كَسِيرًا سَارَ عَلَى جَمْرِ الحَقِيقَةِ، يُغَالِبُ دُمُوعًا أَعْجَزَها التَّسَلُّلُ مِن بَيْنَ جَفْنَيهِ، فَسَالَتْ تَحُزُّ جَفَافَ حَلْقِهِ، وَتَنْكَأُ بِابْتِلاعِهِ خَنَاجِرَ مُلُوحَتِهَا جِرَاحَ قَلْبٍ أَسْلَمَهُ رَاضِيًا لِكَفِّ الغَدْرِ تُلاعِبُهُ فَيَلِينُ، وتَتلاعَبُ به فَيَستَكين، حَتّى احْتَلَّهُ اليَأْسُ وَعَلَاهُ صَدَأُ هُونٍ وَحَنِينٍ، فَطَأْطَأَ الرَّأْسَ وَمضَى لَا تَتَّسِعُ لِآهَاتِ صَدْرِهِ فَضَاءَاتُ كَوْنِهِ، وَلَا يَنْتَهِي فِي مَتَاهَاتِ عُمْرِهِ جَحِيمُ حُزْنِهِ.
بِحَسْرَةٍ اسْتَدَارَ عَنْ حُلْمُهِ بِفِرْدَوْسٍ يُتَوِّجُهَا عَلَيْهِ مَلِيكَةً، وَيَقِفُ بِبَابِهِ حَارِسًا وَعَلَى حُدُودِهِ فَارِسًا، يَذُودُ عَنْهَا بِالرُّوحِ لِيَقِيَهَا خَيْبَاتِ التَّجَارِبِ وَوَيْلَاتِ الغَدْرِ، لَا تَنْظُرُهَا غَيْرُ عَيْنِ إِكْبَارٍ وَلَا تَلْمَسُهَا غَيْرُ يَدِ تَحِيَّةٍ بِإجْلَالٍ، فَأبَتْ إِلَّا أنْ تَكُونَ جِيفَةً تَتَنَاوَشُها الذِّئَابُ.
مُكَابِرًا أشاح َعنها، تنبَجِسُ بالمَوْت حِمَمُ سِيَاطِ غَضَبِهِ يَجْلِدُ بِهَا نَفْسَهُ الكَلِيلَةَ، وَيَسْتَجْدِي الوُجُودَ مَرْفَأً تَرْسُو فِيهِ سَفِينُ رُوحِهُ العَلِيلَةِ، لَمْ يُوقِفْهُ نِدَاؤُهَا الغَافِلُ عَنْ نَزِيفِ مَشَاعِرِهِ عَلَى امْتِدَادِ انْزِلَاقِ أَنَامِلِهَا الرَّقِيقَةِ بَعِيدًا عَنْ مَرَايا وَهْمِهِ، وَلَمْ يُشْعِلْ صَوْتُهَا إِذْ نَادَتْهُ حَبِيبِي مَا اعْتَادَ إِشْعَالَهُ فِي حَشَايَاهُ مِنْ قَنَادِيلِ الأَمَلِ تُنِيرُ دُهْمَةَ المَسَارِبِ فِي جَنَّةِ عِشْقِهِ المُدْهَامّةِ، تَقِيهِمَا تَلَصُّصَ النُّجُومِ لَيْلًا وَحَمْلَقَةَ الشَّمْسِ قَيْلًا.
وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ يَا مُنْيَةَ الرُّوحِ قَالَ صَمْتُهُ، بَيْنَمَا يَجْلِدُهُ الحُزْنُ بِسَوْطِهِ وَيُحْجِمُ عَنِ الرَّدِّ صَوْتُهُ، وَبِنَظْرَةِ مَفْجُوعٍ وَدَّعَ كَفَّهَا المَمْدُودَةَ نَحْوَهُ بِالأَمَلِ الزَّائِفِ، وَقَدْ أَغْوَى دَهْرًا فُؤَادًا نَازِفًا لَمْ تَعْبَأْ بِنَزِيفِهِ، وَلَا التَفَتَتْ إِذْ رَفَّ مُنْتَفِضًا بِنَزْعِ المَوْتِ لِرَفِيفِهِ، وبِهَدأَةِ رُوحٍ اخْتَارَتِ الجَحِيمَ مَلَاذًا عَلَى أَنْ تَنْتَظِمَ خَرَزَةً فِي عِقْدٍ عَلَى جِيدِ غَانِيَةٍ .. قَطَعَ وَتِينَ الحُلُمِ وَعَلَى جَمْرِ الحَقِيقَةِ سَارَ.