قراءة في كتاب

قراءة في كتاب «النص والتراث قراءة تحليلية في فكر نصر أبو زيد»

أُقدِّم في هذه السطور قراءة في كتاب «النص والتراث قراءة تحليلية في فكر نصر أبو زيد»، لمؤلفه الدكتور مصطفى الحسن، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى (2012م)، وقد جاء في (112 صفحة)، وهو دراسة تحليلية، ناقش فيها الكاتب الأطروحات الفكرية لنصر حامد أبو زيد أحد أقطاب الفكر العربي المعاصر الأكثر جدلًا في الساحة الفكرية العربية.

حاول د. مصطفى الحسن في مقدمة كتابه أن يبرز مكانة نصر حامد أبو زيد في خارطة الفكر العربي المعاصر؛ فهو ينتمي لِـمَا يُسمَّى بـ (الحداثيين العرب)، وهم مجموعة من المفكرين المنتشرين في أقطار الوطن العربي، لكن رغم دخولهم تحت راية الحداثة؛ إلَّا أنَّ منطلقاتهم ونتائجهم تختلف من مفكر لآخر، وذلك لتباين مشاريعهم الفكرية ومناهجهم، فالنتائج – مثلًا – التي قد يتوصل إليها نصر أبو زيد قد لا يتوصل إليها حداثي آخر، وحسب مؤلف الكتاب: فإنَّ القارئ لكتب أبي زيد عليه أن يتجرد من الأفكار المسبقة عنه نتيجة الشيطنة التي حصلت له إثر محاكمته الشهيرة سنة (1995م) ([1])، فعدم التخلص من هذه (الشيطنة) – كما يرى مصطفى الحسن – ستجعل القارئ أسيرًا للردِّ المباشر وغير الناضج على أفكاره، يقول في هذا السياق: «ليس عليك أن تقتنع بها، ولا أن ترفضها، ولكن عليك أن تتأمل في استشكالاته، وأن تضمها إلى استشكالاتك وأسئلتك، فنحن لا نقرأ لأجل الحصول على المعلومة، بقدر ما نقرأ لأجل التفاعل مع الأفكار» ([2]).

وفي نهاية مقدمته بيَّن مصطفى الحسن المنهج المتبع في قراءته لأهم أفكار (نصر أبو زيد) ومناقشتها، وفق خطة بحثية مقسمة إلى ثلاثة فصول، تبنَّى فيها الكاتب مناهج متعددة كالاستقراء والتحليل والنقد.

استهل الفصل الأول الموسوم بـ (الحداثة العربية): بإشكالية تعريف الحداثة في الحقل المعرفي العربي، فبيَّن أنَّ التطرق للحداثة كمصطلح غربي وافد على العالم العربي تحكمُه مجموعة من العوامل والظروف، التي تجعل من تعريف (الحداثة) في هذه البيئة أمرًا شائكًا ومتداخلًا، ممَا يُلزم الباحث ضرورة تتبع نشأة الحداثة في الفضاء الغربي، ثم الانتقال بعد ذلك إلى دراسة الحداثة في مجال التداول العربي بكل ما تحمله من دلالات معرفية وتاريخية إثر انتقالها من موطنها الأم.

فالحداثة في بيئتها الغربية حسب مصطفى الحسن ليست مجرد أيديولوجيا، أو حدث تاريخي عابر، وإنَّما وصف للقرون الخمسة الأخيرة، فهل يصحُّ – حسب رأي – الكاتب أن نعتبر الحداثة في لباسها العربي هي وصف للقرنين الأخيرين في العالـم العربي؟ طبعًا الجواب جاء بالنفي من طرف الكاتب، حيث قال: «لا أعتقد ذلك؛ لأنَّ الغرب كان يمضي نحو الحداثة اجتماعيًّا وثقافيًّا ودينيًّا وسياسيًّا، فكانت الأفكار تعكس الواقع، والواقع يعكس الأفكار، أمَّا الحالة العربية؛ فالأمر مختلف! ثمة سياق اجتماعي وثقافي يمضي باتجاه، ومجموعة من الحداثيين العرب لهم رؤى مختلفة، وطموحات مفارقة للواقع يمضون باتجاه آخر» ([3]).

وهكذا ارتأى أنَّ الحداثة العربية ما هي إلَّا أفكار اتخذت من النموذج الغربي مرجعًا في الإجابة على الاشكالات التي ارقت المفكرين العرب كإشكالية النهضة والتقدم، ولماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ والتي تزامنت مع دخول المستعمر إلى البلاد العربية، ويعزوا مصطفى الحسن بدايات ظهور الحداثة العربية إلى الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وما يمكن ملاحظته من خلال العرض التاريخي لبواكير عصر النهضة الانقسام بين الحداثيين العرب والإصلاحيين الإسلاميين في التعامل مع المنظومة المعرفية الغربية، فبينما يتخذ الحداثيون العرب الغرب مرجعًا معرفيًّا في الإجابة على اشكالاتهم الفكرية، يرى الإصلاحيون الإسلاميون ضرورة ارتكاز مشروع النهضة على المرجعية الإسلامية كتابًا وسُنَّة، وبناءً على اختلاف المرجعيات تتحدَّد حسب مصطفى الحسن العلاقة بين الأنا العربي والآخر الغربي.

بعد هذه العصارة التاريخية لفكر عصر النهضة استخلص مصطفى الحسن أنَّ هموم الإصلاحيين الإسلاميين بعد الحقبة النهضوية أي في بداية القرن العشرين كانت في محاولة الإصلاح وتجديد قراءة التراث، في حين كان ديدن الفكر الحداثي في تلك الفترة إثبات أنَّ الفكر الإسلامي المبني على النص الديني هو سبب تخلف الأمة، ولـم يخُض الحداثيون تجربة قراءة النص الديني إلَّا في منتصف القرن العشرين ([4])، ممَّا يجعل المتتبع لتاريخ الفكر الحداثي العربي يتساءل عن سبب هذه النقلة النوعية في التعامل مع التراث، يقول مصطفى الحسن: «فما هو سبب التحول النوعي في طبيعة الحداثيين؟ أعني ما الذي جعل الحداثيين في النصف الثاني من القرن العشرين يعتنون بالتراث عناية مختلفة اختلافًا نوعيًّا عن سابقيهم؟ ما الذي دفعهم إلى دخول ميدان التجديد الديني ومنافسة الإصلاحيين في ميدانهم؟» ([5]).

وهذا السؤال المفتوح، سنجد إجابته في الجزء الثاني الموسوم «بالحداثة العربية في رأي نصر أبي زيد» من الفصل الأول، حيث ضمن فيه مصطفى الحسن أهم ما ورد في مقدمة كتاب «النص والسلطة والحقيقة» لنصر أبو زيد الذي وضح فيه رأيه عن عوامل فشل النهضة العربية واخفاقها، مع بيانه للتحولات التي طرأت على الفكر الحداثي.

وقد نقل لنا مصطفى الحسن من خلال هذا الفصل مرتكزات المشروع الفكري لنصر أبو زيد ورؤيته للتراث الإسلامي، فعرض أهم مؤلفاته وبين رأيه في التحولات التي عرفها الخطاب العربي بعد هزيمة (1967م)، مبرزًا نظرة نصر أبو زيد للخطاب الديني الذي اعتبره خطابًا نفعيًّا واتكائيًّا، غير أنَّ النموذج المعرفي لنصر أبو زيد يبقى ضبابيًّا، ويصعب على الباحث حسب مصطفى الحسن الإلمام بتفاصيله؛ لكونه لا يفصح عن رأيه حتى في القضايا التي يناقشها وينقدها، فجلُّ ما يسعى إليه – حسب رأي الكاتب – هو توجيه الضربات للخطاب الإسلامي بوجه خاص، بسبب الصراع القائم بين التيار الإسلامي والتيار العلماني الذي شُوِّه – كما يرى أبو زيد – بسبب إلصاقه بالإلحاد ومعاداة الإسلام من طرف الإسلاميين.

أمَّا التراث؛ فقد بيَّن الكاتب أنَّ أبا زيد يرى ضرورة تمحيصه ونقده مع قتل القديم بحثًا فيه، وهذا المنهج هو الذي سيسير عليه في مشروعه الفكري ومعظم كتاباته، فمشاريعه الفكرية لـم تكن ترمي إلى إعادة بناء التراث أكثر من كونها صراع مع التيار الإسلامي يقول مصطفى الحسن: «إنَّ الإسلاميين هم بوصلة مشاريع أبو زيد، ولا يمكن أن يفهم مشروعه إلَّا بوصفه صراعًا معهم» ([6])، فكتابته بتعبير المؤلف ليست إلَّا نسف للخطاب الإسلامي وتبرير للخطاب العلماني.

أما الفصل الثاني المُعنون بـ (التراث الإسلامي في فكر نصر أبو زيد): فقد عرض فيه مصطفى الحسن نظرة نصر أبو زيد للتاريخ الإسلامي أو بالأحرى تاريخ أهل السنة الذي تمحور حول ما سماه أبو زيد بالمركز وهو التحالف الحاصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية التي جعلت مرجعية تأويل النص الديني موجهة لصالحها، مقابل المعتزلة – أصحاب العقلانية الدينية في رأي نصر أبو زيد – اللذين ظلوا في الهامش طيلة التاريخ الإسلامي وإن كان هذا لا ينفي تحالفهم مع السلطة.

وقد بين مصطفى الحسن أنَّ الخطاب الإسلامي المعاصر حسب نصر أبو زيد هو امتداد لنموذج المركز الذي تشكل ابتداء في معتقدات أبي الحسن الأشعري، ثم استوى في معتقدات ابن العربي، وغيره من العلماء كالزركشي وابن تيمية، غير أنَّ التأثير الفعلي لهذا النموذج كان مع الغزالي، الذي يمكن اعتباره في نظر أبي زيد ركنًا من أركان الخطاب الإسلامي المعاصر، وبناء على المتتاليات الفكرية لنصر أبو زيد والمتمثلة في قراءته لتجليات القول بخلق القرآن على أصل اللغة والمجاز بين الرؤية السنية – في نموذج الغزالي وابن العربي – والاعتزالية، تتحدد مركزية الإنسان في خطاب كلا التيارين.

ولـم ينتهِ المؤلف عند طرح أفكار نصر أبو زيد وعرض رؤيته للسجال العقدي بين السنة والمعتزلة؛ وإنَّما ناقش متتالياته الفكرية، مُبيِّنًا خواء هذا التحليل الذي يصبو إلى أَنسنة الخطاب الاعتزالي مقابل الخطاب السني المتركز هو الله، يقول مصطفى الحسن: «إنَّ ما يريد نصر أبو زيد إثباته هو افتقار النموذج السني للنزعة الإنسانية، وليس صحيحًا أنَّ الفرق بين أهل السنة والمعتزلة يكمن في التركيز على (الله تعالى)، أو (الإنسان)، بل إنَّ هذا الانسجام هو قاسم مشترك بينهما» ([7])، فمركزية الله واردة في الفكر الإسلامي عامة، ولولا هذه المركزية المطلقة – كما يرى مصطفى الحسن – لَـمَا كانت للإنسان مركزية في عالـم الشهادة.

أمَّا فيما يخصُّ الخلاف حول أصل اللغة؛ فإنَّ ذلك – كما نقل مصطفى الحسن – عن اللساني التونسي عبد السلام المسدي لا علاقة له بالاختلاف العقدي بين السنة والمعتزلة؛ لكون الخلاف حول أصالة اللغة وارد عند أهل المذهب الواحد ([8])، ممَّا يبرز التوهم الفكري لتحليل نصر أبو زيد للخطاب الفكري الإسلامي، ولـم يتوقف مصطفى الحسن عند بيان وهم هذه المتتالية، وإنَّما وضَّح تناقضاته في التعامل مع النموذج المعرفي الإسلامي، الذي بالرغم من النقد الذي يوجهه له ولأعلامه؛ إلَّا أنَّه يعتمد على رأي بعض رجالاته في التعامل مع القرآن الكريم، وهكذا كان كل ما يصبو إليه أبو زيد من خلال متتالياته الفكرية – حسب ما ذيل به مصطفى الحسن هذا الفصل – هو التمركز حول الإنسان، وجعل عالَـم الشهادة الأصل والحقيقة التي على أساسها يؤول النص القرآني.

أمَّا الفصل الثالث الموسوم بـ (مفهوم النص عند نصر أبو زيد): فقد تعرض فيه الكاتب إلى البنى المعرفية التي على أساسها وصف نصر أبو زيد القرآن الكريم بـ (المنتج الثقافي)، فتطرق في بداية الفصل إلى(تاريخية) القرآن الكريم عند نصر أبو زيد مُبرِزًا معالِـم فلسفته، والمصادر التي يستمد منها قوله بالتاريخية، حيث بيَّن الكاتب كيف يقوم نصر أبو زيد بتأويل كلام المعتزلة، وتوظيف فلسفة اللغة في ربط القرآن الكريم بالبيئة اللغوية والثقافية التي أنزل فيها؛ فهو – وإن كان (مُنتَجًا ثقافيًّا)، كما ارتأى أبو زيد إلَّا أنَّه مُنتِجٌ وفاعلٌ في إعادة بناء وتشكيل الفكر اللغوي والثقافي من جديد ([9]).

هذا؛ ولـم يقف الكاتب عند عرض أفكار أبو زيد ورؤيته الفلسفية للقرآن الكريم، وإنَّما تطرَّق إلى المقدمات التاريخية والمعرفية للسانيات البنيوية التي ينتمي إليها أبو زيد، فعرض المعالِـمَ الكبرى للبنيوية عند دي سوسير، مُبرِزًا العلاقة الجدلية بين اللغة والثقافة، والمجتمع من منظور بنيوي، دون أن يغفل عن مناقشة إسقاطات نصر أبو زيد للمنهج البنيوي على القرآن الكريم، ويُبيِّنُ مغالطته في ربط القرآن الكريم بالمتغيرات الثقافية واللغوية بين: العصر الذي أُنزل فيه، والعصر الحالي، وأثر ذلك على فهمه، حيث قال مُنتقِدًا هذه الفكرة: «إنَّ هذا التوصيف يُوصِلُنا إلى نتيجة مفادها: أنَّ القرآن الكريم نزل في سياق لغة وثقافة لها زمانها ومكانها، ولكنَّه خلد من هذه اللغة والثقافة ما يجعل فهمه مُتاحًا للعصور الأخرى» ([10]).

ثم انتقل بعد ذلك إلى مناقشة نظرة أبو زيد إلى القرآن الكريم من خلال العلاقة الجدلية بين المرسل والمتلقي؛ فهذه الثنائية – كما يرى مصطفى الحسن – هي التي جعلته يفرق بين الخطاب الإسلامي المعاصر المتمركز حول الله – تعالى – (المُرسِل)، وبين الإنسية الاعتزالية المتمركزة حول الإنسان (المُتلقِّي)، أمَّا نظرته إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – باعتباره المتلقِّي الأول لكلام الله – تعالى -؛ فقد جعلت من الرسالة الإسلامية رسالة نفعية جاءت لإثبات الهُوية العربية التي يعكسها محمد – صلى الله عليه وسلم – على أرض الواقع.

وقبل أن يختم مصطفى الحسن هذا الفصل: تناول رأي أبي زيد في علاقة المفسر بالنص، مُبيِّنًا تحفُّظ نصر أبو زيد في توظيف الهرمنيوطيقا الغربية كوسيلة لفهم وتفسير القرآن الكريم وحجته في ذلك – كما يقول مصطفى الحسن – تتمثل في أنَّ «نقل آليات التفسير، أو نظريات التفسير من مجال ثقافي إلى مجال ثقافي آخر عملية خطرة للغاية» ([11]).

وآخرُ ما تعرَّض له الكاتب في هذا الفصل: مبحثُ السيمائيات عند نصر أبو زيد، الذي يصبو من خلاله إلى اعتبار القرآن الكريم أحدث تغيرات جوهرية في اللغة العربية، من حيث دلالتها وبنيتها، ممَّا قاده إلى جعل النص الديني أداة مسيطرة تُخضع اللغة وتعيد تركيبها للهيمنة على وعي المتلقي؛ بل وتزييفه، كما عبر عن ذلك مصطفى الحسن ([12]).

في نهاية المطاف؛ يمكن القول: إنَّ هذا الكتاب يُعدُّ خارطة معرفية، ناقش الكاتبُ من خلالها أهمَّ أفكار نصر أبو زيد، وأبرز معالِـم مشروعه، الذي تولَّد لديه نتيجةَ الصراع الفكري بين التيار العلماني الذي ينتمي إليه والآخر الإسلامي، ممَّا يجعل من النموذج الذي رسمه لأهل السنة والجماعة مقابل المعتزلة، والمتتاليات الفكرية التي على أسساها بنى رؤيته عن الفكر الإسلامي وهمًا وانتقائيَّةً في التعامل مع التراث، وقد استطاع الكاتبُ من خلال بسط أفكار أبو زيد أن يكشف عن أثر اللسانيات البنيوية في فهم نصر أبو زيد للقرآن الكريم.


([1]) تعود تفاصيل هذه المحاكمة إلى سنة (1995 م)، حيث صدر حكم محكمة الاستئناف عام (1995 م)، بتفريق نصر أبو زيد عن زوجته ابتهال يونس، وذلك لردته عن الإسلام، استنادًا إلى مقاطع وردت في عدة كتب له، وبعدها بيوم؛ أعلنت منظمة (الجهاد) إهدار دمه، وإهدار دم من دافع عنه؛ فاتخذت إجراءات مشددة حول بيته وفي تنقلاته، بعدها قرر أبو زيد الهجرة إلى هولندا، وأقام بها حتى وفاته عام (2010 م)، [«النص والتراث قراءة تحليلية في فكر نصر أبو زيد»، مصطفى الحسن، (ص/ 31، 32).
([2]) (ص/ 9)
([3]) (ص/ 16، 17)
([4]) (ص/ 26).
([5]) (ص/ 26).
([6]) (ص/ 45).
([7]) (ص/ 63).
([8]) (ص/ 64 – 66) .
([9]) ينظر: (ص/ 86، 87).
([10]) (ص/ 90، 91).
([11]) (ص/ 100).
([12]) (ص/ 101، وما بعدها).

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى