دراسات

في التصنيف

أولا: الضرورة المعرفية

(1)
المقصود بالتصنيف، كملكة: القدرة على فرز وتجميع -التحليل والتركيب- الأفراد والأفكار وفق معيار أو أكثر من التشابه. ومن ثّمَّ تكون عملية التصنيف هي الإجراءات التي تستهدف هذا الفرز والتجميع.

ومع التشقق المتسارع للمجالات المعرفية، يكاد التصنيف أن يعتبر فرعًا من المعارف الفرعية المستقلة، التي لها إجراءاتها، ومهاراتها، وأصولها، ومناهجها، وكذلك يستعمل التصنيف كأداة نظرية وإجرائية في أغلب العلوم، النظرية والتطبيقية.

(2)
أكثر الناس يمكنه ملاحظة التشابه، وإنما يتمثل البصر والفقه في معرفة الفروق والاختلافات، التي قد يدقّ بعضها فلا تراه أكثر العيون ولا تدركه أغلب العقول. فهذا هو الجوهر الأساس في مهارة التصنيف: معرفة الأشباه والنظائر، والفروق. ولذلك كان الإمام أحمد يقول: أكثر خطأ الناس في التأويل والقياس. لأن القياس هو باعتبار ما تلك العملية العقلية المركبة التي نسميها في ذلك المقال: التصنيف.

(3)
التصنيفُ العلميُّ والفكريُّ لأقوال الناس ومذاهبهم = ضرورةٌ معرفيةٌ، والغرض منها فصل ما بين أقوال الناس؛ منعًا للاختلاط، ولا ينبغي أن يقودنا غلو أقوام وبغيهم ووضعهم التصنيف في غير مواضعه إلى تضييع التصنيف، وإهدار أهميته المعرفية في نقد العقائد والأقوال والأفكار والرجال.

فلا حرجَ في التصنيف شرعًا ما دام قد بني على أساسين: 

الأول: العلم الصادق غير المتحيز؛ فلا يُقام تصنيف على غير أساس معرفي، ولا يُنسب رجلٌ لصنف إلَّا ببينة على الاشتراك العلمي والفكري بينه وبين أفكار هذا الصنف اشتراكًا يكفي للتصنيف.

الثاني: العدل؛ فلا يشتمل هذا التصنيف ولا يُبنى على هذا التصنيف بغيٌّ ولا جورٌ. فلا يجعل مجرد التصنيف ملازمًا لاستحقاق مدح أو ذم؛ لم يقم دليل معتبر عليه، أو التفصيل فيه.

(4)
والتصنيفات العلمية والفكرية تختلف باختلاف زاوية النظر تحت كل مستوى، والتي تسمى: مورد القسمة. فبالتطبيق على المجال العقدي الإسلامي: إذا جعلنا مورد القسمة هو الموقف من مرتكب الكبيرة؛ أمكننا التقسيم إلى خوارج ومرجئة ومعتزلة وأهل السنة، وإذا جعلنا مورد القسمة هو الموقف من الصحابة وتقييم أفعالهم ومراتبهم في الفضل؛ أمكننا تقسيم الناس إلى ناصبة وشيعة وسنة، وإذا جعلنا مورد القسمة هو الموقف من الصفات إثباتًا ونفيًا؛ كانت القسمة إلى: جهمية ومعتزلة وأشاعرة وماتريدية وأهل السنة السَّلفيِّين، وإذا جعلنا مورد القسمة هو الإمام المتبع في الاختيارات الاجتهادية في الفروع الفقهية؛ انقسموا إلى حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية، وهكذا.

وبقدر ما يحدث من أَقضية ومسائل؛ بقدر ما تختلف مواقف الناس منها وتقوم الحاجة المعرفية لتصنيفهم بحسب مواقفهم من تلك المسائل.

(5)
ولأن التصنيف ضرورة معرفية؛ فهذا يعني أنه مبرر برجماتيًّا وإجرائيًّا؛ لإمكان البحث والحكم على الأفكار والأفراد والجماعات.

ولذلك فثمة مسلمة مستبطنة في التصنيف، هي كأختها المستبطنة في الاستقراء. وهو تعذر أو استحالة كلية مورد القسمة، فإن المخلوقيْن الاثنين لا يتشابهان من كل وجه، فكيف بالجماعات الكثيرة. فلا يعدِم الناظرُ إيجادَ فروق داخل الاجتماع الواحد المصنَّفِ واحدًا، ولا ينفع هذا بمجرده في ردّ التصنيف أو عيبه، مادام مورد القسمة العام مشتركًا اشتراكًا عامّا.

يقول هنتر ميد: ((سيكون علينا حذف كثير من الفوارق ومحو الحدود والتمييزات بين المدارس الصغرى بحيث لا نُبقي إلَّا الهيكل اللازم للتصنيف، ومن الممكن إضافة هذه العناصر المحذوفة فيما بعد كلما دعت الحاجة إليها؛ فحين يرسم صانع الخرائط خريطة للمحيطات يوضح عليها الاتجاهات الرئيسية للمياه، لا يحاول صانع الخرائط أن يبيِّن كلَّ تنوع في متوسط الحركة التي تحدث طوال العام، ولو أتيح لنا أن نعبر هذا المحيط ملاحة = لكان الانطباع الذي يتكون لدينا مختلفًا كل الاختلاف عن تلك المنحنيات البديعة المنسابة التي رسمها صانع الخريطة)).

ثانيا: النزوع الإنساني

(6)
التصنيف كما يكون ضرورة معرفية، فهو -وهذا هو الواقع في دنيا الناس-: ضرورة عاطفية ووجدانية، ونزوع إنساني. وذلك هو السبب الرئيس الذي يجعله في كثير من -أو أكثر- الأحيان خاضعًا للهوى.

إنك تحتاج التصنيف لتحقيق الهوية وتعزيزها. تحتاجه ولو لمجرد الاطمئنان لجماعتك نفسها، فالناس تتشكل في جماعات، ومن ثم فلكي أعرف جماعتي وأفهم مقوماتها لابد باستمرار أن أعرّفها بالنقيض، بمعنى أن جماعتنا: ليست فحسب هي التي تقول بكذا، ولكنها أيضا التي لا تقول بكذا. بل قد نقتصر في تعريفنا على النفي، فنحن الذين لا نقول بكذا، أكثر من كوننا نقول بكذا.

وغالبا ما يزيد النفي عن الإثبات في تعريف الجماعات الأيديولوجية لنفسها، لأنها لا تمتلك نظرية بنائية صحيحة أو تامة. ولذلك فإنه مما يعيب كتب الكلام -العقدية- أنها من هذا الباب، باب التعريف بالذي ليس، لا التعريف التأسيسي النظري الإثباتي بالذي هو. فحتى الوجود الإلهي نفسه، بما له من كامل الثبوت والتحقق؛ يستغرق التعريفَ به سلسلةٌ طويلة من السلوب الصرفة. الملاحظة نفسها موجودة في كتب الاعتقاد الكاثوليكي والأرثوذوكسي بطبيعة الحال؛ لأنها صراطية، تنفي عن نفسها أكثر مما تثبت لنفسها.

(7)
نحن نحن بمقدار ما نحن لسنا هم -أو إياهم-. ببساطة: (الآخر هو الجحيم) كما كان يقول سارتر. الآخر يؤكد ذاتنا ويحقق هويتنا. ونحن نفزع من كل فاذ شاذ -بحسبنا- لا يخضع للتصنيف والتنميط، لأننا نريد عالما نفهمه، نريد (بناء منطقيا للعالم) كما يقول كارناب، ولو كان العالم نفسه بما هو واقع، ليس معنيا كثيرا بأن يكون منطقيا بحسبنا.

(8)
وهذا النزوع الجمعي التصنيفي -يعني الاجتماع والتحزب- ليس مشكلًا في نفسه، فالإنسان اجتماعي مدني بالطبع، ولكنَّ صورة الاجتماع المحمودة التي هي التراحم والتعاطف، والتعاون والتقارب المشربي والعلمي؛ ليست هي الاجتماع الغالب في بنى آدم، ولكن الاجتماع الغالب في بنى آدم هو ما يصطلح عليه في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي بجماعات المصالح والأدوار الاجتماعية، والذي هو معقود على المصلحة والهوى، العلمي أو العملي.

ولذلك كان نشوب الصراع أمرًا قديمًا قدم وجود الإنسان. علماء الإسلام حين تكلموا في معنى ظلم الإنسان وهل الأصل فيه العدالة أم عدمها؛ قد سبقوا هوبز ولوك وجان جاك روسو ومونتسكيو في بحثهم حول الحالة الطبيعية للإنسان وخيريته وشريته وسبب الصراع.

(9)
أقول: الناس تتشكل في جماعات وأحزاب، علمية وعملية، لها مصالحها العلمية والعملية، والتي قد تتشابك مع نيات حسنة، في صورة مركبة تعتاص على التحليل والتفصيل في كثير من الأحيان.

ومن ثَمَّ فالفكر نفسه يتأطر في الصورة الجماعية، بحيث يجب أن نصنف كل من ليس نحن، حتى نقدر أولا أن نحافظ على مناعتنا الجماعية من التأثر بالذي ليس نحن، ولكي نكتسب مزيدا من المشروعية التي لأجلها نحن نحن ولسنا الذي ليس نحن.

فنحن، كجماعة بالمعنى الذي ليس محمودًا خالصًا، نخاف من ذلك الذي ليس منتميًا، أو حتى يدعى ذلك، فمن الأحسن لنا أن نصنفه، ويا حبذا لو كان تصنيفًا قائمًا على تنميط سابق نحن قد حددنا موقفنا منه، وأعددنا علبة من الإجراءات الدفاعية الوقائية منه، بغض النظر عن صحتها، فالمهم دائما في الفكر الجماعي هو النجاعة لا الصواب.

(10)
تعطينا شخصية علمية إسلامية غريبة الأطوار في القرن الحادي عشر – المَقْبلي اليمني – نموذجًا ظريفًا حول تلك القضية. فلذلك الرجل كلام مؤثر في كتابه (العَلم الشامخ) عن تشخيص الحالة النفسية للجماعات وموقفها من غير المتحزب لجماعة، والحالة النفسية لرجل اتهم بالزندقة في قلب مكة لمجرد أنه أجاب ببساطة على سؤال ما بأنه ليس منضويًا تحت أي مذهب عقدي أو فقهي. هذه الملاحظة مبحث أصيل من مباحث علم اجتماع المعرفة المعاصر، تحت عناوين حديثة.

(11)
التصنيف يغذي جانبًا من التأله الخفي في كوامن الإنسان، والتي تتربص أية فرصة كي تقفز إلى السطح. الآدمي جبار ضعيف.

التصنيف يمنحك غائلة وصولة، ويضفي عليك سلطة فوقية، تحتاج نفسًا قاهرة، وميزانا حادا، وتحرزا، وكسرا للنفس، لتفادي آفاته. ولذلك كان علماء الإسلام واعين قديما لكون (أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكّام – يعني القضاة)، كما يقول ابن دقيق العيد.

(12)
الضرورة المعرفية للتصنيف، وكذا النزوع الإنساني إليه؛ نتفهم معها إذن الحاجة إلى التصنيف، سواء معرفيا، أو عاطفيا وحزبيًّا.

لكن أعظم الإشكال: في الجهل بمعايير التصنيف، والجهل بأقوال الناس، ومنازعهم، والاكتفاء السطحي بمجرد تشابه الأقوال، سواء في نتائجها النهائية أو بعض مبانيها، دون معرفة كيف صدور القول ومبانيه الاستدلالية ومنزعه المنهجي. هذه أمور كبيرة جدا وتعتاص على أكثر من يتكلم في هذا الباب لقلة تحققه بالعلم الكافي، أو العدل الواجب، أو كليهما.

مجرد التصنيف -إن كان بعلم وعدل- ليس فيه مذمة ولا منقصة. وقد كتبت في وقت سابق أن من حسن فقه المرء وصِحّة ذهنه أن يصنف هو نفسه، بحيث يقدر أن يميز مبانيه الفكرية الكبرى، وتقاطعاتها ومبايناتها مع غيرها.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى