أدبنقد

جمالية الخرق لقواعد اللغة المعيارية بين لغة الإيحاء ولغة الإنتاج

قراءة تحليلية لقصة "وعود" للمبدعة كاملة بدارنة

القصة:
فخّخ أحلامها بالوعود، وزيّن آمالها بالورود..
ولمّا أزفت ساعة الوفاء، شقّ القَدَرُ صدر فرحها، وتركها في قِدر على نار لوعة الذّكريات تلوب…

دلالة العنوان
اختارت الكاتبة “وعود” كعنوان لقصتها، فالفعل وعَدَ يَعِد، وَعْدًا، فهو واعد، والمفعول مَوْعود. وقد جاء العنوان نكرة، على صيغة الجمع، لا نعرف أهي وعود تنطوي على شر أم على خير.. فالوعد هو العهد والاتفاق الذي لا يخلف، وكلمة “وعد” هي من أسماء البنات ذات المعاني الجميلة، التي قد تتميز شخصيتها بالصدق والوفاء، وحب الخير لكل الناس. والوعد كذلك هو ما يُقْطَع من عهد في الخير والشرّ، والتزام باحترام عَهد والتقيُّد به بأمانة، نقول: وعَد فلانًا: أنذره وهدَّده، وعَده بالعقاب، هَدَّدَهُ شَرّاً. والمثل يقول: لمن أخلف بالوعد: وعد بالقمر، أي منى بالمستحيل وغير الممكن. ومن يخلف الوعد فهو كاذب، والمثل يقول: أكذب من عرقوب. (1)
والسؤال الذي قد يطرحه المتلقي على نفسه قبل أن يتخطى عتبة النص، هو: هل هي وعود تتضمن الخير أم الشر؟ هل هي وعود كاذبة أم صادقة؟ وهل هناك صراع بين الخير والشر، والكذب والصدق؟ وما هي صفات الإنسان الذي يخلف وعده؟ كل هذه الأسئلة هي توقعات كمفاتيح تسهل على القارئ الولوج إلى عالم النص وتنوير فجواته.

تفكيك خطاب النص
اـــ فخّخ أحلامها بالوعود،/ جاءت هذه الجملة السردية كمفتاح لبداية القصة، فالفعل “فخخ” ولد حالة غير طبيعية في السلوك الإنساني، ومعناه القريب يدل على أن الفخاخ تنصب لاصطياد الطير والحيوانات. فالفعل “فخخ” خرج عن معناه الأصلي، فأخذ دلالة جديدة. فالتفخيخ مس أحلام الإنسان، بنصب فخ لها كخدعة أو طريقة ملتوية لوضع شخص ما في أزمة أو خطر. وفعل “فخخ” يدل على تكرار الفعل، فكلمة “وعود” جاءت نكرة في العنوان، وجاءت معرفة “الوعود في جملة بداية القصة، تكرار قد يفيد التأكيد إحداث فجوة التوتر كأن شيئا ما سوف يحدث، كصدمة للقارئ: كيف يتم تفخيخ الأحلام بدل الطيور والحيوانات؟ كيف خرج فعل نصب الفخاخ من الملموس إلى المحسوس؟ كيف يتم النصب والاحتيال على أحلام الغـير؟
فانطلاقا من لغة الجملة نجدها توحي بأبعاد أخرى مغيبة، غير مصرح بها، تتجلى في كون البطل استعمل الوعود للسيطرة على أحلامها عن طريق الإقناع، وتزويق الكلام، والتقرب منها في كل زمان ومكان حتى وثقت به. اصطياد تم بالفكر والدهاء والمكر الصامت. فلا وجود لوعد واحد، بل هي وعود متعددة وكثيرة، فمن الصعب أن تتحقق كلها في آن واحد وفي زمن قياسي محدد.. لذلك لجأ البطل إلى تحريك أحلامها وتعدادها ليستطيع أن يدخل إلى عالمها الخفي. ويسهل عليه اجتذابها وكسب ثقتها. ففتح لها عوالم كثيرة قد تساهم في إسعادها، وتحقيق كل شيء ترغب فيه. يحلف ويكرر قسمه، ويشهد على نفسه أنه صادق ،ولن يتخلى عنها أبدا مهما كانت الظروف. وهو في قرارة نفسه كاذب ومتحايل ليصل إلى هدف ما.
فالساردة لم تحدد نوع الأحلام التي ارتبطت بوعود كاذبة. فالبطل نصب فخاخه جيدا، فأوهمها أن أحلامها قابلة للإنجاز وسهلة التحقق. وهي طريقة اختارها ليدخل إلى قلبها وفكرها ورغباتها وطموحاتها. وهو يدرك يقينا أنه غير قادر على تحقيقها، وإنما هي وعود مبنية على القول الجميل والمرتب يجمع بين الإقناع والتأكيد. شكلها في قوالب عديدة بعيدة عن الشك والتوجس، ليحقق نزواته الدفينة في أسرع وقت ممكن..
فبداية القصة جاءت سردية، تعتبر افتتاحية للكشف عن حالة نفسية وشعورية للشخصية، دون تحديد الزمان والمكان، فالقارئ يدركهما ضمنيا من خلال الإعلان عن حالة أو قضية وقعت، ويمكن أن تقع في كل زمان ومكان. ولم تكن البداية ترتكز على حكي خبر عن شخص ما فقط، “تفخيخ الأحلام بالوعود”، بل نجد البداية تجمع بين تقديم الخبر، والتوغل في النفس البشرية وكشف طبعها وسلوكها للقارئ ليطلع على نمط شخصية القصة، فيدخل في دوامة القلق والتوتر بتوقعات مبنية على التأمل والاستنباط والتأويل؟ فما نوع الأحلام التي فخخها البطل؟ لمن هذه الأحلام؟ أهي لزوجته؟ أهي لعشيقته؟ أهي لخطيبته؟ فهل البطل أخلف وعوده حقا؟ كيف انطلت الحيلة على البطلة؟ ألم يقع البطل في الخطأ ولو مرة واحدة؟…
فالقارئ يجد حيرة في تفكيك هذه الأحلام، فأحلام البطلة قد تختلف عن أحلام البطل، وأحلام الإنسان لا تحصى، وأقربها إلى قلب البطلة، الحب الصادق الذي قد يتوج بالزواج، وبناء أسرة متكاملة، بينما هو يبني أحلامه على استنزاف الجسد، وامتصاص رحيق الزهرة. تقول الساردة:

ب ـــ وزيّن آمالها بالورود../ جملة تحمل في طياتها إشارة لتغطية نيته، فتزيين الآمال بالورود هي خطوة نحو تطور الحدث وبنائه، والسير قدما لتمويه خطته، فجعل كل آمالها منثورة أمامها كحديقة ورد، كنعمة تجمع بين السعادة وسهولة الحياة. فالساردة لم تقدم شخصية القصة، ولم تعرف بمكانته الاجتماعية والثقافية، ولم تحدد العلاقة التي تربطه بالذات الأخرى، ولكنها ركزت على السلوك والموقف. فالقارئ يدرك مكونات هذه الشخصية، والتي كثيرا ما نصادفها في الحياة. شخصية مخادعة ومتحايلة، متهورة ومستهترة بالقيم الإنسانية، شخصية تعد ولا تفي بوعدها، كأنه عرقوب جديد. فقبل أن يتم القارئ قراءة القصة يحدد موقفه وانطباعه لهذه الشخصية، فيبحث عن شبيه لها في الحياة من خلال تجربته وثقافته، وعلاقته بالناس.
بداية القصة جاءت مختزلة، ركزت الكاتبة فيها على تقديم الحدث بشكل سريع، حصرته في ” الخبر” كاستشعار للقارئ وتنبهه لما سيقع من نتائج سيئة بسبب بناء وعود كاذبة. لم تشرح الساردة الكيفية التي تم بها تكبيل أحلام البطلة بالوعود، ولم تفسر كيفية تزيين الآمال؟ فالقصة القصيرة جدا لا تحتمل التفسير والإضافات التي تؤدي إلى الملل. فكل إنسان له أماني وأمال يطمح أن تتحقق له في الحياة، يلمسها، ويستنشقها، فكلمة “الورود” غير محددة، ومن هنا كانت بداية القصة ممتلئة بالمجاز اللغوي، وانزياح المعاني والدلالات للكلمات التالية /الأماني/ الورود / الآمال/ عن معناها الأصلي، ليدخل القارئ مع المبدعة في جدلية نقاش جاد، يكشف ما وراء هذه الرمزية البعيدة. فما يفهمه القارئ أن الفخ نصب عمدا وعن وعي للإيقاع بالبطلة، لتصبح ملكا له وتحت سلطته.

ج ـــ ولمّا أزفت ساعة الوفاء، شقّ القَدَرُ صدر فرحها /
لقد تم القفز عن الزمن الذي يوجد بين تزيين الآمال، وحضور زمن الوفاء. فعبرت عنه الساردة بظرف الزمان “ولما” الذي يختص بالماضي،/ ولمّا أزفت ساعة الوفاء/ فالزمن غير محدد في الجملة، وفعل “أزفت ساعة الوفاء” تفيد اقتراب الزمن ودنوه. زمن يفصل بين الكذب والوفاء، وسوف تظهر الحقيقة للبطلة. فالكاتبة استعارت كلمة “أزفت” من القرآن الكريم لتأكد أن حالة البطلة تقترب من الحل، إما الوفاء أو الكذب.، فظرف الزمن “لما” يقتضي جملة أخرى، لما أخلف وعده، ماذا وقع؟ لما تخلى عن وعوده، ماذا وقع؟ فالجملة التالية “شقّ القَدَرُ صدر فرحها/ وضحت حالة البطلة التي أصبحت عليها، فالقارئ يدرك أن هناك انتقالا وتحولا في حياة البطلة، انتقال من حالة البهجة والسرور إلى حالة الهم والحزن والإحباط…….
فماذا وقع لما حل زمن الوفاء؟ الجواب يكمن في الجملة التالية/ شقّ القَدَرُ صدر فرحها/ لتحفز القارئ على استشعار خطب ما، رغم أن له إحساسا بالنصب والخداع، لكن يريد أن يتحقق من توقعاته السابقة. فهل كان القارئ يتوقع هذه النتيجة الصادمة؟ فهل كان يتنبأ بانعدام الوفاء؟ وهل كان يأمل أن تتغير الحالة لتتطور نحو تجاه آخر، كمحاسبة البطل لنفسه في آخر لحظة، فتتحول الوعود إلى وفاء محتمل؟ لكن الوضعية لم تتغير، بل تعقدت بعدما تدخلت قوة خارجية /القدر/ ساهمت في تثبيت الوضعية، وجعلها كحالة مقدرة ومكتوبة في سجل البطلة، لا يمكن أن تتغير أو تأخذ مسارا جديدا. فماذا حصل؟
شقّ القَدَرُ صدر فرحها/ فعل “شق” فيها عنف، وخرق، وتصدع، فذات البطلة تعيش داخل التشظي والاستغراب، فكان الفصل بين الفرح والحزن مؤكدا، لما أخلف وعده.. جملة سردية فيها كناية عن دلالة تسير نحو التبدل والتغير من الفرح إلى الحزن، فالقدر انتزع الفرح من قلبها، ووضع محله الأسى بعدما أحدث شرخا بمبضع الكذب والنصب والاحتيال، لقتل الفرح الذي لم يستمر طويلا. فأصبح صدر البطلة فارغا من الفرح، وحل محله الأسى والحزن. وهي شبيهة بعملية قيصرية لإبعاد ما تولد من الفرح المبني على تلك الأماني الفضفاضة، والآمال الكاذبة.
فرغم أن النتيجة كانت معلومة، وهو عدم الوفاء، فإن الساردة حولت فكر القارئ إلى الحالة الصادمة للبطلة، من أجل كسب تعاطفه، وهز مشاعره أكثر، وتحديد موقفه من هذه الشخصية المتذبذبة في سلوكها.
عملت الساردة على استخدام ” ضمير التأنيث الغائبة”/ أحلامها/ آمالها/ صدر فرحها/ مما يدفع القارئ أن يتساءل مرة أخرى: من تكون؟ عشيقته/ خطيبته/ زوجته/ أمه/ أخته/ اتفاق على قضية ما كالزواج، أو قضية من قضايا الحياة، كالتوسط لها عن عمل، فتحديد من تكون قد يؤدي إلى الإطناب، والزوائد اللغوية، ولهذا كانت الكاتبة حريصة على التكثيف والإيحاء، تاركة الفرصة للقارئ لإعمال فكره، ومشاركتها في رؤيتها أو مخالفتها فيما تقول.

د ـــ وتركها في قِدر على نار لوعة الذّكريات تلوب…/
انتقلت الساردة من الإخبار عن سلطة القدر، ولم تصرح أن البطل أخلف وعده، بل لمحت بإشارات لغوية عن تأزم حالة البطلة. سكتت الساردة عن ما جد في حياة البطل، وهي فجوة كبيرة ومقلقة للقارئ، فبعد الإعلان والإخبار عن تفخيخ أحلام البطلة، وتزيين الآمال بالورود، لا نعرف ماذا حل بالبطل. هل أخلف وعده لما وصل إلى هدفه؟ أم أن القدر أجبره على التخلي عن البطلة؟ والواضح، نفهم من بداية القصة أن البطل بنــى خطته المحكمة للإيقاع بالبطلة، وبعد أن وصل إلى مبتغاه أخلف وعده. فنية التفخيخ كانت واردة من البداية، إما بالهروب، وإما بالتغيب، وإما بالتنكر أو الإنكار.
عملت الساردة على تغييب البطل من بداية القصة، فركزت على سلوكه وفعله، شخص لعب دوره وانسحب، لكنه ترك أثره على البطلة، فانطلقت الساردة من حدث عدم الوفاء” لتصف حالة البطلة، وبذلك فسحت الكاتبة للقارئ مساحة من التخمين والتأويل ليكون شاهدا على ما وقع للبطلة، فيعود لبداية القصة ليتخيل سمات هذه الشخصية الكاذبة التي قامت بفعل “عدم الوفاء” ليصنفها داخل خانة الكذابين والمحتالين، وهم كثر في العصر الحالي. بعدها ينشغل القارئ بحالة البطلة التي وصلت إليها.
وتركها في قِدر على نار/ إنها صورة التشتت والضياع، بل الهلاك، جسدتها جمالية التعبير، واللغة الموصلة لتخيل صورة العذاب النفسي بسبب التخلي عنها وعدم الوفاء. فشبهت الساردة حالة البطلة النفسية بالقدر على النار، فقاربت بين الحالتين: حالة البطلة النفسية، وحالة القدر على النار عن طريق المشابهة والمجاورة، فالحالتان تشتركان في صفات عرضية تتجلى في الغليان، والنشنشة، والاحتراق، والتآكل، والهلاك…
حاولت الساردة أن تقرب صورة البطلة أكثر للقارئ عن طريق التشبيه والتجسيد، جامعة بين ما هو مادي وحسي، وما يهم هو تبيان الساردة للحالة الحسية والشعورية للبطلة، وما خلفه ذلك البطل المجهول من ندوب وجروح وآثار بليغة ربما تؤدي بها إلى الاضطراب النفسي، أو الإقدام على الانتحار، أو التشرد والتسكع في الشوارع…
ركزت الساردة على التوغل في نفسية وما اعتراها من هموم وأحزان، فأصبحت تعيش على لوعة الذكريات، بعدما فطنت بالخداع متأخرة، فقد بنت آمالا كبيرة على تحقيق أحلامها من خارج ذاتها، ودون أن تكون مساهمة في تفعيلها، والعمل على تتبعها بحذر شديد، لتعرف مقياس ما يتحقق منها وما لا يتحقق. فليست كل الأحلام تتحقق كلها بالطريقة التي نتخيلها ونتصورها. فالقارئ قد يحكم على البطلة بأنها شخصية غريرة عديمة التجربة، بعيده عن الاحتكاك بتجارب الحياة المتعددة، فلم تستفد من تجارب الناس المختلفة.

هـ ـــ لوعة الذّكريات تلوب…/ فحالة التأزم دفعتها تلوب وتدور حول لوعة الذكريات، كمن استدار حول الماء من شدة العطش فلا يصل إليه. فلم تستطع أن تبتعد عن تلك الأحلام التي بقيت كذكريات لم تنجز، كأنها تحوم وتدور في الفراغ. فاللوب مستمر في حياة البطلة، ولن يتوقف مع عمرها، ولن يتأتى للنسيان محو لوعة الذكريات التي اكتوت بها. نهاية درامية مفتوحة، أشرت عليها الكاتبة بنقط الحذف التي تدل عن كلام مسكوت عنه، من أجل ترك مجالا كبيرا للقارئ أن يتخيل عدة نهايات تكون منسجمة مع حالة البطلة. فالساردة لم تحدد ملامح البطلة من حيث الهيئة الجسمية، وملامح جمالها، وصفات أخلاقها، بل اكتفت بإعطاء القارئ لمحة عنها، اختزلتها بإشارات لغوية لحالتها النفسية، تجلت في الصدمة المؤثرة على حياتها. بطلة غريرة، تنقصها التجربة في الحياة، سذاجتها تكمن في عدم طرح أسئلة على البطل قبل أن تعيش في الوهم والخداع: هل باستطاعة البطل أن يحقق كل أحلامها؟ وما هي الأحلام القابلة للإنجاز؟
استنتاج
اشتغلت الساردة على اللغة، حيث طورت من إمكاناتها وقدراتها اللغوية كحالات تتفرد بها المبدعة. قصة جاءت مشحونة بطاقات تعبيرية عالية كأنها تؤسس أسلوبا خاصا بها، وطابعا لغويا يميزها.
إن الأسلوب هو الكاتب نفسه، واللغة هي أداه الأسلوب، ووسيلته في التعبير. يقول عبد المجيد محمد خلف روائي كردي من سوريا ” اللغة كما هي مفهومة عند الجميع وسيلة لنقل الأفكار والمشاعر، والتعبير عما يجول في النفس، وما يعتمل فيها من حالات إنسانية، وتختلف طريقة التعبير من شخص إلى آخر، فتكون عميقة وقوية ذات دلالات واضحة، وقدرة على الوصول وبلوغ الهدف المراد منها لدى البعض، وتفتقر إلى ذلك لدى الآخر، وتأتي بسيطة ساذجة، مبهمة، عاجزة عن الإبلاغ، والتواصل مع الآخر، ونقل الفكرة بشكل مناسب.(…) “فاللغة هنا ليست ناقلة للحدث، بقدر ما هي لغة بناء للحدث ولعناصره، وموحية ومعبرة عنه توحي أكثر ما تقول.”(2)

بناء وتركيب:
في نهاية القصة، ظهرت حقيقة هذه الوعود التي تنطوي على أماني كاذبة، فقد أخذ أحلامها وانتزعها منها، فلفها بوعود غير قابلة للإنجاز، وهو ما عبرت عنه الساردة بفعل “فخخ”، أي نصب فخاخه، وجعلها تعيش في محيطه دون أن تدرك حقيقة الأحلام التي يمكن أن يحققها لها. كأنه “وعدها بالقمر” كما يقول المثل، أي كان يمنيها بالمستحيل وبغير الممكن. بطلة انساقت دون أن تدرك جيدا معنى القول المزين الذي كان يمده إليها على شكل ورود مزهرة. بثقة عمياء كانت مطواعة، تتابع دون مناقشة أو استفسار، بطلة تنقصها التجربة في الحياة..
فلما يغيب المحفز الأخلاقي ويموت الإخلاص والوفاء، وتتوارى الذات خلف ما تحققه من شبع ولذة مجانا، فإن الرغبة في الذات الأخرى تبقى غير نافعة ولا قيمة لها .. لأن الوضعية تغيرت، وربما تم تحقيق المراد منها… فلا مجال للحديث عن الوفاء والإخلاص، بطل انتهازي وصولي، خال من كل مروءة وإنسانية. والكثيرات من الفتيات المراهقات يسقطن في ثقافة تقديم الورد، كثقافة مبتذلة تبنى أحيانا على الكذب والرياء من أجل الوصول إلى هدف ماكر.
استعملت الكاتبة كلمة “القدر” فالقدر شرعا هو خروج الممكنات من العدم إلى الوجود خروجا مدبّرا محكما وفق علم الله تعالى ومشيئته منذ الأزل، ولغة ” القدر” فهو من قدر الشّيء أو قدّره، أي عرف مبلغه ومنتهاه وكنهه، ومنها قدّر فلان قيمة هذا الشّيء، أي عرف قيمته وما يساويه في واقع الحال، فكيف يشق القدر صدر فرحها؟ لا ندخل في المعنى التي تأتي كلمة القدر في القرآن والحديث، المهم نبحث عن مدى أهمية توظيفها في الجملة، أعتقد أن الانزياح بلغ منتهاه، بعدما أسندت فعل “شق” إلى القدر، وأسندت كلمة “صدر ” إلى الفرح. إيجاز فيه مبالغة رغم جمالية التركيب.. فالساردة تريد أن تقول: كان مقدرا للبطلة أن يحدث شقا بين أحلامها التي بنيت على وعود كاذبة، وفرح مرتقب لم يصل إلى منتهاه.
بدهي أن يشق القدر صدر فرحها، فأصبحت كالقدر الذي ينصب فوق نار حارقة، صورة لغوية تدل على المستوى النفسي والاجتماعي والديني، فساعة إنجاز الوعود لم تحضر نهائيا، ولم تتفعل أبدا.. لأن موعدها تبخر مع الكذب والتحايل والتملص من كل الوعود السابقة.. بطلة لم تعرف كيف تتعامل مع الدناءة والمكر والخداع.. فصارت تحوم وتدور في فلك دوار داخل لوعة الذكريات، دون الوصول إلى أهدافها التي بنيت على باطل وأرضية هشة…
عملت الساردة على الابتعاد عن مألوف اللغة المتداولة، إذ عرفت كيف تملأ لغتها وتحملها من الدلالات التي توسع المعنى وتغنيه. وطريقتها هو خرق اللغة وتكييفها في تراكيب جديدة راقية. ربما نجد كلمة التقت بكلمة أخرى لأول مرة، أي هناك تجديد على مستوى التركيب والأسلوب الشيق الجذاب. من قبيل /فخخ أحلامها/ شقّ القَدَرُ صدر فرحها/ على نار لوعة الذّكريات تلوب…/
فرغم أن الفكرة متداولة وتتكرر بأساليب مختلفة في المجتمع. إلا أن الساردة عرفت كيف تسلها من التداول العام والمألوف، عن طريق تشخيص نوع من الألم النفسي العالي التوتر بلغة راقية. وكما يقال: اللغة وعاء للأفكار، فإذا انثقب الوعاء ضاعت الأفكار وتلاشت.

…………………………..
1 ـــ معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي

2 ــــ عبد المجيد محمد خلف روائي كردي من سوريا/ لغة القصة القصيرة جدا وخصوصيتها/ ثقافة/ 18 فبراير2018/مقال منشور في صحيفة Bûyerpress /العدد 74

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى