معتقدات

الشباب والإلحاد (3-4)

دراسة لتجليات الإلحاد الجديد في واقع الشباب المسلم

⇒ الجزء الثاني

الشباب المسلم والإلحاد (نظرة في بواعث الإلحاد)

لم تكن الفقرات السابقة من هذه الورقة  إلا تقديما، وأرضية لموضوع لم يغدو سطحيا ولا هامشيا في الفكر العربي المعاصر، في زمن أضحت فيه التقنية متاحة للجميع، ولم يعد الإلحاد قاصرا على فئة معينة من الفلاسفة والمفكرين، كما لم تبقى القضايا العقائدية الشائكة بين الفرق والمذاهب حبيسة الكتب والدوائر المعرفية، فالواقع الافتراضي بات ساحة للنقاش وعرض الأفكار والتداول الثقافي، وغدا مصدرا ومرجعا لدى البعض في تحصيل المعرفة، “فكثير من الشرائح الشبابية بات يتلقى معرفة أفقية سطحية في ملفات متعددة، ويحصِّل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي جرعات معلوماتية مخففة ومبعثرة، تُخلِّف مع الوقت حالة من الانتفاخ المعرفي الخاوي”([1])، والمعرفة الافتراضية الموهومة.

فما تحدثنا عنه في الإلحاد الجديد وسماته العدائية تجاه الإله والموروث الديني، نجد صداه في مجتمعاتنا العربية، في عالم افتراضي بات واقعا يخرق عقول الشباب، ولعل تنامي الإلحاد بين هذه الفئة في البلاد العربية كما ذهب العديد من المهتمين بالملف الإلحادي جاء عقب ما يسمى بثورات الربيع العربي([2])،وفي تحليل عمرو الشريف لسطوة الفكر الإلحادي على شبابنا يقول: ” وقد تزايد هذا المد الإلحادي بعد ما يعرف بثورات الربيع العربي، ويرجع ذلك إلى نجاح الشباب في تحديهم لرموز السلطة في هذه البلاد، وهو ما شجع البعض على تحدي الرمز الأكبر متمثلا في منظومة الألوهية والدين”([3])، فسقوط السلطة بمفهومها الواسع (السلطة المجتمعية، السلطة الدينية…) ، مكن الملحدين من نشر أفكارهم بجرأة([4]) غير مسبوقة والجهر بتوجهاتهم الإلحادية.

وبعيدا عن اختلاف الرؤى حول تاريخ تنامي الموجة الإلحادية بصورتها الحالية، يلحظ المتتبع للفكر الإلحادي في الوطن العربي على العموم، أن اللغة الشكوكية والإلحادية بدأت تطفو إلى السطح في السنوات القليلة الماضية ، وتُكَوِّن خطابا له سمته وهويته الخاصة، لكن قبل خوض غمار البحث في الهوية الافتراضية للملحد العربي في وسائل التواصل الاجتماعي، سنبادر بإلقاء نظرة على بعض البواعث التي تقود الشباب إلى الإلحاد ،والتي قسمها البعض إلى شخصية واجتماعية ومعرفية([5])، غير أننا سنمضي لإدراج هذه الدوافع ضمن بواعث داخلية موجِّهة نابعة من الفرد ذاته تقوده إلى تقبل الإلحاد كفلسفة حياتية، وبواعث خارجية مؤثرة تنخر في  فكر الشباب لتنقلهم من روضة الإيمان إلى خندق الإلحاد.

ويأتي على رأس البواعث الداخلية الموجِّهة، ما اصطلح عليه عبد الله الشهري بالقابلية والتأزم ([6])، فأما القابلية، فالمقصود بها قابلية الشخص لاحتضان الفكر الإلحادي، وهذا يعني أن نفسية الملحد مهيأة ابتداء للإلحاد، بناء على رؤيته وما يتناسب مع شخصيته وهواه، لذلك رأى عبد الله الشهري أن هذا السبب يدخل ضمن الجانب العاطفي الوجداني أكثر من دخوله ضمن الجانب المنطقي الموضوعي، فالإلحاد مثلا يضمن لمن فيه تلك القابلية، الخلاص والانعتاق من التكاليف الشرعية التي تلزمه بها العقيدة الدينية.

أما التأزم فالمقصود به الوقوع في الأزمات والكروب التي تواجه الإنسان، فيكون الخيار الأمثل لمن فيه تلك القابلية، الإلحاد والجحود بالخالق سبحانه، وفي القرآن الكريم تصوير لمثل هذه العقليات، يقول الحق سبحانه: {وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين ([7])ُ}.

وينضاف إلى ما تقدم ذكره من بواعث داخلية موجِّهة، ضعف الحصانة الشرعية، أو بالأحرى المناعة الدينية، والبناء العقدي المتين الذي يقي الإنسان فتن الشبهات، التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي، وتحاصر العقل بالشكوك، نتيجة ضعف في تحصيل العلوم الشرعية، والمعرفة الدينية، التي تعد أرضية صلبة، تكسب صاحبها الأسس المنهجية في التعامل مع الشبهات، ومرجعا يحاكِم إليه ما استجد من قضايا عقدية، ولابن تيمية إشارة بديعة في ضرورة التحصيل الشرعي، حيث قال: “فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها، ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعا، وإذ المرء ما لم يحط علما بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها بقي في قلبه حسكة”([8])، فمن لا يملك قدرا من العلم الشرعي يسهل اختراقه وتقويض فكره، وسيظل قلبه مفتوحا للشبهات.

فهذه البواعث الداخلية الموجهة للفرد نحو نفق الإلحاد وغيرها، يمكن اعتبارها سببا من أسباب هدم صروح اليقين عند الشباب، وإدخالهم في دوامة الشك العقدي الغير منهجي، الذي يتقوى ليصير إلحادا.

أما البواعث الخارجية المؤثرة على هوية الفرد الفكرية والدينية، فيمكن أن نرجعها بداية إلى سلطة الثقافة الغربية الغالبة([9])، “فجزء من أسباب انتشار الظاهرة الإلحادية عالميا يعود في حقيقته إلى السياق الثقافي العام الذي نعيش فيه والذي تهيمن عليه للأسف الشديد قيم الحضارة الغربية، بماديتها وعلمانيتها”([10])، كما أن الانبهار بالحضارة المادية في نموذجها الغربي، مقارنة بواقع التخلف الحضاري بكل تجلياته في المجتمعات العربية، ولَّد لدى الشباب الذين لديهم -كما سبقت الإشارة- قابلية للإلحاد مركب النقص، فوجدوا في نزع عباءة الدين  السبيل الوحيد للَّحاق بركب التقدم، والناظر في التراث الإسلامي يجد من العلماء من وصف هذه العقلية المقلدة وحلل بواعثها،  يقول أبو حامد الغزالي واصفا حال من انبهر بالفلسفة اليونانية الوافدة: “فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، رفضوا وظائف الإسلام من عبادات، واستحقروا شعائر الدين(…)، بل خلعوا كلية الدين (….)، وإنما مصدر كفرهم سماعهم بأسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم في وصف عقولهم(…) وحسن أصولهم، ودقة علومهم (…) وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وفضلهم منكرون للشرائع(…)، فلما قرع ذلك سمعهم، ووافق ما حكى من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر”([11])، فتجمل الفلاسفة بالكفر عند الغزالي قديما هو تجمل بعض شبابنا بالإلحاد تقليد المغلوب للغالب واتباع الضعيف للقوي حديثا.

وهذا الانبهار يزداد رسوخا مع الثورة المعلوماتية التي يشهدها واقعنا المعاصر، والتي قربت الفكر الإلحادي إلى الشباب، لتنبثق وسائل التواصل الاجتماعي كمؤثر خارجي، عكف البعض من خلالها على ترجمة المحتوى الإلحادي في صورته الغربية ونقله عبر هذه الوسائط، إما في صورة فيديوهات أو مقالات أو كتب إلكترونية، ومضى البعض في ضخ الشبهات وتشويه التاريخ الإسلامي، ليسقط من توافرت فيه البواعث الداخلية، ومن لا يملك الأدوات العلمية المنهجية، التي تمكنه من البحث والتنقيب عن أصل تلك الشبه في شباك الإلحاد.

ثم يأتي الباعث المعرفي الذي لا يقل أهمية عن الدوافع الأخرى، والمقصود به كما يرى الطيب بو عزة ضعف المكتبة الإسلامية ([12]) من حيث الكتب المتخصصة في نقد الإلحاد، ومظاهر هذا الضعف تتجلى في ندرة الكتب الناقدة للفلسفات الإلحادية وقلتها من جهة، وعدم تناسب محتواها مع شروط الثقافة الراهنة، فبعضها يحتوي على معطيات معرفية قديمة وبعضها متجاوز قياسا بالتطور الحاصل في المعرفة العلمية والفلسفية المعاصرة، وهذا كما يرى الفيلسوف المغربي طيب بو عزة ليس نقصا في كُتَّابنا وإنما السبب راجع إلى تسارع إيقاع المعرفة ([13]).

فأمام ضعف المكتبة الإسلامية، وإلحاح الأسئلة الوجودية الكبرى على فكر الشباب، التي تقابل غالبا بالرفض، ينطرح باعث كبت الأسئلة، كدافع يضخم الشك في عقلية الشباب، وينحدر بهم إلى الإلحاد، فكبت السؤال([14]) قد يعني عند الشباب عجز الإسلام عن دحض الشبهات، والرد على ما أبُهم على الإنسان من مسائل عقدية، فالكبت والصد العنيف لأسئلة الشباب الفكرية والعقدية تولد لديهم شعورا بالغربة الفكرية، وعدم قدرة الوسط الاجتماعي المحيط بهم على سد رمق المعرفة لديهم، والانصات لهمومهم الفكرية، فتبدأ العزلة الفكرية تسلبه من بيئته إلى بيئة إلحادية حاضنة تسقط دوافع ذلك الكبت في زعمها على المنظومة الإسلامية.

وإجمالا لما سبق ذكره، يمكن القول أن إلحاد بعض الشباب في المجتمعات العربية، لا يمكن اعتباره خيارا حرا، بل هو نتاج لبواعث داخلية ذاتية موجهة، وأخرى خارجية مأثرة، تقوده وتسوسه إلى الإلحاد، لتبدأ ملامح هويته الجديدة تتشكل، ومعالم فكره تتجدد بناء على تصوره الكلي (worldview) الجديد الذي غاب فيه الإلهي.

⇐ الجزء الرابع


[1] ) ميليشيا الإلحاد، عبد الله العجيري، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، لندن-بريطانيا، ص(101)
[2] ) ينظر: خرافة الإلحاد، عمرو الشريف، ص ( 28)
[3] ) الإلحاد مشكلة نفسية، عمرو الشريف، نيو بوك، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى (1437هـ-2016م)، ص(333)
[4] ) ينظر: مداخلة حسام أبو البخاري في حلقة الإلحاد والملحدين من تقديم عمرو أديب من برنامج القاهرة اليوم
[5] ) ينظر: الإلحاد للمبتدئين، مركز براهين للدراسات والأبحاث، الاسماعيلية-مصر، الطبعة الثانية (2015)، ص(33) وما بعدها
[6] ) محاضرة عبد الله الشهري في الجلسة الثانية الموسومة بـ” مدخل إلى معالم ومرتكزات الإلحاد الحديث، ضمن ملتقى تهافت الفكر الإلحادي الذي عقد بالرياض سنة 1334هـ/2013م، وقد رفعت فقراته على اليوتوب:
[7] سورة الحج (الآية: 11)
[8] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج10، ص(368)
[9] ) ينظر: مقدمة سلطة الثقافة الغالبة، إبراهيم السكران، مركز تفكر للدراسات والأبحاث، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى (1436هـ-2015م)
[10] ) ميليشيا الإلحاد، عبد الله العجيري، ص(102)
[11] ) تهافت الفلاسفة، أبو حامد الغزالي، تحقيق: سليمان دنيا، ص(73-74)
[12] )  هناك جهود حثيثة الآن وإن كانت قليلة لنقد الإلحاد المعاصر في بنيته العلمية والفلسفة برؤية شرعية، حيث ظهرت في الساحة الفكرية العربية الإسلامية مراكز متخصصة في نقد الفكر الإلحادي الجديد، كمركز براهين الذي يعد أول مركز عربي إسلامي متخصص في نقد الخطاب الإلحادي بمضامينه العلمية والفلسفية وأبعاده التاريخية والأخلاقية، ومركز دلائل، الذي يسعى إلى الإجابة عن الأسئلة العقدية المشكلة لدى الشباب من خلال نشر الكتب والمقالات وغيرهما، ومركز يقين وهو مركز مغربي وليد  يهدف إلى مواجهة الخطاب الإلحادي والمذاهب الهدامة.
[13] ) ينظر: مداخلة الطيب بو عزة، في حلقة (الإلحاد)، ضمن برنامج حوارات نماء
[14] ) ينظر: الإلحاد للمبتدئين، هشام عزمي، مركز براهين للدراسات والأبحاث، الإسماعيلية-مصر، الطبعة الثانية (2015)، ص(39)

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى