نطرح في الدراسة سؤالا مفاده:
هل يمكن أن نقرأ الرواية العربية بمعزل عن الثقافة العربية وتراثها؟
الإجابة بالنفي قطعا، لأن الرواية العربية امتداد مباشر للأدب العربي قديما وحديثا، بل يمكن القول إن الرواية العربية هي أحد أشكال السرد العربي الحديث، مثلما كانت هناك أشكال عديدة في التراث العربي القديم، مثل المقامات والسير الشعبية وألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والكتب ذات القصة الواحدة مثل حي بن يقظان، لابن طفيل، والكتب متعددة القصص ذات الموضوع الواحد، مثل كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي، وكتاب البخلاء للجاحظ، فالسرد جزء لا يتجزأ من الظاهرة الأدبية، ولا يمكن القبول بأن يكون الشعر وحده هو ديوان العرب، وإنما الشعر والنثر والسرد مكونات للأدب العربي، في عصوره المختلفة، وما الرواية إلا جزء من الظاهرة الأدبية الحديثة.
هذا، ويتأتى الوعي بخصوصية الرواية العربية من مفهوم “المركزية الثقافية”، وهي نقطة جذب أساسية بالنسبة إلى علاقة العربية بالثقافات والمجتمعات الأخرى، فأهم ما يميز المركزية الثقافية من هذا المنظور ارتباطها بالتحول الاجتماعي، كما يعني هذا التحول- من خلال سيرورة التاريخ الإنساني العام- توالي مراحل من ازدهار وأفول للمركزيات الثقافية، ويعني أيضا تجدد هذه المركزيات من ناحية أخرى، مما يجعل بعض الثقافات المحيطة بنا تغير مواقعها، وتكتسب صفة المركزية على حساب غيرها، أو بجانبها، على أساس التنافس أو التوازي.
وكي تتضح الصورة أكثر، فإن الثقافة العربية ثقافة مركزية؛ انبثقت من انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، حيث بلغت اللغة العربية شأوا بعيدا، عندما تنزّل القرآن الكريم بها، وأصبحت لغة العلوم والآداب الأولى في الحضارة الإسلامية، التي تمددت في القارات الثلاث، وأدخلت شعوبا وأجناسا عديدة في النطاق الحضاري والثقافي الإسلامي، وعاش بين ظهرانيها أهل الكتاب، وأهل الديانات الأخرى.
فكان المشهد الثقافي طوال أربعة عشر قرنا هو: ثقافة عربية مركزية، دُوّنت بها العلوم والفنون الحضارية، وهناك ثقافات فرعية على جانبي هذه الثقافة.
ولعل ما يميز المركزية الثقافية العربية أنها مركزية مرنة، لا تعرف جمودا ولا انقطاعا، منفتحة على سائر الشعوب والثقافات، مع الحفاظ على خصوصيتها الحضارية، فالتعدد والتنوع يمثل إخصابا للثقافة ولمركزيتها.
فمن أبرز مزايا الثقافة العربية بوصفها ثقافة منبثقة من الثقافة الإسلامية؛ أنها تستند إلى مرجعية قيمية إسلامية، مؤكدة على البعد الروحي والقيمي، وأنها ليس مجرد مهارات وتقنيات، وهي ثقافة تقوم على قاعدة التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بالانفتاح على مستجدات العصر، دون انقطاع مع الماضي والتراث. كما تتسم بالشمولية أخلاقا وقيما، وإبداعات وعلوما، وتربية وتهذيبا، مع كونها ثقافة واقعية، تنظر إلى مشكلات الواقع، غير منعزلة ولا جامدة، بل متفاعلة ومتواصلة.
وفي المقابل هناك ثقافات” مركزية متجمدة وأخرى رافضة أو مكتفية. ومن ناحية ثانية، هناك دوائر ضمن درجة التمركز، فمركزيات معينة تبدو متخصصة أو محدودة المركزية، بالمعنى الذي يجعلها مركزية في نوع واحد أو جملة من الفنون، أو في مجالات في المعرفة أو في غيرها، فالمركزية الثقافية العربية شاملة لمختلف الفنون والآداب والعلوم التي أبدعتها الحضارة الإسلامية، بعكس ما نرى في ثقافات أخرى، تتميز في مجال معرفي أو فني أو أدبي ما، ولديها قصور في مجالات أخرى، فالثقافة الروسية متميزة في الآداب، ويشهد على ذلك الرواية الروسية العظيمة في القرن التاسع عشر، ولكن بضاعتها في الفنون والعلوم قليلة، بالمقارنة مع الثقافات الأوروبية، ونفس الأمر مع ثقافة الصين، والهند وغيرهما.
وقد توقف مبارك ربيع عند المركزية الثقافية العربية، وتأمل تموضع السردية العربية التراثية في الأدب العربي في العصر الحديث؛ مؤكدا أنها لم تتوقف أبدا، رغم أنها فيما يبدو لم تسر في طريقها التطوري على نحو إيجابي مستمر، وربما يكون هذا المظهر نتيجة تفاعل طبيعي مع ثقافتها ومع السيرورة الأدبية العربية عامة، فيما انتابها من توقف وتراجع. ولكن السيرة السردية على مستوى الثقافة الشعبية بحكم واقعها، استطاعت بكيفيات مختلفة أن تظل حية، بسماتها الخاصة وفي تعبيرها عن المراحل والعصور، إلا أنها لم تكن مصدر انطلاق للرواية العربية الحديثة، رغم ظاهرة استرجاع العلاقة التي جاءت نتيجة عوامل وظروف أخرى فحضور التراث السردي العربي في الرواية العربية الحديثة قائم وواضح، وبأشكال مختلفة، إما بإعادة إنتاج هذه السرديات بشكل مختلف، كما في رواية ليالي ألف ليلة وليلة لنجيب محفوظ، حيث اشتغل بوعي عال على بعض شخصيات ليالي ألف ليلة التراثية، وصاغها في أحداث جديدة، كشفت عن الإنسان في ضعفه وأنانيته وشهوته وأيضا في عجزه، وهناك من وظّف شخصيات من السير الشعبية وأيضا من التاريخ ومسرودات المؤرخين العرب، كما فعل جمال الغيطاني في الزيني بركات. ولكن الأمر لا ينظر إليه في قضية توظيف التراث السردي فقط، وإنما يتخطاه إلى دلالة أعمق، فالرواية العربية أضحت هي الكتاب المعبر عن حياة الإنسان العربي الحديث: فكرا ونفسية ومجتمعا، وبات الروائي العرب وريثا للحكاء القديم، وما الشكل الروائي إلا شكل سردي، استوعب قضايا الإنسان العربي الحديث.