فقه الجمال (2-2).. بين الحُكم الجماليّ والحُكم الديني
(الدين بمعزل عن الشعر)
القاضي الجرجاني
(1)
لقد تناولنا في الجزء الأول من (فقه الجمال) بعض المغالطات التي تؤدي إلى إنكار جمال الجميل. وتوقفنا عند مغالطة مركزية، نُفرِدُ لها هذا المقال.
وهي: مغالطة عدم اعتبار أداة الحكم الصحيحة على الجمال. والتي من أهم تمثلاتها: الحكم القيمي على الفن من غير الجهة الجمالية. فلكون فنٍّ ما؛ محرمٌ شرعًا، أو فيه محظورات شرعية، يجري الحكم بقبحه من الناحية الفنية. وهذه مغالطة واضحة.
وهذا ما يواجهه كثيرٌ من النقاد الفنيين المنسوبين لخلفيات إسلامية. ولذلك قد سألني أخ عزيز قديمًا: : (لماذا يبدو الإسلاميون غير قادرين على إدراك الجمال في الفن؟ أو بمعنى آخر: لماذا لا يقدرون على الحكم حكما فنيا لا دينيا؟).
(2)
لقد قال القاضي الجرجاني تعليقًا على بعض شعر أبي نُوَاس: (لو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعري وأضرابُهما من تناول رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بُكْماً خرساً، وبِكاء مفحمين؛ ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر).
وقد قال ابن تيمية عن شعر التلمساني – المتصوف الاتحادي الملقب بالعفيف – الذي كان يسميه ابن تيمية بالفاجر: (وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني).
وكثيرُا ما تكلم النقاد في قضية الصدق والكذب الفني، وأعذب الشعر أكذبه.
(3)
والمقصود أن معيار الحكم على الشعر – مثلًا – بالجودة، هو: القوانين اللغوية والأدبية والبلاغية، فقط. نحن لن نقول عن شعر يتضمن ما هو محظور شرعًا أنه جميل في المطلق أو جميل من الناحية الدينية! فقط سنخبر عنه أنه جميل وممتاز من ناحية الصناعة الأدبية. فالشعر الذي قال عنه شيخ الإسلام إنه في صنعة الشعر جيد؛ هو شعر اتحادي، وهذا من أخبث المذاهب وأردئها. وكثير من شعر النقائض خبيث من جهة مضمونه، وفيه سب وطعن وقذف قطعي الحرمة، لكنه في صنعة الشعر حسن من جهة قانون الشعر. ونفس الإقذاع في السب ليس حسنا في الصنعة الفنية ما لم يحسن الأديب توظيفه وصوغه وتحسينه أدبيًّا.
فنحن حين نتكلم عن جمال شعر امرئ القيس، أو جرير، أو أبي نواس، وقد قالوا ما قالوا؛ فالكلام والتقويم الجمالي الفنّي لفنٍّ ما؛ هو تقويم فني وليس دينيًّا، كما قال القاضي الجرجاني فيما نقلناه: (الدين بمعزل عن صنعة الشعر).
(4)
فالقول إن فلانًا ماهر في الموسيقى، أو أحسنُ غناءً من فلان، أو أقوم منه بالموسيقى؛ هو حكمٌ فنيٌّ ليس دينيًّا، فهذا الحافظ الذهبي يترجم للموصلي باعتباره (رئيس المطربين)، ويمنحه حكمًا فنيًّا بأنه (كان نديَّ الصوت جدا، ماهرًا بالعود)، ويصف إبراهيم بن المهدي بأنه كان (رأسًا في فن الموسيقى). ولا يرد على ذلك أصلًا أن يقال: ما بال المضامين التي يغنيها؟؛ لأننا لم نحكم على مضامين أولًّا، ولم نحكم حكمًا دينيًّا ثانيًّا. أما الحكم الديني على الكلام المحرم فهو حرام من كل أحد من المتقدمين والمتأخرين، لا إشكال فيه، ولا يخفى على أهل العلم المتكلمين في الأدب، ومنهم الفقهاء والقضاة، والصوفية. فالناقد الأدبي الجرجاني، الذي نقلنا كلامه سابقًا، هو فقيه قاضٍ أيضًا!
بل قد يستجاد بعضُ المحرم من الكلام نفسه لا من جهة الحرمة، ولكن من جهة المذهب الأدبي والتصرف الفني. وهذا كلام واسع جدا لا توفيه مثل تلك المساحات حقه.
فالحاصل: أن الحكم الديني أمر آخر، قد يحكم به على الشاعر ومن يقره أو يرضى بمضمون كلامه بما يلائم الحكم الديني.
(5)
ولكن: ما الفرق بين هذا الكلام، وما تقوله العلمانية، التي تنزل إلى مستوى الفن، لتقول: لا تحكموا على الفن حكمًا دينيًّا، واتركوا حرية الإبداع تفعل كل ما تريد، حلالًا أو حرامًا؟ فأما أنه ليس للدين حكمٌ على الفن مطلقا؛ فهذا علمانية لا نقول بها.
أما ما يقوله العلماء: فليس للدين (حكمٌ فنيٌّ) على الفنّ، لكن له حكمٌ دينيٌّ. فالدين لا يقول إن قصيدة المتنبي جميلةٌ أدبيًّا أم لا، ولكن الذي يقول ذلك من عدمه: قوانين الأدب، أما الدين فقد فيقول هذا حرام، ومن ثم يرتب عقوباتٍ على ذلك إن كان الأمر يستلزم العقوبة.
فقد يقول الأديب قولا محرمًا لكنه حسن من جهة صنعة الشعر، ومن جهة البديع، فهذا جمال فني، لكنه لا يرفع عنه التبعة الدينية. فمجرد التحريم الديني لا ينفي قدرتنا على إدراك الجمال النسبي الذي قد يكون في المحرم، فإن القبيح الخالص شيء قليل أو نادر.
ونحن إذا استجدنا الأدب من الجهة الفنية، ولو تضمَّن محظورًا؛ فلأجل الثمرة الفنية، التي قد تكون الدراسة والبحث الأدبي أو التاريخي أو الحضاري. فنحن حين ندرس حضارتنا: لا نصنعها، بل هي هكذا بنقائصها وكمالاتها ككل التاريخ الإنساني، والأدب من أعظم مظاهرها ومعالمها. ولذلك كان العلامة أبو فهر محمود شاكر – وهو من أئمة العربية الكبار – ينكر إنكارًا شديدًا على من يدعو لمذهب نقدي أو أدبي إسلامي، ويقول: الأدب هو الأدب، والشعر العربي شعر إسلامي، ابن مجتمعه الإسلامي، بعيوبه ومميزاته، بورعه ومُجونه، يجب أن يدرس كما هو، وبقوانينه هو.
ونحن إذا استجدنا الأدب من الجهة الفنية، ولو تضمَّن محظورًا؛ فلأجل الثمرة الفنية، التي لا مانع أن تكون مجرد الالتذاذ والترفه في بعض الأحيان، فإن بعض الأفعال يحرم فعلها على منشئها ولا يحرم الاطلاع عليها. قال الإمام ابن قدامة: (التشبيب بامرأة بعينها والإفراط في وصفها ذكر أصحابنا أنه محرّم، وهذا إن أريد به أنه محرّم على قائله فهو صحيح، وأما على راويه فلا يصحّ). وما زال الصحابة والعلماء الورعاء ينشدون الشعر الذي فيه محظورات.
(6)
وإضافة إلى جميع ذلك؛ فإن عزل الحكم الفني بما هو فني عن الحكم الديني؛ مفيدٌ للخطاب الديني.
فمن هذا الباب ما أقرَّ به شيخ الإسلام ابن تيمية من أن الموسيقى غذاء للروح، ولكن الروح كالبدن تغتذي بالمحرم كما تغتذي بالمباح. فقال تعليقًا على قول القشيري: (السماع لطف غذاء الأرواح): (ولا ريب أن السماع فيه غذاء، …، لكن الأغذية والمطاعم منها طيب ومنها خبيث، وليس كل ما استلذه الإنسان لحُسنه؛ يكون طيبًا؛ فإن أكل الخنزير يستلذه آكله وشارب الخمر يستلذها شاربها).
فلم ينكر حلاوة الموسيقى وطربها واغتذاء النفس بها، كما لا ينكر لذة طعم لحم الخنزير. فالقول بأن الموسيقى حلوة مطربة، ولكنها محرَّمة لجهات أخرى غَلَبَتْها، ولأجل ملاحظتها حرَّمها الشارع؛ هو من جنس القول إن الخمر فيها منافع ولكن إثمها أكبر من نفعها. وهذا أحسن قولا وأقرب إلى الفطرة، بل أفقه بدعوة الناس ممن يقول إن الموسيقى منفرة قبيحة تشمئز منها النفوس، فهذا مغالط لأنه مخالف للحس، ومثل هذا الكلام لا يكتسب مصداقية عند المدعوّ. فهذا من فوائد الإنصاف والعدل الذي كتبه الله في كل شيء على كل شيء، وبه تستقيم الأحكام على الأشياء وتكون لها فائدتها كما أوضحنا.
ولهذا أقول: إن هذا بابٌ واسعٌ جدًّا، وفيه تفكيك كثير ضروري، والتعامل معه بالمنطق الفتووي فقط هو جناية على الحضارة والجمال والفن. وهو باب يحتاج إلى مزيد من التعميق والتطوير في الفكر الإسلامي، حتى نبني صرحًا متكاملًا من (فقه الجمال).