة هو السيطرة على الآخر، ثم انتهى إلى القول بأن اللغة تسيطر على الذات نفسها، حيث خلص التأمل الفلسفي المعاصر إلى أن اللغة ليست تلك الأداة المطواعة، التي يستخدمها الفرد، بكل حرية واختيار، للتعبير عن أفكاره ومشاعره وتوصيلها إلى الآخر، بل للغة سلطة على الذات وعلى الآخر أيضا . ففي درسه الافتتاحي بالكوليج دو فرانس سنة 1978، تحدث رولان بارت عن اللغة، مشيرا إلى أن الطابع الأساس الذي يميزها هو السلطة ؛ أي أن تعريف اللغة وفهمها لا يتحققان من دون استحضار بعدها السلطوي؛ فالإنسان في استخدامه لها يكون سيدا وعبدا في آن واحد : فأنت لا تستخدم اللغة كيفما تريد، بل تخضع ابتداء لنظامها وقواعدها المقررة والمفروضة عليك بلا اختيار منك؛ فهي إذن تمارس سلطتها عليك . ومن ثم ليست اللغة ركاما من الألفاظ، يختار منها الفرد المتكلم ما يريد ليعبر عما يريد، بل خلف هذه الحرية الظاهرية، وخلف هذه السيادة الزائفة ثمة استعباد لمستعمل اللغة، لأنها ليست ركاما، بل هي نظام ونسق له قواعده وسننه، ومن ثم فهي تفرض على الناطق بها كيفيات معينة للتركيب والتوليف بين تلك الألفاظ . يقول «بارت» في درسه الافتتاحي، بلغة تطفح منها شحنة اصطلاحية إيديولوجية كانت تسود مرحلة السبعينيات من القرن الماضي: «ليست اللغة رجعية ولا تقدمية، ولكنها بكل بساطة فاشية، لأن الفاشية ليست منعك من الكلام، بل هي إلزامك بقول كلام معين». وفي اللغة – كل لغة– تكمن هذه الخاصية السلطوية، حسب رولان بارت.
ولا تنحصر السلطة في علاقة اللغة بالذات، بل تمتد إلى العلاقة اللغوية بين الذات والآخر. فالتواصل بين الناس هو – حسب رولان بارت – في حقيقته ممارسة للسلطة لا ممارسة للتواصل .
لم تعد اللغة في التفكير اللساني المعاصر تُتَصَوَّرُ كوعاء فارغ، يحمل المضامين الفكرية بكل طواعية – كما كان فقه اللغة القديم يعتقد –، بل لكل لغة طبيعتها اللسانية والمعرفية الخاصة التي تميز نظامها الدلالي والتركيبي، إذ يحايثها منطق خاص يحدد لها – ضمنيا – “رؤية إلى العالم“، لها خصائصها ومميزاتها. ولذا، فالتفكير من خلالها لابد أن يخضع – ولو نسبيا – لمؤثراتها. وإذا كان هذا “الاعتقاد” اللساني يتحدث عن اللغة بشكل عام، فإن معناه هذا يصدق بالأحرى على جزئياتها : أقصد المفاهيم والمصطلحات؛ فالالتزام بمصطلح معين والتفكير من خلاله، واعتماده في توصيف الواقع، يؤثران ولا ريب في رؤية المفكر ويحدد أفقها. فكثيرا ما يُلاحظ أن الالتزام باصطلاح مفهومي مغلوط، يؤدي إلى رسم حدود وطبيعة الرؤية، ويوجه مسار الرؤية والمعالجة الفكرية، ومن ثم ينحدر بالتحليل إلى المغالطة والقصور، ولذا لابد من الوعي بأهمية المصطلح اللغوي، والحرص على الضبط الدلالي للمفاهيم.
ومعلوم أن المصطلحات والمفاهيم تستمد قيمتها من كونها لغة التفكير العلمي، خاصة في العلوم الإنسانية التي يقل فيها الترميز الرياضي، وتتوسع مساحة الاشتغال باللغة الطبيعية واعتماد مكوناتها اللسنية.
واللغة الإنسانية بطبيعتها تتميز بالغنى الدلالي، وتعدد معانيها وإيحاءاتها : فلفظ واحد، قد تكون له عدة معان، تصل أحيانا إلى حد التباين، وهذا الغنى والثراء الذي تتمتع به اللغة البشرية هو بالضبط مكمن نقصها وقصورها، من وجهة نظر الرؤية العلمية، التي تستهدف الدقة في ملاحظة وإبصار الواقع، والدقة في نقله ووصفه لغويا. فإذا كانت الرؤية الأدبية تجد إمكانيات ثرائها في تعدد دلالات المكونات اللغوية، وانزياح معاني الألفاظ، فإن الرؤية العلمية تتشوش وتضعف بسبب هذا التعدد الدلالي؛ ولهذا السبب حلم العديد من الفلاسفة، مثل سبينوزا ولايبنز وفتجنشتين وبرتراند راسل … بلغة فلسفية دقيقة في مثل دقة اللغة الرياضية. لكن مشروعاتهم المعرفية التي حاولوا من خلالها تأسيس هذا الحلم وإنجازه، ظلت في حدود التمني والرغبة، ولم تتجاوز ذلك إلى مستوى الإنجاز والتطبيق إلا بخطوات محتشمة، ظلت هي نفسها دليلا على استعصاء تحقيق حلمهم، أكثر مما كانت ممهدات إلى تحقيقه وإنجازه.
ولكن نتائج أعمالهم تلك، إن فشلت في إنجاز الحلم، فإنها أذكت خطورة اللغة الطبيعية، وقوة تأثيرها في توجيه الفكر ورسم مساراته وحدوده. ذلك لأن كل لغة – كما يقول اللساني المعاصر أندري مارتينيه– تمثل طريقة معينة في تنظيم العالم، وبالتالي فالتفكير في العالم هو في جوهره تفكير، انطلاقا من نمط لغوي محدد، وقد أجاد المفكر الإسلامي السيرافي حين أرجع منطق أرسطو إلى النحو اللغوي اليوناني، مبينا بذلك ضمنيا أن فعل التفكير لا يمكن فصله عن فعل التعبير.
غير أننا إذ نقول بهذا، لا نقصد أن نأخذ بنظرية الحتمية اللغوية، كما يقول بها رولان بارت – أو إلى حد ما هايدغر–، بل نقصد الإشارة إلى تأثير نظام اللغة على طرائق التفكير، دون الوقوع في القول بوجود جبرية لغوية .
إن كشف البعد السلطوي للغة يؤدي إلى إعادة النظر في مجمل إشكاليات اللغة ووظائفها؛ فعلى ضوء هذا تمت إعادة دراسة علاقة اللغة بالفكر، فلم يعد المرء عند بعض التوجهات البنيوية المتطرفة يفكر باللغة، بل تفكر اللغة به، ولم يعد الإنسان كائنا يستخدم اللغة للتواصل، بل أصبح كائنا خاضعا لحتمية لغوية، مشدودا إليها في تفكيره، ملزما بها في تواصله. ولم تعد اللغة نظاما تواصليا شفافا يوصل المضمون الشعوري والعقلي بأمانة، بل أصبحت في التقدير الفلسفي واللساني المعاصر نظاما معقدا يمارس لعبة الإخفاء والإظهار في الوقت ذاته، نظاما يفيد في إنجاز عملية التواصل، ويعوقها أيضا. ولم يعد الإنسان يقول ليعبر، بل يقول ليسود، وكل هذا يحدث في اللغة وبها؛ وكل هذا يسوغ القول مع «جوليا كريستيفا» إن اللغة هي بالفعل «ذلك المجهول»، إذ بقدر تعاظم واتساع الدراسات المهتمة بها، بقدر انكشاف طبيعتها الإشكالية المعقدة.