في نقد النموذج الاستهلاكي المعاصر
يعيش الإنسان المعاصر في لحظة فارقة على مستوى صراع القيم، يشهد فيها تناقضات صارخة بين محاولاته الانخراط في قيم الحداثة الغربية والإفادة من منتجاتها الحديثة، وسعيه للحفاظ على إرثه التقليدي، لكن سرعان ما يكتشف أن منطق الحداثة الغربية يحمل نزوعات عدوانية ضد القيم الإيجابية والتقاليد النافعة والأبعاد التراحمية التي يحملها المجتمع التقليدي؛ فيجد نفسه فردا وحيدا أمام آليات السوق والاقتصاد المتغولة وأدوات الإعلام والإثارة ووسائل التحكم والسيطرة، فيفقد المعنى وتتفكك هويته الثقافية والجماعية وتنسف خصوصياته وتفترس لغته وتسرق أحلامه؛ لتصبح طموحاته وتطلعاته محكومة بقيم ورؤى مجتمع آخر، فتكون النتيجة حالة اغتراب يعيشها الإنسان المسلم المعاصر، تحول معها مظاهر حياته وقيمه وشبكة علاقاته وبنياته الاجتماعية والثقافية إلى حالة علمنة كامنة فاعلة تبرز في سلوكاته الاجتماعية وحركيته ورؤيته الحضارية وخريطته الإدراكية، فيصير الإنسان في أبعاده المركبة وأسراره العميقة وتطلعاته الثورية عبارة عن كائن اقتصادي مستهلك لا يحمل أية قضية أو رسالة أو مرجعية، فهو مادة استعمالية خادمة للقوى العولمية وللشركات العالمية، وقابل للتوظيف الإعلامي والثقافي والاقتصادي والسياسي بهدف تعظيم الربح واللذة لاستمرار التلاعب بالعقول.
وهكذا تشترك النزعة الاستهلاكية مع الإمبريالية- كما أشار المسيري- في الكثير من سماتها وخصائصها، فالاستهلاكية توسعية تسعى إلى تحويل ذات الإنسان إلى سوق يمكن أن تلقى فيه بالسلع، لكنها تمتاز عن الإمبريالية في كون مجالها الحيوي هو النفس البشرية، بوجدانها وشعورها ونماذجها الإدراكية وتطلعاتها. فبدلا من القيام بالغزو العسكري المباشر والتدخل المادي عبر إرسال الجيوش لاستعمار الأراضي والأسواق، تقوم أدوات الترويض الجديدة من إعلام وسينما وموضة وغيرها بغزو الإنسان والهيمنة عليه والسعي لإنتاج سيكولوجية الإنسان المقهور والمهدور.
وترتكز فلسفة النزعة الاستهلاكية في فهم طبيعة النفس البشرية على أنها لا تشبع قط في غياب الحدود والقيم، ويمكنها أن تتمدد دون توقف إلى أن تفني ذاتها، فهي تنكر عليها أي ثبات وترى أنها في حالة صيرورة دائمة، لا تفرق بين أبيض وأسود أو أصفر، فكلهم- حسب ما فسره عبد الوهاب المسيري – مجرد مادة نزعت عنها القداسة ومادة خام محايدة صالحة للتمدد الدائم والانتشار الثابت، حيث يقول في ذلك المسيري:”قررت الإمبريالية الغربية توسيع رقعة السوق لا عن طريق الانتشار الأفقي في الخارج (الذي يتطلب القوة العسكرية) وإنما عن طريق الانتشار الرأسي داخل النفس البشرية (الجوانية) ذاتها، التي تتحول إلى سوق دائم الاتساع، فتحل الذات الجوانية محل الأسواق البرانية، وهكذا يحل البراني محل الجواني، ومن ثم يسهل التحكم فيه”.
كما يحدد النسق الاستهلاكي الاستعماري الهدف من وجود الإنسان في الأرض ليس بالبحث عن الحق والخير والجمال أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما إدخال الإنسان في حلقة الإنتاج والاستهلاك المفرغة، فينتج ليستهلك ويستهلك لينتج، بل تتحول الوسائل في سياق الحداثة المنفصلة عن القيمة إلى غايات، وهكذا يتحول الإنتاج إلى غاية في حد ذاته. كما ترمز صورة الإنسان الكامنة في الحداثة المنفصلة عن القيمة إلى ذلك الفرد صاحب السيادة الكاملة المطلقة، الذي يصبح مرجعية ذاته ومكتفيا بذاته، هدفه تحقيق المصلحة الشخصية وتعظيم المتعة وزيادة اللذة وعبادة الشهوة، فهو بتعبير المسيري إما إنسان اقتصادي يتمركز حول قيم الثروة والربح والمصلحة الاقتصادية، أو إنسان جنسي متمركز حول قيم اللذة وخاضع للحتميات الجنسية، وفي جميع الأحوال هو إنسان طبيعي/ مادي لا علاقة له بالخير أو الشر أو بأي قيم خارج نطاق حواسه الخمسة؛ فهو حيوان اقتصادي جسماني لا يبحث إلا عن منفعته (الاقتصادية) ولذته (الجسدية)، وسلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع.
وتعد الموضة إحدى أهم تجليات الحداثة المنفصلة عن القيمة، إذ ترمز إلى التغيير الدائم والتطلع الحاد نحو الاستهلاك واللهث وراء جديد الأنماط والأشكال والأزياء، فهي تجسد رؤية للعالم بوصفه مادة متحركة، حيث تعيش البشرية مع طاغوت الموضة وآلتها الجهنمية المستندة على سلطة الإشهار وسحر الشاشة ونتوءات الجسد، حالة من الاستصنام إزاء استهلاك ثقافتها، بل تتحول الموضة من وسيلة للإغواء والإغراء بالاستهلاك إلى قيمة مطلقة، تريد تحقيق الربح على حساب الحاجة الحقيقية للإنسان، وعلى حساب إنسانية الإنسان، فكأنما صارت إله العصر الذي يعبد من دون الله، أو إنها ألوهية السوق كما سماها روجي غارودي.
لكن الأمر يتعدى كون الموضة طريقة للخداع والتحايل والاستغفال من أجل الإقناع بالزيادة المفرطة في الاستهلاك إرضاء للرأسمالية الشرهة والشرسة، بل تتجلى الخطورة في انتقالها من مجال الاقتصاد إلى مجال الثقافة، بهدف تغيير نسق السلوكات والقيم والمرجعيات والمعايير، وتكريس عقلية تقوم بتأسيس منظومة من التبريرات والتفسيرات من أجل منح شرعية متجددة لاستهلاك قيم الموضة وأنماطها، فتكون لحظة التماهي المطلق مع سلطان الموضة، فرصة لاستحمار للعقول واهتزاز المعايير الجمالية والمرجعيات نحو الإعلان الضمني عن إفلاس العقل البشري المركب واستلاب خصوصيات الهوية الحضارية، وسقوط الآدمية وتسليم الإنسانية مفاتيح عقولها لفلاسفة الموضة ومصمميها لصياغتها كما تشاء والسعي لقتل التفكير النقدي وتفكيك الإنسان/الروح.
وفي هذا السياق يمكن فهم بعض الدلالات السيميائية والرمزية والأبعاد الحضارية، لفلسفة الزي في الإسلام عموما وحركة الستر والعفة التي يضفيها الزي الإسلامي على المرأة المسلمة خصوصا؛ إذ يمثل ذلك في جوهره ثورة تجديدية جذرية ضد تأليه الموضة كسلطة عليا مقدسة فارغة من المعنى يُخضع لها. كما يعتبر الجهاد ضد الموضة معركة مصيرية وحاسمة لتحرير الذات المسلمة، وممانعة جذرية لكل المحاولات المستمرة لعولمة النموذج الاستهلاكي الغربي وإفقار الزي من مضامينه الفلسفية وأبعاده الكفاحية.
ووجب التنبيه في هذا السياق، إلى عدم الاقتصار في التصدي للاختراق العلماني على الأبعاد الأخلاقية السطحية الجزئية، مثل التمركز في الخطاب الدعوي على ضرورة ارتداء الحجاب والفصل بين الجنسين وعدم الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، دون اعتبار أن الاستغراق في النموذج الاستهلاكي الرأسمالي والسقوط في نسقه هو جوهر العلمانية الشاملة وهو الأمر الأخطر، ومن ثم لابد من إدراك آليات الاختراق العلماني العميق وتضميناته الفلسفية(حوار المسيري حول الاختراق العلماني والتدين)؛ يبرز بوضوح المسيري ذلك في مقاله الإنسان والشيء بقوله:”لنتخيل إنساناً يلبس “التي شيرت”، ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة “البريفاب” (الكتل الصماء سابقة الإعداد)، ويأكل طعاماً وظيفياً (همبورغر- تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية)، وينام على سرير وظيفي ويشرب الكوكاكولا، ويشاهد الإعلانات التجارية التي تغويه بالاستهلاك والمزيد من استهلاك سلع لا يحتاج إليها في المقام الأول، ويعيش في مدينة شوارعها فسيحة عليه أن يجري بسيارته المستوردة بسرعة مائة ميل في الساعة، ويهرع بسيارته من محل عمله إلى محل طعام “التيك أواي” ومنها إلى مركز التسوق الذي يتسلع البشر، ويداوم على مشاهدة الأفلام الأميركية (الإباحية أو غير الإباحية) بشراهة غير مادية، ويسمع أخبار النجوم وفضائحهم، ويدمن تلقي الحكمة من النجمات الساطعات أو المغمورات..”، ليتساءل عن نتائج هذا النسق القيمي في الحياة المعاصرة:”ألن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار..إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟”
وهذا الأمر سواء بالنسبة للمتدين السطحي ذو التدين الناعم وبين غير المتدين؛ فقد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة لعالم الحواس الخمس وجدواها؛ لأنه سقط الإنسان في المنظومة المادية واخترقته مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والأخلاقية، رغم أنها توجِّه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه.(المسيري، الإنسان والشيء)
كما يضرب المسيري مثالا آخر للمحاولات الطيبة لتبني بعض جوانب السلوك الإسلامي دون الالتزام بالثوابت الكلية والنهائية، فالشخص الذي يقصر جلبابه ويبني مسجداً في غاية البساطة(حسب التعاليم الإسلامية)، ومع هذا يركب أفخر السيارات، ويعيش في أكثر المنازل رفاهية، تحت شعار أن هذا”حلال” دون أن يدرك أنه قد سقط في النموذج المعرفي الاستهلاكي ، وكأن الهدف من وجود الإنسان في الكون ليس التراحم وإقامة العدل في الأرض، وإنما الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك. ويصف أزمة التدين العاجز عن إدراك الأبعاد العميقة في الظواهر بواقعة عاشها قائلا: “أذكر مرة أنني كنت أجلس مع بعض الأصدقاء المسلمين وحانت ساعة المصارعة الحرة في التلفيزيون، والتي أحس بالإشمئزاز منها لدرجة أن معدتي تصاب بالغثيان. وبدلاً من أن أطلب من الأصدقاء أن يغلقوا التلفيزيون حاولت أن أكون كيّساً معهم، فسألتهم: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم معنا، أكان سيوافق على هذه المصارعة الحرة فسارع الإخوة بالنفي، وحينما سألتهم عن السبب: قالوا لأن المصارعين لا يرتدون “سروالاً شرعياً” وهكذا فاتتهم بنية الصراع الدارويني التي حولت المتصارعين إلى كتلتين من اللحم المتصادمتين؛ أي أن البعد المعرفي ، الكلي والنهائي، لم يسترع انتباههم على الإطلاق”.(المسيري، في أهمية الدرس المعرفي )
إن الإيقاع العادي للاستهلاك يقوم على الحاجة المبررة، فهو مرتبط بمنطق الفطرة والشرع من جهة، ومستند على الحاجة والقدرة من جهة أخرى، وليس على اختلاق الحاجات وصناعة الأذواق والاختيارات، أو بتحويل الكماليات إلى ضروريات، والضروريات إلى ضروريات قصوى، فضلا عن خطورة تحويل الاستهلاك إلى غاية، وتحويل الموضة إلى قيمة مطلقة عليا، مع ما يتضمنه من اختزال لجسد المرأة وعبادة أنوثتها والتركيز على الإغواء الجنسي، يشكل إحدى التهديدات الخفية للعقيدة، فلا يوجد شيء غاية في ذاته وله معنى في ذاته إلا الله سبحانه وتعالى.
وعلى ضوء ذلك يشكل النسق الاستهلاكي المعاصر تعبيرا عن تبلور نموذج إمبريالي توظيفي عنوانه أن تستهلك كل شيء وتوظف كل شيء وتبدد كل شيء (الطاقة – المواد الخام – الأغاني – جسد الأنثى – طبقة الأوزون)، فالثابت الوحيد في هذا النسق هو التغير الفاقد للمعنى الوظيفي أو الرمزي أو الجمالي، ولذا تتغير فيه الأغاني والرقصات والموضات والأذواق والقيم والمواهب وأشكال العلاقات الاجتماعية وأنماط الفنون والموسيقى بسرعة فائقة.
إن الحاجة ملحة لإطلاق ثورة مدفوعة برؤية إنسانية مؤمنة متجاوزة للواقع، ذات أبعاد فكرية وقيمية ونماذجية ضد هذه الموجة الكاسحة من الاستهلاكية الاستعمارية الجديدة، تدشن لدورة جديدة في مسارات النهضة والإصلاح، مقاومة هذه السلط المقدسة الجديدة التي تغتصب العقول وتحتل النفوس، وتسعى لقتل إنسانية الإنسان وتفكيك القيم وإفقاد المعنى، وتحويله إلى مادة استعمالية.
فلا يمكن بناء النهضة المنشودة دون الثورة ضد موجة التطلعات المتزايدة وآثارها الثقافية والقيمية المدمرة، وعلى ما خلفته الحداثة الداروينية من صراع وتفكك واستهلاك جنوني، بإطلاق ثورة تبتدئ بتحرير الذات والفكر من هذا الاستعمار النفسي وخوض معركة لتحرير الإنسان وإرادته وتكريمه، بهدف تفعيل رساليته في الوجود واستخلافه في الأرض واسترجاع إنسانيته ذات الأبعاد المتعددة والمركبة، باعتباره صاحب هوية وحاملا لقيم النهضة والتحرر، وتبني الإسلام كرؤية للكون بمرجعية إنسانية منفتحة
بقلم: سلمان بونعمان