معتقدات

الشباب والإلحاد (4-4)

دراسة لتجليات الإلحاد الجديد في واقع الشباب المسلم

⇒ الجزء الثالث

الملحدون العرب والعالم الجديد الشجاع

” أيها العالم الجديد الشجاع الذي فيه مثل هؤلاء البشر فلنبدأ”([1])، هكذا كان يصيح بدائي رواية عالم جديد شجاع وهو ينتقل إلى العالم المتحضر الذي غاب فيه الإله وحلت التقنية والعلم كبدائل حضارية جديدة، عالم قطع صلته بالماضي وأعلن بشجاعة استغناءه عن الإله، وتجريديا لا أرى في العالم الافتراضي إلا ذلك العالم الجديد الشجاع، الذي خول للملحدين الشباب على اختلاف توجهاتهم الفكرية والثقافية التعبير عن آرائهم، بلا قيود ولا حدود. فكانت وسائل التواصل الاجتماعي وطنا جديدا مصطنعا للملحدين موازيا للواقع، يعرضون فيه أفكارهم ويروجون لها بين شريحة واسعة من الشباب.

لكن رغم حضور الملحدين العرب القوي نسبيا في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه لا توجد إلى حد الآن دراسة إحصائية مضبوطة عن عددهم في الواقع الملموس، وذلك بسبب الطبيعة المتسترة للإلحاد، الذي يواجه بالرفض في المجتمعات العربية، بل حتى في الديمقراطيات الليبرالية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، تنبه بعض الملاحظين إلى العلاقة بين الإلحاد والأنترنيت، وافترضوا أن الأمر راجع إلى العداء الذي يواجهه الإلحاد في الحياة العامة([2]).فبعدما كان الإلحاد في الواقع كلمة محرمة، يتهامس بها الناس باشمئزاز، وتتسبب في الذهول والتجهم حال ذكرها([3])، أضحى كلمة مقبولة في عالم الملحد الافتراضي.

 ووسط العدد المتزايد للمواقع والصفحات الإلحادية على وسائل التواصل الاجتماعي، بات النت مصدر معرفة الملحد، ففي استبيان قام به كل من كريستوفر سميث Christopher Smith وريتشارد كيمينو Richard Cimino كشف على أن الانترنيت يساعد الملحدين على تحصيل المعلومة، وإيجاد كُتَّاب كانوا غير معروفين عندهم مسبقا، والولوج إلى الوسائط التي أنشأها المستخدم على المواقع كيوتيوب YouTube منحتهم منصة لاختبار ونقل تصوراتهم ([4])، وسهلت عليهم سبل الوصول إلى المواد الإلحادية، مقربة المسافة بينهم.

وهكذا خولت الوسائط الاجتماعية –العالم الجديد الشجاع- للملحدين، إمكانية بناء مجتمع افتراضي له هويته الخاصة، القائمة على انكار المقدس ومهاجمته، وإحداث فضاء للتواصل بينهم، ونشر شبهاتهم  وأفكارهم بين الفئة الشبابية القابلة للتأثر، واختلاق احتجاجات افتراضية تهم قضايا الملحد في المجتمع العربي كحرية الإفطار العلني، والحرية الجنسية وغيرها، وبمجرد البحث عن كلمة إلحاد في تلك الوسائل حتى تظهر لك عشرات الصفحات([5]) والمجموعات، والقنوات التي تجمع أصحابها تحت مسميات مختلفة، كاللادنيين، والملحدين، والعقلانيين، وغيرها من العبارات  التي تحوم حول الإلحاد.

والناظر في صفحات المجتمع الافتراضي الملحد، بتعدد جنسياته، من  ملحدين مغاربة، وتونسيين، وسوريين، ولبنانيين ، ومصريين وغيرهم، يجد أن نبرة خطابهم موحدة حول نزع القداسة عن الدين عموما والإسلام على وجه الخصوص، والإعلاء من العلم حد القداسة، كما لا يخلو محتوى صفحاتهم من الاستفزاز والعدوانية ضد الأديان([6])،فمثلا مجموعة العلم يكذب الدين([7])، تجعل عبارة لا قداسة لأي رمز ديني شعارا لها، أما مجموعة اللادينيين المغاربة([8])، فتسعى حسب القائمين عليها إلى رؤية العالم رؤية جديدة تعكس تخلف الأديان وخرافاتها، في حين نجد أن الأهداف المخطوطة على صفحة شبكة الملحدين واللادينيين السوريين([9]) ، ترمي إلى بث القيم والمبادئ العلمانية، ونشر الثقافة العلمية والحث على التفكير العلمي، فهذه الصفحات وغيرها، أعطت دفعة قوية للملحد العربي، وضمنت له ملاذا آمنا يروج فيه أفكاره التي ستؤثر لا محالة في فئة من الشباب، خصوصا إذا علمنا أن الوسائط الاجتماعية حسب مجلة علم الفيزيولوجيا عامل مهم في نشر الأفكار، لأن أدمغتنا ترغب فطريا مشاركة المعلومات مع أناس آخرين([10]).

وبعيدا عن الفيس بوك، نرى أن الملحدين استطاعوا صناعة محتوى تشكيكي على اليوتيوب، من خلال عرض المادة الإلحادية بلغة مبسطة تستهوي شريحة واسعة من الشباب، وبعناوين جذابة تساعد على تحقيق نسب مشاهدة عالية، فكُرس بعضها لبث الشبهات حول الإسلام وتزييف تاريخه، بلغة لا تخلو من استهزاء وسخرية، وبعضها الآخر وُجه لترجمة الأفلام الوثائقية الإلحادية ([11])، وحوارات فرسان الإلحاد الجديد.

لكن رغم شجاعة الملحد في عالمه الجديد إلا أن هويته تبقى مجهولة، فأغلب الملحدين يروجون لأفكارهم بأسماء مستعارة متكتمين على هويتهم الحقيقية، ليظهروا بأخرى افتراضية، بل إن المتتبع لبعض مشاهير الإلحاد في المجتمعات العربية، خصوصا في منصة الفيس بوك واليوتيوب، يلحظ حرصهم الشديد على إخفاء أسمائهم وهوياتهم الحقيقية، واستبدالها بهوية افتراضية، ككافر مغربي، العربي المقنع، وغيرهما ممن اعتلوا منابر الوسائط الاجتماعية تاركين هوياتهم الحقيقة خارج العالم الافتراضي.

فالظهور باسم مجهول بالنسبة للملحد العربي انعتاق من المسؤولية الشخصية التي يتيحها تحديد الهوية([12])، فهو رغم جرأته في طرح قضاياه وأفكاره يبقى مجهول الهوية، وكما يملك الواقع الافتراضي  كما يقول جيل دلوز واقعا كاملا بصفته افتراضيا([13])، فكذلك حال الملحد العربي في العالم الجديد الشجاع، فهو  بهويته الافتراضية يملك واقعا كاملا بصفته افتراضيا.

خلاصات ونتائج:

بناء على ما سلف ذكره وتحليله من المعطيات المعرفية والموضوعية عن الإلحاد الجديد كحالة طارئة على المجتمعات العربية الاسلامية، وما واكب تشكله من أحداث تاريخية ساعدت في تنامي حدة خطابه تجاه الدين، يمكن أن نخلص لما يلي:

  • ضرورة البحث في المفاهيم والماهيات، فمبنى أي موضوع يتأسس على تصور معناه، لذلك يعتبر المفهوم مقدمة لدراسة سياق أي ظاهرة.
  • كشف لنا البحث في ماهية الإلحاد بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، أن الإلحاد بمفهومه المعاصر-إنكار وجود الخالق-لم يرد تناوله بهذا المسمى في تراثنا العقائدي، وإنما جاء تحت مسمى الدهرية.
  • مفهوم الإلحاد تراثيا كان يعني إنكار أي أصل من أصول الدين وليس بالضرورة إنكار وجود الله سبحان.
  • الإلحاد في حلته الغربية الجديدة هو امتداد، وترديد لصدى الإلحاد في القرن التاسع عشر ميلادي، وإن اختلفت حدته في الخطاب.
  • الالحاد الجديد هو انطراح لأصولية جديدة، تقصي الأديان عموما، وتحارب الإسلام بعدائية على وجه الخصوص.
  • مساهمة التقنية الحديثة في نشر المادية الإلحادية، أدى إلى توسع دائرة الملحدين على وسائل التواصل الاجتماعي، لتشكل إلحادا شعبيا جماهيريا، مقابل الإلحاد العلمي أو الفلسفي القائم على دراسة أدلة وجود الله تعالى.
  • الإلحاد في صورته العربية المعاصرة، جاء نتيجة بواعث داخلية وخارجية، وسعت الهوة بين الشباب العربي وبيئتهم الثقافية، وأدت إلى تضخم الشكوك في عقول الشباب وبالتالي سقوطهم فريسة سهلة لدعاة الإلحاد.
  • كوَّن الملحدون العرب، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو العالم الجديد الشجاع، مجتمعا افتراضيا يضمهم، له لغته وهويته الخاصة، وخطابه الذي لا يقل حدية عن الخطاب الإلحادي الجديد.

المصادر والمراجع

  • مصادر ومراجع عربية:
  • تاج العروس، محمد الزبيدي، تحقيق: عبد الستار فراج، مطبعة الكويت، الكويت، (1385هـ-1965م)، باب الدال، ج9
  • تفسير الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، (هـ1427-2006م)
  • تفسير السعدي، عبد الرحمان السعدي، تحقيق: جمال نصر، دار العقيدة، الاسكندرية-مصر، الطبعة الأولى (2007)
  • تهافت الفلاسفة، أبو حامد الغزالي، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة-مصر، الطبعة العاشرة، (2016م)
  • القاموس المحيط، محمد الفيروز آبادي، تحقيق: محمد العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بدون طبعة، (1426 – 2005)، باب اللام
  • لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت-لبنان، (بدون طبعة- بدون تاريخ)، باب الدال، ج3
  • مجموع الفتاوى، ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الله بن قاسم، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية، السعودية، (1425-2004)
  • معجم مقاييس اللغة، ابن فراس، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، (1399هـ-1979م)، باب (اللام والحاء وما يثلثهما)، ج5
  • مفردات ألفاظ القرآن الكريم، الراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق-سوريا، الطبعة الرابعة، (1430هـ-2009م)
  • الافتراضي ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟، بيير ليفي، ترجمة: رياض الكحال، منتدى المعارف، المنامة-البحرين، الطبعة الأولى (2018)
  • الإلحاد للمبتدئين، هشام عزمي، مركز براهين للدراسات والأبحاث، الإسماعيلية-مصر، الطبعة الثانية (2015)، سلطة الثقافة الغالبة، إبراهيم السكران، مركز تفكر للدراسات والأبحاث، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى (1436هـ-2015م)
  • خرافة الإلحاد، عمرو الشريف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى، (2014م-1435هـ)،
  • عالم جديد شجاع، ألدوس هكسلي، ترجمة: مرة سامي، عالم الأدب للترجمة والنسر، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى (2016)
  • العالم من منظور غربي، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى، (2001)
  • الله والإنسان، كارن أرمسترونج، ترجمة: محمد الجورا، دار الحصاد، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى، (1996)،
  • مسعى البشرية الأزلي: الله لماذا؟، كارن آرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، وهبة محمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى (2010)
  • المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة-مصر، الطبعة الثالثة، (2000م)
  • من تاريخ الإلحاد في الإسلام، عبد الرحمان بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، (1980م)
  •    موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد علي التهانوي، ترجمة: تحقيق: علي وجروج، عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، (1996م)
  • موسوعة مصطلحات الفلسفة، جيرار جيهامي، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، (1998م)، ص(311)
  • ميليشيا الإلحاد، عبد الله العجيري، مركز تكوين، لندن-بريطانيا، الطبعة الثانية، (1435هـ-2014م)
  • هناك إله، أنطوني فلو، ترجمة: جنات جمال، مركز براهين للدراسات والأبحاث، الاسماعيلية-مصر، الطبعة الأولى(2017)
  • المراجع الأجنبية:
  • atheism in our time, Lepp Ignace, traduction: Bernard Murchland, Macmillan, New York-USA, (1963)
  • Atheism : a very short introduction, Julian Baggini, Oxford university press, New York-USA, (2003
  • Atheism : the case Against God, George H. Smith, Prometheus books, New YORK-USA, 1989
  • Delusion of atheism, David Aikman, library of Tyndal house publishers, Carol stream III, Illinois- USA, (2008)
      • la religion de l’athée, Jules Sageret, Payot & Cie, BOULEVARD SAINT-GERMAIN, France,1er édition, (1922)
  • New directions in theology today, Roger L. Shinn, the Westminster press, Philadelphia-USA, vol (7)
  • The oxford hand book of atheism, Stephen Ballivant, Michael Ruse, , oxford university press , E1ER(2013)
  • The sources of modern atheism, Marcel Nausch, translated by Matthew J.O Connell, the Missionary society of S.T Paul, New York-USA, (1982)
  • When atheism becomes religion, Chris Hedges, free press, New York-USA, (2009),

 ملفات مرئية

  • مداخلة حسام أبو البخاري في حلقة الإلحاد والملحدين من تقديم عمرو أديب من برنامج القاهرة اليوم
  • محاضرة عبد الله الشهري في الجلسة الثانية الموسومة بـ “مدخل إلى معالم ومرتكزات الإلحاد الحديث، ضمن ملتقى تهافت الفكر الإلحادي الذي عقد بالرياض سنة 1334هـ/2013م،
  • مداخلة الطيب بو عزة، في حلقة (الإلحاد)، ضمن برنامج حوارات نماء

مقالات إلكترونية

  • Arab Religious Skeptics Online: Anonymity, Autonomy, and Discourse in a Hostile Environment, Helmi Noma

 https://cyber.law.harvard.edu/publications/2015/arab_religious_skeptics_online

  • Social Media Growing Atheism by the Millions, Rebecca Savastio, (28/10/2013)

http://guardianlv.com/2013/10/social-media-growing-atheism-by-the-millions/


[1] ) عالم جديد شجاع، ألدوس هكسلي، ترجمة: مر وة سامي، عالم الأدب للترجمة والنسر، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى (2016)، ص(182)
[2]) Arab Religious Skeptics Online: Anonymity, Autonomy, and Discourse in a Hostile Environment, Helmi Noman, p(2)، https://cyber.law.harvard.edu/publications/2015/arab_religious_skeptics_online
[3])Social Media Growing Atheism by the Millions, Rebecca Savastio, (28/10/2013) (بتصرف)

 http://guardianlv.com/2013/10/social-media-growing-atheism-by-the-millions/
[4]) Arab Religious Skeptics Online, Helmi Noman, p(2)

https://cyber.law.harvard.edu/publications/2015/arab_religious_skeptics_online
[5] ) في بحث أجراه قسم المتابعة الإعلامية لـ “bbc” عن كلمة “إلحاد” على شبكات التواصل الاجتماعي، تبين أن مئات الصفحات على فييس بوك وحسابات تويتر التابعة “للملحدين” من العالم العربي جذبت آلاف المتابعين لها. ينظر: الإلحاد في العالم العربي: لماذا تخلى البعض عن الدين؟ أحمد نور، 2016/08/31

http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2015/08/150831_arab_atheism
 [6]) Arab Religious Skeptics Online, Helmi Noman, p(12)
[7] ) https://www.facebook.com/groups/1403460216469369/
[8] )  https://www.facebook.com/groups/1633158836960704/about/
[9] )  https://www.facebook.com/syatheists.org/?ref=br_rs/about
[10])Social Media Growing Atheism by the Millions, Rebecca Savastio, (28/10/2013), http://guardianlv.com/2013/10/social-media-growing-atheism-by-the-millions
[11] Arab Religious Skeptics Online, Helmi Noman, p(12)
[12]) Ibidm, p(3)
[13] ) ينظر مقدمة كتاب: الافتراضي ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟، بيير ليفي، ترجمة: رياض الكحال، منتدى المعارف، المنامة-البحرين، الطبعة الأولى (2018)، ص(9)

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى