قضايا ثقافية

القراءة ونوعية النص

يعد فعل القراءة أحد أهم الخصائص التي يمتاز بها الكائن الإنساني، وأساسا من أسس التكوين المعرفي في واقع التنشئة الاجتماعية. بيد أننا في هذا المقال لن نتناول فعل القراءة من حيثية علاقته بالماهية الإنسانية أو من حيثية وظيفته الاجتماعية أو التعليمية، إنما نقصد بيان البعد الإشكالي لهذا الفعل في علاقته بإنتاج الدلالة.

ليست القراءة مجرد فعل حر بلا أشراط، بل هي موقف مشروط بالعديد من العوامل المحددة لأفق القراءة ومحصولها. وإذا كانت النظرة التقليدية لم تؤشكل دلالة القراءة بما يخلخل من وثوقية الفعل، فإن النظرة الفلسفية المعاصرة بالغت في بيان الوضع الإشكالي للقارئ والمقروء، إلى درجة نفت عن النص أية هوية، وجعلته محل بلورة دلالية حرة من القارئ. كما ذهبت توجهات أخرى إلى نفي أولوية فعل القراءة لصالح النص، في مقابل تلك النزوعات التي رهنت النص بآليات وشروط التلقي. وفي السياق ذاته، أخذت تؤكد نماذج فلسفية أخرى على نظريات تمويت المؤلف وسلطة اللغة، على نحو سحبت المؤلف من مركزيته، ليس لتعويضه بذات إنسانية؛ أي ذاتية القارئ، بل عوضته ببنية اللغة؛ فصارت هذه البنية بقوانينها ونظمها متحكمة على نحو مطلق في عملية إنتاج النص وقراءته.

كل هذا وذاك، يجعل السؤال عن دلالة مفهوم القراءة سؤالا ذا قيمة وراهنية في الفكر المعاصر. لكن بحث دلالة القراءة لا ينبغي أن ينفصل عن سؤال نوعية النص، بل إنه من العبث تحليل الوضع الإشكالي لفعل القراءة في غياب تحديد نوعية المقروء وكيفية القراءة.

فما دلالة القراءة ؟

وهل تتساوى النصوص بمختلف أنواعها في انفتاح فعل القراءة وقابلية التأويل، أم أن النصوص تتنوع وتختلف في طبيعة بنيتها الدلالية، فتتنوع من ثم في درجة اقتبالها لحرية فعل التأويل؟

بعد التطورات الفلسفية واللغوية والنقدية المعاصرة، والامتدادات والتحولات المنهجية التي أرستها نظرية التلقي ـ التي تجد كنظرية نقدية أدبية ممهدات لها في الفلسفة الفينومينولوجية والنظريات السميوطيقيةـ لم يعد فعل القراءة ينظر إليه كفعل تلقائي بسيط، خلاصته تمرير فعالية الإبصار على المكتوب، بل إن القراءة موقف فاعل تجاه النص، مسكون بالحركية والذاتية، وتتداخل فيه عوامل شتى، وتتجاذبه جواذب متعددة تجعل من فعل القراءة إعادة إنتاج للنص وتأويلا له، وليس فقط استحضارا له. فقد تم تجاوز ذلك الموقف التقليدي الذي كان يمايز ويفصل بين القراءة والتأويل إلى موقف يدمجهما جاعلا كل تأويل قراءة، وكل قراءة تأويلا . فالقراءة إذن، سلوك موجه منهجيا سواء وعى القارئ ذلك أم لم يع، ولذا تذهب الفلسفة المعاصرة إلى التوكيد على وجوب الوعي بطريقة قراءتنا، والأذواق والكيفيات المنهجية المضمرة التي نخضع لها خلال فعل القراءة.

إن فعل القراءة – بحسب منظور فلسفة اللغة المعاصرة – ليس فعلا حرا كما قد يتبادر إلى الذهن عند الوهلة الأولى، بل إن قليلا من التأمل في عملية القراءة وكيفية تحصيلها لدلالة/دلالات المقروء يكفي للكشف عن مشروطية هذه العملية بشروط عديدة. وإذا اعتبرنا القراءة تواصلا، وإذا استحضرنا مكونات العملية التواصلية كما حددها اللسانيون ـ أحيل هنا بشكل خاص إلى جاكوبسون ـ نجد أن الخطاب يتم توصيله إلى المرسل إليه، إذا ما توافرت ستة مكونات يمكن اعتبارها استنادا على جاكوبسون شروط العملية التواصلية التي بتوافرها يرتهن تحقيق التواصل؛ فبالإضافة إلى الخطاب/ الرسالة، والمرسل، “المنتج” للخطاب، والمرسل المتلقي له، لا بد من اشتراك المرسل والمرسل إليه في ” السنن ” code ، ولا بد من قناة اتصال، كما لابد للخطاب من مرجع.

ويستوقفني هنا بشكل خاص مكون ” السنن “؛ فالمرسل في عملية إنتاجه للخطاب يستخدم سننا خاصا من مواد لغوية تواصلية، هذا السنن الذي يجب أن يتوفر للمرسل إليه، لكي يتمكن من تفكيك الخطاب والنفاذ إلى المعنى الذي أراد المرسل توصيله إياه. ومن هنا نلحظ أن القراءة فعل مشروط بنظام سنني. وليست السنن مجرد تجاويف لفظية أو علامات رمزية، بل هي لغة، واللغة كينونة ثقافية، بل يمكن أن نقول إن القراءة هي اشتغال بالسنن على السنن في أفق الإمساك بالمعنى، أو بالأحرى إعادة إنتاجه أو إنتاجه؛ ولذا فالقراءةكما يقول تودوروف هي ” بناء “، وليست مجرد ملاحظة لبناء جاهز صنعه المؤلف.

بيد أن النصوص تختلف من حيثية علاقة فعل القراءة بطبيعة مستوياتها الدلالية. وهنا يمكن أن نحيل على رولان بارت الذي يصنف في كتابه ( S/Z ) النصوص من جهة فعل قراءتها إلى ثلاثة أصناف :

  • نص القراءة الأحادية.
  • نص القراءة المتعددة ولكن المحددة.
  • نص القراءة المتعددة اللامحدودة.

فالنصوص العلمية والقانونية هي ـ حسب بارت ـ من صنف نصوص القراءة الأحادية؛ لأن بنيتها وطبيعة أسلوبها تستهدف الإفصاح عن مدلول واضح يمكن للقارئ الإمساك به دون التباس أو خلط، على عكس الصنف الثالث؛ أي صنف نصوص القراءة المتعددة اللامحدودة؛ لأن هذا الصنف من النصوص يتأسس ويتكون على أساس موقف منهجي من السنن اللغوي، خلاصته التحرر من القيود الدلالية للنسق اللغوي، كما هو الحال في بعض أشكال الخطاب الشعري، أو نماذج الخطاب النثري الشذري الأقرب إلى اللغة الشعرية.

أما الصنف الثاني، وهو الصنف الذي تُدرج فيه بشكل عام النصوص الفلسفية، فهو يختلف عن الصنف الأول (نصوص الخطاب القانوني و العلمي) في كون بنيته الدلالية لا تفرز دلالة أحادية، بل تسكنها قابلية لإنتاج دلالات متعددة، بحسب تعدد القراءات وتنوع منظوراتها ومواقع صدورها ، ولكن هذا التعدد ليس كتعدد نصوص الصنف الثالث؛ أي تعددا غير محدود، كما هو الحال في بعض نماذج الخطاب الشعري التي تنفتح بتحرر أمام سياقات المجاز والكناية والاستعارة بل والانزياح اللغوي الذي يحرر الشاعر من الانضباط لنظام الدلالة المعجمي، بل ثمة في نمط النص الفلسفي حدود لهذا الانفتاح الدلالي. وضمن هذه الحدود، تصبح القراءة مشروطة وقابلة للامتحان، والمعايرة بالمقياس النقدي الذي يحكم على مدى صدقية ما تنتهي إليه من دلالات.

غير أن ثمة نصوصا فلسفية تتوسل لغة أقرب إلى نمط القول الشعري في فعل انزياحها، وهذا النوع من النصوص أقرب إلى الصنف الثالث؛ أي أقرب إلى صنف النص الشعري المنفتح دلاليا.

وعليه، فالحديث عن مسألة القراءة وإنتاج المعنى، لا ينبغي أن يكون منفصلا عن مسألة طبيعة النص ذاته.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى