تتراقص فراشات الفرح حول قناديل مشاعرنا، فتحملنا على أجنحتها وتطير بنا عاليا؛ لنتحرّر من قوّة جذب الأديم الذي يحاول جاهدا إرجاعنا، ونقبع في سديم السّعادة الذي يشعرنا بالتّحرّر من كلّ قيود الجسد والفكر، ونحيا لحظاتِ غطسٍ في نهر التّطهير ممّا يعكّر صفو الشّاردات والواردات، ونغرس على ضفّتيه شجيرات نتمنّى بقاءها مخضرّة بأوراق البهجة، وتيسير كلّ عسير، ومثمرة بثمار الطّمأنينة، وطرد أيّ تكدير.
تمطرنا مزنة جميل الأحاسيس برشّات متواصلة تبلّلنا بفرح يدفئ القلوب والنّفوس، وينسينا برد وصقيع الأحزان المثقِلة للكواهل، وتنوّخ بحملها الظّهور. فتنهض القامات مجدّدة نشاطها ومشرئبّة نحو مطر الفرح؛ طمعا بخيراته، ووافر عطائه. يرطّب ندى السّعادة المشاعر بطيب شذاه، فتهيم في روض السّرور عازفة على أوتار الرّاحة التي جعلتها النّغمة تغادر سجن الجسد؛ لتحمّل ذاك العزف نسيم الجذل؛ كي ينشره في أجواء من يرحّبون به، ويحرصون على حفظه في أسطوانات أفئدتهم. وتدغدغ أنامل السّرور الفكر، فتليّن بعض ما تشنّج من أمور، وعجز عن إيجاد المخرج لها، وينشر حرير مخيّلته بساطا يفترشه مرتاحا، ويزركشه بجميل ما يسيل من عصارات ذاك الفكر. وتبقى أجنحة فراشات الفرح مرفرفة حتّى تتفاجأ بتحوّل المزنة المنعشة إلى غيمة سوداء ترشق الهامات بزخّات من الهموم، فتقبع حانية في وحل التّعاسة، وما تأتي به من شرور، ويخبو نور الحياة الذي سطع، وتفتر حرارة ما أدفأ.
ويشعرنا الحزن بثقل يلصقنا بالأرض، وينسينا كلّ نجم مضيء في السّماء؛ لأنّ العيون تتسمّر حدقاتها في الطّين الذي يمسك بالقدمين، فتتحوّل مخيلة الأفكار التي نعمت بجميل الصّور، ومبهجات النّظر إلى لوحة تمتصّ جميع ألوان الصّور، وتزداد قتامة تثقل على الفكر، فتبدأ مطارق ما يزعج ويحزن بخبط الرّؤوس، بعد أن كانت لا تجرؤ على رفع رأسها، وتقفز لتجلد الجسد والنّفس، فلا تستطيع المقاومة بسبب نور الفرح. وقد تثقل السّوداويّة على الفكر، فيبدأ ببناء أكوام من حبّات صغيرة طرقت بابه…ولا يبقى دور للخيال الجميل الذي يحلّق في بياض الأفق، بل قد يغطس الفكر عميقا؛ لانتشال ما عنّ على الخاطر، وكدّر الصّفو، ودفن في العقل الباطن.
والعجب، كلّ العجب من نسيان المشاعر الطّيّبة، حين تدهمنا أكوام ما يحزن، وإن لمعت بعض خيوط الإضاءة لتخفيف حدّة القتامة، فإنّنا نراها سلاسل قهر تزيد الجرح إيلاما، ويزداد لهيب أتّون الغضب المشعل بحطب التّبرّم، ويتألّم الجسد، وتنصلي الأحاسيس، فندخل في خندق يأوينا، حتّى نصل نهايته منهكين… ولدى خروجنا منه لا يهمّنا الضّوء الذي بزغ نوره، وبدّد ظلمة الأعماق، فنقعد عاجزين مستسلمين، لا نريد رؤية الشّمس وشروقها؛ لأنّنا نغطّيها بغيوم أفكارنا، فنندب حظّنا ومصائرنا، ونزيد من أكوام أحزاننا دافنين أفراحنا.