قضايا ثقافية

نظرة في السياقات التاريخية لمداخل محاربة الإسلام

“من لا يحتفظ بهويته لا يمكنه أن يحتفظ باستقلاله وبمقدرته على المقاومة، وفي نهاية الأمر بمقدرته على الإبداع”[1]

لكل حضارة رؤيتها  الكونية وتصورها الكلي عن الإنسان وما يحيطه من موجودات، وأمام تضارب  الرؤى، وتوق كل أمة لبسط سلطتها وهيمنتها الفكرية والثقافية على هوية غيرها من الأمم،  تنبثق اللغة كمكون من مكونات البناء الحضاري، لتكشف لنا عن تفوق الأمم حينا وانحطاطها حينا آخر، فهي وعاء الحضارة، ولسانها الناطق؛ إنها مَيْسَم إنساني، خص الله به الإنسان عن سائر المخلوقات، فكانت بذلك مرآة لسموه أو انحداره، وقسطاس أفكاره وخطراته، وعينا على انتصاراته وهزائمه، وقد عبر غير واحد من اللسانيين عن الفلسفة الوجودية للغة -ان جاز لنا قول ذلك- فقال جاك دريدا  أن ” كل لغة تحمل العالم في جوفها”، فهذه العبارة تلخص محورية اللغة عبر التاريخ الإنساني الممتد، إنها خزان ثقافي يتدفق  بتراث الأمم وعطاءات الشعوب، تزهر بازدهارهم وتذبل بذبولهم.

 فاللغة لا يمكن أن تكون إلا واجهة حضارية تحمل في طياتها هوية أهلها، وترجمان حالهم، تعز بعزهم وتذل بذُلهم، ولم أرَ أحسن من وصف العلامة ابن حزم لحال اللغة مع أصحابها لأستشهد به في هذا المقام حيث قال: ” اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم، وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل”[2]. وكأن ابن حزم في هذا النص يؤرخ ما آلت إليه أوضاعنا، ويصف الوهن الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية، فانعكس طيفه على هوية أبنائها، بله لغتهم.

والناظر في الواقع المشهود يفطن إلى أن الصراع الذي تخوضه لغتنا مع لغات أخرى في كل قطر من أقطار بلادنا الإسلامية، لم يكن ليحتدم وطيسه لولا تلك الآصرة التي تربط اللغة العربية بهوية المسلمين، فهي لغة التنزيل، ومفتاح لفهم الدين، تحوي بين ثناياها الرؤية الإسلامية المتبصرة بنور الوحي الإلهي، لذلك كلما كان المسلم على وعي بلغته كلما كان على دراية بأمور دينه، متحيزا لهويته الحضارية، التي ربط فيها الدين باللغة.

“أمام ضعف المسلمين، بدأت يد الغرب تطال بلادنا الاسلامية، وتنخر في كيان أبنائها، فكان من الأولويات التي ركزت عليها سياسة الاحتلال: فصل المسلمين عن لغتهم ودينهم، أو بالأحرى تجريدهم من هويتهم اللغوية، التي إن استطاعوا القضاء عليها، تمكنوا من اختراق صفوف المسلمين، وهدم بنيان الإسلام، فالمحتل يعلم يقينا أن انتصاره على المسلمين لا يتهيأ إلا بتعطيل الدين، ولا يتأتى ذلك كما يقول عبد العلي الودغيري “إلا بالقضاء على القرآن، ولا يتأتى القضاء على القرآن إلا بالقضاء على لغته التي بها يقرأ أو يفهم أحسن قراءة وأحسن فهم”، فالتمسك بالعربية في عيون المحتل يعني التمسك بالهوية الجمعية للمسلمين، وتجريدنا من لغتنا هو في حقيقة الأمر تجريدنا من هويتنا الاسلامية” كريمة دوز

 

وإذا علمنا أن العناصر الصلبة لأي ثقافة أو حضارة هي اللغة والدين كما أشار لذلك صاموئيل هنتغتون في كتابه صدام الحضارات، وقلبنا في صفحات الحضارة الإسلامية، سنجد أن هذين العنصرين ظلا متلازمين على امتداد التاريخ الإسلامي، ولتَبَين لنا كيف أحدث الدين عموما والقرآن خصوصا ثورة مفاهيمية في نظرة العرب للعالم، ذلك أن اللغة كما أشار غير واحد من المهتمين بالدرس الدلالي ليست فقط أداة للتحدث والتفكر، بل هي أوسع من ذلك إنها تقدم مفاهيم وتفاسير للعالم تتبلور في مفرداتها، وتتشكل في حمى حروفها.

لذلك حملت العربية بثقلها الديني هوية المسلمين الفكرية والثقافية، ومنذ انتشار الإسلام في أصقاع الأرض، ظلت العربية لغة عالمة، فهي لغة الدين والعلم والثقافة والأدب، لكل الأمصار المنضوية تحت لواء الإسلام، والحرف أو الخط الشريف -كما يطلق عليه العثمانيون- الذي تكتب به لغات الشعوب الإسلامية، وفي هذا السياق يقول ابن خلدون:” لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة والجيل الغالبين عليها أو المختَّطين لها، ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية”[3]، فقوة لغتنا في العصر الإسلامي الأصيل كانت مستمدة من قوة الإسلام وحضور روحه في قلوب المسلمين، لذلك اعتبر هنتغتون أن “التغيرات في توزيع القوة يولد تغيرات في استعمال اللغة”[4]، فلما كانت الغلبة لحضارتنا الاسلامية، فاح عبق اللغة العربية في سماء المعمورة.

ومن ينظر في تراثنا الثقافي يلحظ أن اللغة العربية في أوج عطاء حضارتنا، كانت متأثرة بالمعجم القرآني، فهو المنبع المفاهيمي لكثير من المنظومات الفكرية، وقد تنبه الكاتب الياباني توشيهيكو إيزوتسو لذلك مبرزا الثورة التي أحدثها الإسلام في دلالة الألفاظ والتي أثرت في الرؤية الكونية للعرب، حيث بلغ من سلطان القرآن كما قال أن جعل كل منظومة مضطرة إلى اللجوء إلى المعجم اللغوي القرآني للحصول على عناصرها المادية، إن لم يكن مباشرة، فعلى نحو غير مباشر[5]. فعلم الكلام والفلسفة والتصوف وغيرها من المنظومات الفكرية، كانت كلها تستظل بالمعجم المفاهيمي القرآني، وطورت معجمها اللغوي الخاص في رحاب لغة الوحي الإلهي، لتشكل جميعها معجما لغويا عربيا، يعكس التصور الإسلامي للعالم، ويعبر عن الهوية الحضارية للمسلمين.

فكان من سحر العربية التي نمت وازدهرت في كنف الإسلام وفي تربة حضارته، أن جذبت إليها غير المسلمين من النصارى، الذين هموا بتعلمها والتفاخر بها بين أهل ملتهم، وفي حسرة أحد أساقفة قرطبة على النصارى الذين تأثروا بإشعاع الحضارة الأندلسية، توصيف لسلطة الثقافة الإسلامية لغة وفكرا على غير أهلها، حيث قال مستنكرا حال أبناء دينه: ” وا مصيبتاه! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحد في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة، بينما العكس من ذلك، لا نستطيع إحصاء عدد من يحسن منهم العربية تعبيرا وكتابة وتحبيرا، بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية، حتى لقد حذقوه وبذوا في ذلك العرب أنفسهم”[6]، وهكذا يكون حال المغلوب دائما متأثرا بالغالب، فلما كانت العربية لسان حضارتنا، انقلب لسان غير أهلها من المنبهرين بسموها عربيا، حتى قال أحد الفرسان الفرنسيين ” وها نحن الذين كنا أبناء الغرب صرنا شرقيين”[7]. ففي تلك الحقبة المشرقة من تاريخنا الاسلامي، استطاعت حضارتنا أن تخترق الهوية اللغوية، بله الفكرية لغير المسلمين.

فكانت رفعة العربية في هذه العهود مستمدة من علو راية الإسلام، واعتزاز المسلمين بهويتهم وانتمائهم الحضاري، لكن لما كانت سنة الله جارية في تغير وتبدل حال الأمم والحضارات، وأمام ضعف المسلمين، بدأت يد الغرب تطال بلادنا الاسلامية، وتنخر في كيان أبنائها، فكان من الأولويات التي ركزت عليها سياسة الاحتلال: فصل المسلمين عن لغتهم ودينهم، أو بالأحرى تجريدهم من هويتهم اللغوية، التي إن استطاعوا القضاء عليها، تمكنوا من اختراق صفوف المسلمين، وهدم بنيان الإسلام، فالمحتل يعلم يقينا أن انتصاره على المسلمين لا يتهيأ إلا بتعطيل الدين، ولا يتأتى ذلك كما يقول عبد العلي الودغيري “إلا بالقضاء على القرآن، ولا يتأتى القضاء على القرآن إلا بالقضاء على لغته التي بها يقرأ أو يفهم أحسن قراءة وأحسن فهم”[8]،  فالتمسك بالعربية في عيون المحتل يعني التمسك بالهوية الجمعية للمسلمين، وتجريدنا من لغتنا هو في حقيقة الأمر تجريدنا من هويتنا الاسلامية.

وبمطالعة التاريخ الأندلسي المسطور، ينكشف لنا كيف نهجت محاكم التفتيش سياسة الفصل هذه، فحملت المورسكيين بالقوة على ترك الإسلام واعتناق الكاثوليكية، ومنع أي مظهر من مظاهره في ربوع الأندلس. ولمحورية العربية وقدرتها في الحفاظ على هوية المورسكيين الدينية وإبقائهم مجتمعين حول كتاب الله عز وجل، الذي ينمي فيهم روح المقاومة والصمود أمام ما كانوا يتكبدونه من ويلات التعذيب، بادرت إلى حظرها بين جموع المسلمين، وأصدرت في عهد فيليب الثاني قانونا يمنع التخاطب بها، لتتمكن بذلك من إحداث هوة بين لغة المورسكيين وهويتهم الدينية، وبالتالي عزلهم عن تراثهم وطمس معالم الحضارة الإسلامية بكل تجلياتها في نفوسهم.

فالسياسة الاسبانية القديمة، أعاد الاحتلال الحديث طرحها في الواقع العربي لكن بروح جديدة، جعلت من ” الإصلاح” شعارا لها،  حيث نجحت كما يقول عبد الوهاب المسيري في تغيير واقعنا، بحيث أصبح واقعنا متحيزا ضدنا[9]، واقعا مفصولا عن هويته الحضارية ومنظومته القيمية، فذلك الإصلاح الذي شمل نظمنا التعليمية كان في حقيقته تخريبا لأحد أهم صروح هويتنا، ومدخلا من مداخل محاربة الإسلام، فبعدما كانت لغة العلوم والمعارف عربية، لم يبرح المحتل أن أقصاها وأحل اللغات الأجنبية مكانها، مدعيا أن اللغة العربية لا تواكب الروح العلمية الحديثة.

وإذا نظرنا في سياسة المحتل الفرنسي  في نموذجها المغربي، لتبين لنا كيف عمل الفرنسيون بالعدة والعتاد على عزل العربية عن ميادين الحياة العامة، وفي قول المارشيل ليوطي عصارة المساعي الغربية لفصل المسلمين عن هويتهم اللغوية، حيث قال: ” إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج الإسلام”[10]، فهذا النص يترجم حرص المحتل على أن لا تصل العربية إلى المناطق البربرية التي لم تعرب بعد في القرن 20م، لأن في تعريبها زيادة في تقوية إسلامها وإيمانها، وتشبثها  بدينها[11]، وقدرتها على المقاومة والدفاع عن هويتها الثقافية.

ولكي يعزز سياسته في تجريد المسلمين من هويتهم اللغوية، عمل على انشاء مدارس فرنسية-بربرية في المناطق التي لم يتغلغل فيها الإسلام، مبعدا اللغة العربية من ميدان التعليم، وفي ذلك يقول بول مارتي: ” إن كل تعليم للعربية، وكل تدخل من الفقيه، وكل وجود إسلامي، سوف يتم إبعاده بكل قوة، وبذلك نجذب إلينا الأطفال الشلوح (الأمازيغ) عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد متعمدين كل مرحلة من مراحل نشر الإسلام، أي كل مرحلة من مراحل تبلوره”[12]، فالطفولة هي التربة الخصبة التي حاول المحتل أن يغرس فيها بذور حضارته، ويشكلها وفق ما يخدم سياسته، التي ترمي إلى إنشاء جيل مهزوز بعيد عن هويته، خاضع لهوية غيره المادية والثقافية، متذبذبا في انتمائه الحضاري، إن لم نقل متحيزا للحضارة الغربية المادية.

وعطفا على ما ذكرناه بين ثنايا هذه الورقات، نقول أن محاربة هويتنا اللغوية، لم تطوى صفحاتها بعد، ومساعي الغرب لتجريد المسلمين من لغتهم، مازالت قائمة، وإن لم ننتبه كما يقول عبد الوهاب المسيري لخطورة الغزوة الحضارية التي تقوضنا من الداخل والخارج وتقضي على هويتنا وعلى أشكالنا الحضارية ومنظومتنا المعرفية والقيمية والجمالية، فربما قد يتحقق لنا البقاء لا ككيان متماسك له هوية محددة، وإنما كقشرة خارجية لا مضمون له[13].وأمام جيل مبهور بالتقدم المادي الذي حققه الغرب، فانعكس على فلسفته الحياتية، سيسهل على الغرب اختراق هويتنا الدينية، وما تصوير أسقف قرطبة لحال أبناء ملته في عهود الاشراق الإسلامي، إلا تصوير لحال بعض أبنائنا اليوم، ممن ذابوا في الهوية الغربية لغة وثقافة وفكرا.


[1]  العالم من منظور غربي، عبد الوهاب المسيري، ، دار الشروق، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى، (2001م)، ص(156)
[2]  الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية (1403هـ-1983م)، ج(1)، ص(32)
[3]  المقدمة، ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى (1425هـ-2004م)، ج(2)، ص(57)
[4] صدام الحضارات، صاموئيل هنتنغتون، ترجمة: مالك عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، بنغازي-ليبيا، الطبعة الأولى (1429هـ-1999م)، ص(138)
[5]  ينظر: بين الله والإنسان في القرآن، توشيهيكو إيزوتسو، ترجمة: علي عيسى العاكوب، دار نينوى، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى (1438هـ-2017م)، ص(77)
[6]  الله ليس كذلك، زيجريد هونكه، ترجمة: غريب محمد غريب، دار الشروق، القاهرة-مصر، الطبعة الثانية (1417هـ-1996م)، ص(42)
[7]  نفس المرجع، نفس الصحفة
[8]  اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية، عبد العلي الودغيري، الدار العربية للعلوم، بيروت لبنان، الطبعة الأولى (1434هـ-2013م)، ص(36)
[9]  ينظر: العالم من منظور غربي، عبد الوهاب المسيري، ص(56)
[10]  الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ترجمة: عبد العلي الودغيري، كتاب العلم، الرباط-المغرب، الطبعة الأولى (1993م)، ص(86)
[11]  ينظر: اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية، عبد العلي الودغيري، ص(36)
[12]  الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب، ترجمة: عبد العلي الودغيري، ص(116)
[13]  ينظر: العالم من منظور غربي، عبد الوهاب المسيري، ص(187).

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى