أدبقصة

صدفة

أدّى صلف العيش وقسوته بين الزّوجين، أن تطلب الزّوجة الطّلاق، فأبى الزوج ذلك ؛ زيادة في الإذلال لها ولطلبها. حتّى الأبناء طالهم من القهر الكثير؛ نكاية بأمّهم ولكن في النّهاية ما جمعه الله، فرّقه الشّيطان، وراح كلّ في طريقه…
زُوّجت المرأة من رجل آخر، وسكنت في مدينة بعيدة عن بلدتها، وقُطعت أواصر العلاقة بينها وبين أولادها.
أنجبت من الزوج الثّاني، ودخلت غمار حياة ليست سهلة؛ لشحّ الموارد وكثرة عدد أفراد العائلة.

شوارع المدينة مزدحمة، والضّجيج يدعو الناس وقت الغداء للبحث عن أماكن بعيدة عن الضّوضاء وأخذ قسط من الرّاحة.

جلس شابّان على نفس مائدة الطّعام في أحد المطاعم الهادئة، نظرا إلى بعضهما وغضّا البصر، ثم عاودا ذلك إلى أن تجرأ أحدهما وسأل من يقابله عمّا إذا كان من نفس المدينة التي يجلسان في مطعمها، فأجابه بالإيجاب.

استغرب السّؤال واستفسر عن السّبب، إلّا أنّ السّائل تملّكه حبّ الإستطلاع، فاستمر في أسئلته وكأنه يستجوبه. سأله عن اسم عائلة أمّه وأبيه، ولحسن حظّه تلقّى إجابات مرضية لأسئلته الغريبة نوعا ما.

أحسّ كأنّ قرية من النّمل تهاجم جسمه وتلسعه، عندما اكتشف أنّ لهما نفس الأخوال، ووقف صارخا: أنت أخي… لقد أحسست بذلك لدى رؤيتي لك. إنّ ملامحك تشبهني.

بهت الشّاب وقال: “يخلق من الشَبَه أربعين”. وهرول نحو البيت ليخبر والدته متضاحكا ومستهزئا، وكأنّه يروي فصول مسرحيّة هزليّة غريبة.

حملقت الوالدة فيه وحدّثها قلبها أنّ هناك أمرا جللا، فطلبت منه أن يعود ويدعو الشّاب الى بيتهم لتستوضح الأمر.
خرج ابنها متمنّيا أن يجده في نفس المكان. فلا يعقل أن يبحث في مدينة عن شخص لم يتأكد من ملامحه.

أحسّت الأم أنّ لحظات الانتظار هذه أطول من العشرين سنة التي قضتها بعيدا عن أولادها ثمرة زواجها الأوّل.
داهمتها صورهم التي كادت تنساها ، وصدى صراخهم الذي بقي يلاحقها أيّاما وليالي عندما تركتهم، وأخذها والدها من بيت زوجها رافضا أن يرافقوها. فأبوهم أحقّ بهم وبتربيتهم!…

ترى هل يكون من تنتظره “موسى” الذي تركته والجرح في رأسه لم يلتئم إثر وقوعه عن شجرة التّوت ، وهو يتسلّقها ليبحث عن أعشاش العصافير وفراخها؟!..أم أخوه الذي انتزع من صدرها وهو رضيع؟! …

لا بدّ أن يكون أحدهما. فقلبها الذي أقفلته منذ عقدين لتنسى حياتها القديمة، قد كسر قفله وخرج … وها هي تحسّ بارتعاشة غريبة سبّبها خفقه الشّديد الذي عاند نسيانها؛ ربّما ليعاقبها او ليعوّض حرمانها رؤية أولادها سنين طويلة. حتّى إنّها كادت تنسى ملامحهم . ترى كيف يبدو الآن؟ وهل الشخص الذي صادفه ابنها هو الآخر ابنها؟ … هل سيعترف بها أم سيوبّخها؟.. .ربّما سيصرخ في وجهها إذا ما تأكّدت منه، ويقول لها إنّها كاذبة؛ لأنّ أمّه ماتت منذ سنين مثلما أخبره والده هو وإخوته. وقد بلغها ذلك عن طريق أهلها. لذلك لم تحاول زيارتهم ورؤيتهم لئلا تصدمهم!..

ربّما أدركوا عندما كبروا حقيقة الأمر، وها هو ابني قد أحسّ برابطة قوية نحو أخيه فلازمه بأسئلته ليتأكّد…
شعرت أنّ البيت يدور بها دورة خيالها وأفكارها السّابحة في ماضيها، وسيطر الغثيان عليها.
حرارة جسدها العالية تكاد تشعله مثلما أوقدت مشاعرها ، فخافت أنّ ما يراودها نوع من الهذيان…

صلّت وطلبت من ربّها أن يهوّن الأمر عليها؛ لأنّ هواتف تخاطبها أنّ وقت العقاب قد حان؛ جزاء التّخلي عن أمومتها، مع أنّ عزاءها الوحيد الذي ساندها هو أنّها أُكرهت على تركهم، وأنّ طليقها قد أماتها، ومنعهم من رؤيتها.

انتابها القلق ، ونوبات الحمّى والدّوار لم تفارقها، خاصّة وأنّ ابنها قد تأخّر في الرّجوع فخشيت أن يكون الشّاب – الذي يقول إنّه ابنها- قد غادر المطعم.

لكن، لحسن الحظّ وجد ابنها الشّاب لم يبرح مكانه، وطعامه على حاله، وكأنّه في حالة من الذّهول لما مرّ به.
حدّق فيه كثيرا واستغرب عودته، ولبثا واجمين إلى أن خلعت البغتة وشاحها، وأخبره أنّه عاد ليدعوه إلى بيته كي يكملا حديثهما، وأظهر له شعوره بالارتياح بعد أن كان مستهزئا.

لم يعترض لشدّة شوقه في التأكّد من حقيقة مشاعره وواقعه. الواقع الذي اُطلِع عليه عندما أصبح شابّا، من أحد شيوخ بلدته. وهو أنّ أمّه لا تزال على قيد االحياة وتعيش في مدينة أخرى. صور وخيالات تراءت له وهو بين الشكّ واليقين …

وصلا البيت ودخلا، فنادى مضيفُه أمّه التي تركها تعوم بين أمواج بحر ماضيها المتلاطم؛ لتستقبل الضّيف.

أجبرت نفسها على التّماسك والتّغلب على نيران الحمّى، ووقفت أمامه مرحّبة بلسان متلعثم. حدّقت فيه…اقتربت منه… رفعت خصلات شعره عن جبينه وكأنّها تبحث عن شيء، جحظت عيناها بعد أن رأت علامة هي أثر الجرح الذي تركته داميا. هالها ما رأت… إنّه ابنها “موسى”.. .فصاحت: ( ا ب ن ي) وسقطت مغشيّا عليها !

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى