قراءة في كتاب

قراءة عامة في (اقتصادنا)

ـ تمهيد:

مثَّل كتاب (اقتصادنا) للعلامة العراقي الكبير محمد باقر الصدر (1935-1980) ثورة فكرية حقيقية في مجال البحث الاقتصادي الإسلامي ، فالكتاب الذي صدر بداية الستينيات ثم أتبعه بكتاب البنك اللاربوي في الإسلام ؛ لم يسبق بأبحاث تقدم أي فكرة متساوقة ومتماسكة في الاقتصاد الإسلامي ، وتبعه مباشرة فورة في الكتابة في ذلك المجال ، كان كثير منها تردادا لأفكاره ، كما لا تخطئ العين في العدالة الاجتماعية في الإسلام للشهيد سيد قطب ، والإسلام والنظم الاقتصادية المعاصرة للأستاذ أبي الأعلى المودودي ، ثم في مرحلة لاحقة : اشتراكية الإسلام للشيخ مصطفى السباعي.

والجدير بالانتباه حقا في ذلك المنجز الفكري الاقتصادي السياسي للصدر هو أنه نمط من الكتابة الواعية ، التي يدرك فيها الباحث أنه بصدد (اكتشاف) مذهب إسلامي اقتصادي ، الأمر الذي حدا بالصدر أن يسمو في نفسه البحثي فوق الانقياد المذهبي الصرف ، فيورد أحيانا بعض الآراء الفقهية لمالك والشافعي وابن حزم والسرخسي ، ولذا نراه يصارح القارئ بأن أي مذهب اقتصادي متكامل يقوم وفق نظر شرعي حقيقي – ” قد تم بسماح إسلامي وفق تعبيره فهو مذهب اقتصادي إسلامي ، فإنه من الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين أن يقدموا صورا مختلفة للمذهب الاقتصادي تبعا لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل تلك الصور صورا إسلامية للمذهب الاقتصادي “.

هذا رغم أن المادة الفقهية الأساسية في (اقتصادنا) هي انتقاء من التراث الفقهي الشيعي الكلاسيكي ، القائم على شرح شرائع الإسلام ، ومطولات الشهيد الثاني ، والوسائل ، وغيرها من مدونات الفقه الإمامي المعروفة ، حيث لم يكن الصدر قد شرع في بحثه الفقهي التجديدي ، الذي أنجزه بعد ذلك في بحوثه على العروة الوثقى، والمعالم الجديدة للأصول، ومباحث الألفاظ ، وتجديد علم الأصول ، وغيرها .

والمقصود من تلك الورقة هو : تقديم قراءة كلية لـ (اقتصادنا) ، بقدر كامل من الأمانة في العرض .

فالمراد بالقراءة الكلية : بيان البنى النظرية العامة لـ (اقتصادنا) ، وذلك ببيان أهم المبادئ ، والتقاسيم ، والمفاهيم ، التي أثارها الصدر في (اقتصادنا) ، دون التعرض للبحث التفصيلي فيه ، ولعله لذلك لم ألتزم بأمرين تقليديين في مثل تلك الورقات ، هما : الترتيب ، والإحالة التفصيلية ، فقد قدمت في بعض المباحث ليس دائما بما أراه أصح في ترتيب القراءة العامة ، ولم أحل تفصيلا لكل موضع في (اقتصادنا) .

والمراد بالأمانة هنا: طرح القراءة الكلية وفق وجهة نظر المؤلف، كما أرادها دون إعادة تأويل أو توجيه أو مناقشة، وترك التحليل والمناقشة والتقويم لـ(اقتصادنا) للقارئ والباحث ، دون تعرض لذلك الأمر في ورقة مختصرة كتلك .

ـ تنظيرات الصدر :

كعادته في الاهتمام الصارم بالتنظير ، فرّق الصدر بين (المذهب) و(العلم) ، فالمذهب الاقتصادي هو الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشكلاتها ، أما علم الاقتصاد فهو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وظواهرها ، وبناء على ذلك فإن الصدر يطرح أربع فرضيات لبحثه ، يمكن دمجها في فرضيتين نظريتين :

الأولى : أنه ـ وفق التحديد السابق ـ فالاقتصاد الإسلامي (مذهب) ، وليس (علما) ، فأعظم المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي مبدأ (العدالة) ، والعدالة في نفسها أمر تقديري ، وتقويم أخلاقي ، ومن ثم يمكننا تحديد ما يدخل في مفردات المذهب الإسلامي في الاقتصاد ، وما يدخل في مفردات علم الاقتصاد ، فعلى سبيل المثال : مبدأ الملكية الفردية ، أو إلغاء الفائدة ، هي مندرجة تحت مبدأ العدالة ، ومن ثم فهي من مفردات مذهب الاقتصاد الإسلامي ، بخلاف قوانين العرض والطلب ، أو قوانين تناقص الغلة ، فهي تابعة لمجال علم الاقتصاد .

الثانية : أن الاقتصاد الإسلامي قائم على (الاكتشاف) لا (التكوين) ، ولكنه ليس اكتشافا حرا ، فهو مقيد بأحكام الإسلام الحاكمة للاقتصاد .

كما أن ذلك الاكتشاف لا ينبغي أن يكون ناظرا للأحكام الجزئية دون اعتبارها جزءا من كل ، وإيجاد صيغة عامة مترابطة للوصول للقاعدة العامة التي (تشع) من خلال الكل .

وفي إطار التنظير الدقيق الذي يتبعه الصدر ؛ حذّر الصدر مما أسماه (خداع الواقع التطبيقي) ، فإن الواقع التطبيقي للمسلمين قد مر بعشرات المراحل عبر تاريخهم ، ومن ثم فإن محاولة اكتشاف المذهب الاقتصادي من هذا الواقع قد يؤدي إلى خداع ما في الرؤية ، ولذلك فإن (الكاشف النظري) في النصوص أقدر على التصوير ، بحسب ما يرى الصدر .

ـ الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي :

استهلك الصدر نحو ثلث الكتاب في استعراض النظريتين الاقتصاديتين الأكثر حضورا في العالم : الماركسية والرأسمالية ، وبحث فيهما بحثا فلسفيا ، واقتصاديا .

ثم استعرض ما يراه الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي ، والذي يراه يتكون من ثلاثة أركان رئيسية ، هي مبدأ الملكية المزدوجة ، ومبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود ، ومبدأ العدالة الاجتماعية .

1 – مبدأ الملكية المزدوجة : يؤمن المجتمع الرأسمالي بالشكل الخاص الفردي للملكية كقاعدة عامة ، بحيث تكون الملكية العامة استثناء تفرضه الضرورة والتجربة ، وينعكس هذا التصور تماما في المجتمع الاشتراكي ، أما في المجتمع الإسلامي فالأمر مختلف ، فليس أحد نوعي الملكية مبدأ ، بل يقرر الإسلام مبدأ الأشكال المختلفة للملكية (في وقت واحد) .

2 ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطلق محدود : يقر الصدر بأن الإسلام حدد الحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي ، وذلك التحديد له مستويان : أولهما : التحديد الذاتي ، وهو النابع من النفس ، التي تنشأ في المجتمع الإسلامي الذي يتحكم الإسلام فيه في كل مرافق الحياة ، وثانيهما : التحديد الموضوعي للحرية ، وهو ما كان من الخارج بقوة الشرع ، وذلك التحديد الموضوعي له سبيلان بالاستقراء من السيرة الشرعية ، هما : ما حظرته الشريعة من نشاطات اقتصادية ، كالربا والاحتكار وغير ذلك ، وما خولته الشريعة لولي الأمر من (مبدأ الإشراف على النشاط العام) ، وسيأتي ذكره .

3 ـ العدالة الاجتماعية : يرى الصدر أن الإسلام لم يجعل العدالة الاجتماعية مفهوما تجريديا كما في الماركسية ، وإنما حدده في مخطط اجتماعي ، قائم على مبدأين عامين : مبدأ التكافل الاجتماعي ، ومبدأ التوازن الاجتماعي ، وسيأتي ذكرهما.

ـ المشكلة الاقتصادية :

تعرض الصدر لبحث المشكلة الاقتصادية ، وهو ركن أساس في كل مذهب اقتصادي ، فيصور الصدر المشكلة الاقتصادية وفق الرأسمالية في فرضية : ( الموارد الطبيعية للثروة لا تستطيع مواكبة ولا إشباع حاجات المدنية ) ، أما وفق الماركسية فهي : ( مشكلة التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع ) .

يرفض الصدر صراحة تصور المشكلة الرأسمالية ، باعتبار أن الطبيعة قادرة على ضمان حاجات الحياة ، كما يرفض تصور المشكلة الماركسية التي تحصر المشكلة في (التناقض) ، ويطرح الصدر تصوره عن المشكلة أنها قائمة على (التوزيع وتنظيمه) ، فالمشكلة الأساسية هي (الظلم في التوزيع) ، فالإسلام أتاح من الوسائل ما يتيح تنظيم عملية التوزيع ، وعن طريق تلك الوسائل يستفيد الإنسان من الطبيعة ويستثمرها أفضل استثمار وفق أقصى ما تتيحه طاقته .

ويتكون (جهاز التوزيع) في الإسلام من أداتين رئيستين : العمل ، والحاجة .

يرى الصدر أن العمل : هو سبب لتملك العامل للمادة ، وليس سببا لقيمتها ، فالعامل حين يستخرج لؤلؤة لا يمنح اللؤلؤة قيمتها بعمله هذا ، وإنما يملكها بهذا العمل ، أما الحاجة : فهي المتطلبات الثابتة والمتغيرة التي بها تستقيم حياة الإنسان .

وفقا لهذا فإن الجهاز التوزيعي يترتب على العمل والحاجة كأداتين :

فالعمل أدارة رئيسية للتوزيع ، بصفته أساس الملكية ، فمن يعمل ؛ يقطف ثمار عمله ويتملكها .

والحاجة أداة رئيسية للتوزيع ، بصفتها تعبيرا عن حق الإنسان الثابت في الحياة الكريمة ، والإسلام يكفل الحاجات في المجتمع الإسلام .

أما الملكية : فهي أداة ثانوية للتوزيع ، وهذا عبر النشاطات التجارية المباحة في الإسلام ، وضمن شروط لا تتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية في الإسلام .

ـ نظام التوزيع :

وفق ما ذكرناه من أن المشكلة الاقتصادية التي فرضها الصدر ، والتي يعمل المذهب الاقتصادي الإسلامي على حلها : هي (مشكلة التوزيع) ، فإنه ينتظم سائر الكتاب في بحثين ، هما : نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ، ونظرية توزيع ما بعد الإنتاج .

نظرية التوزيع قبل الإنتاج : طرح فيها الصدر ما يتعلق بمصادر الإنتاج ، وعلاقة التوزيع بها ، فحصر مصادر قبل الإنتاج بأربعة مصادر ، هي : الأرض ، والمواد الأولية في الأرض (المعادن الظاهرة والباطنة) ، والمياه الطبيعية ، وبقية الثروات الطبيعية (محتويات البحار إلخ ) .

وفصَّل الصدر في حكم تملك الأراضي ، والفروق بين المفتوحة ، والصلح ، والموات ، ما يتعلق بتملك المعادن ، والإقطاع ، والحمى ، ونحو ذلك من المباحث الفقهية .

أما نظرية التوزيع بعد الإنتاج : فيطرح الصدر وجهة نظر الرأسمالية في سبل التوزيع بعد الإنتاج ، والتي تعتمد على تقسيم الثروة النقدية بعد الإنتاج على حصص أربعة ، هي : الأجور (للعامل الإنساني) ، والفائدة (نصيب رأس المال المسلف) ، والربح (نصيب رأس المال المشارك فعلا في الإنتاج) ،والريع (حصة الأرض أو الطبيعة) ، ووفقا لذلك فإن الإنسان العامل في جوهر تلك النظرية (وسيلة) تنضم لسار الوسائل من الطبيعة والوسائل المادية للإنتاج ، فيستحق الأجر نتيجة جهده في المادة الطبيعية ، أما (الغاية) فهي المالك ، فهو الذي يستحق الربح ، أما في النظرية الإسلامية بحسب الصدر فإن الأمر مختلف ، فإن الإنسان العامل في العملية الإنتاجية هو (الغاية) ، وما يستحقه من ربح ليس (الأجر) ، بل المادة نفسها، فإن العمل هو سبيل التمليك ، فلو احتطب ، أو أخذ شبكة صيد ؛ كانت المادة المستخرجة له ، دون صاحب الغابة والشبكة وهذا وفق المشهور من مذهب الإمامية والراجح عند الحنفية ، وهو البناء النظري الذي اعتمده الصدر ، وما يستحقه صاحب الغابة والشبكة هو (مكافأة) ، تمثل (دينا) على العامل ، يدفعه للمالك إبراء لذمته ، فنحن بإزاء تغاير تناقضي بين مركزي (العامل) و (المالك) في عملية الإنتاج في المواد الطبيعية .

أما المقارنة مع النظرية الماركسية في توزيع ما بعد الإنتاج ، فهي أكثر وضوحا ، لاسيما مع حظر الماركسية لملكية العامل لمنتجه بعد الإنتاج أصلا .

ـ مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي :

ختم الصدر (اقتصادنا) بفصلين يتعلقان بمسؤولية الدول عن الاقتصاد ، وبخاصة الإنتاج ، باعتبار الدولة القوة التي تدير الثروة الإنتاجية وتضمن التوزيع العادل ، والأسباب المسوغة لمبدأ (تدخل الدولة) عند الصدر أمور ، أهمها : أن المشاريع الإنتاجية الكبرى تحتاج رؤوس أموال طائلة ، لا يقدر الأفراد على توفيرها ، لاسيما مع ضمانات الإسلام المانعة من تكديس الثورة ، وجعلها دولة بين الأغنياء ، ومنها المسؤولية الوجوبية للدولة في مراقبة جودة الإنتاج ، وعدالة توزيع المصادر الطبيعية .

مسؤولية تدخل الدولة في الاقتصاد عن الصدر لازمة لتحقيق مبدأين : (مبدأ الضمان الاجتماعي) ، ومبدأ (التوازن الاجتماعي).

مبدأ الضمان الاجتماعي : يقوم على مستويين : مستوى (التهيئة) للفرد القادر على العمل ، بحيث يشارك في النشاط الاقتصادي الذي يكفل له الحياة الكريمة ، ومستوى (التطبيق) في حالة عجز الفرد أو وجود ظروف قاهرة في الدولة ، فتطبق الدولة الضمان الاجتماعي مباشرة ، عن طريق (أسس الضمان الاجتماعي) ، وهي متعددة ، أهمها : التكافل العام من الدولة ، والضمان المباشر عن طريق الزكوات ونحوها .

ومبدأ التوازن الاجتماعي : وذلك وفق القاعدة الكلية التي قررها الصدر طويلا : (العمل أساس الملكية) ، فهو ما تضمن به الدولة القضاء على التفاوت الطبقي والتناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة ، والحيلولة دون صيرورة المال دولة بين الأغنياء . وسبل ذلك : فرض الضرائب الثابتة (الزكوات والأخماس فقه إمامي ـ) ، وإيجاد قطاعات عامة (الفيء ومورد ابن السبيل) ، وطبيعة التشريع الإسلامي (تحريم الاحتكار والاجتلاب …) .

وأبرز مفهوم ولّده الصدر في الكلام عن مبدأ تدخل الدولة هو مفهوم (منطقة الفراغ) ، فلابد للحاكم أن يتدخل بصفته ولي الأمرفي مناطق الفراغ التشريعي ، وفلسفة وجود تلك المنطقة : أن الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجا موقوتا ، أو تنظيما مرحليا يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن من شكل لآخر ، ولذلك فإنه يقدم نظرية تتسم بالاستيعاب والعموم ، بحيث تكون صالحة لمختلف المجتمعات والأزمنة ، ومفهوم الفراغ من البنى الفقهية التي طورها الصدر بشكل كبير لاحقا في مشروعه الفقهي التجديدي .

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى