هي سلواد الّتي استطاعت بأسودها ولبؤاتها أن تنقش سفرا مجيدا في ذاكرة فلسطين، فواصلت التّجوال برفقة مضيفيني الأساتذة عبد الرّؤوف عيّاد والشيخ عبد الكريم عيّاد مارّين ببيت الشّهيد محمّد عبد الرّحمن عيّاد، ابن شقيقة مضيفي عبد الرّؤوف عيّاد حيث التقطت بعض الصّور لحديقته الجميلة وشجرة الياسمين، والشهيد كان قد حضر من أمريكا إلى سلواد للزّواج، ولكن قبل زفافه بأسبوعين استشهد صديقه أنس حمّاد بعمليّة دهس لجنود الاحتلال في شارع الشّهداء، وقبل زفافه بأسبوع وأثناء عمليّة مواجهة بين أُسود سلواد وأشبالها وقوات الاحتلال، فاجئ الشّهيد قوات الاحتلال الّتي تطلق النّار على أبناء بلدته في المواجهات من خلفهم بعمليّة دهس كما صديقه الشّهيد أنس، حيث استشهد وارتقت روحه إلى جنّات الخلد بمشيئة الله، وقامت والدته بتوزيع الحلويات المعدة لعرسه في بيت الأجر وقالت: استعجل.. لنكمل المسير باتّجاه البلدة التّراثيّة مارّين بالعديد من المساجد الحديثة ومنها مسجد أبو عبيدة حيث يتميّز بأعلى مأذنة في فلسطين تبلغ 72م؛ والمسجد مبنيٌ على أعلى تلة “راس علي” التي ترتفع عن سطح البحر بـحوالي 920 م، مرورا بديوان آل عيّاد الحديث الّذي بني استعاضة عن الدّيوان التّراثيّ الّذي لم يعد يتّسع لمناسباتهم، ومدرسة بنات سلواد الأساسيّة وهي مغلقة بسبب الظّروف العامّة كما باقي المدارس الّتي لم يتاح لي زيارتها بسبب الاغلاق.
بدأنا الجولة في البلدة التّراثيّة وقد اخترت مما رأيت ووثّقت عدستي نماذج للحديث عنها تفصيليا، فمررنا بالبداية بسقيفة محمّد عبد الرّحمن صياغة وما زالت مسكونة وهي من البيوت التّراثيّة البسيطة ببوّابة ذات قوس علويّ من الأعلى ونوافذ مستطيلة، وبعدها شاهدنا بيت عزيزة وتمام رحمها الله وهو من البيوتات التّراثيّة الجميلة التّصميم رغم صغر حجمها، فهو بيت من عقدين متلاصقين ومبني على نمط العقود المتصالبة المتجاورة حيث سكنت في كلّ عقد فيه عائلة، ويمتاز هذا النمط من البناء بالاهتمام بالأبواب والنوافذ الطّولية ذات القوس العلويّ وسماكة الجدران الّتي تتكون من ثلاثة أقسام الخارجيّ والعازل والداخليّ المقصور بالجير، وهذه توفّر الدّفء بالشّتاء والبرودة بالصّيف، وفي الدّاخل يوجد بها فوّهات بالجدار الداخليّ لحفظ المواد التموينية وموقع نسمّيه “المصفت” يوضع به الفراش بعد النّوم حيث لم تكن الأسرّة متوفّرة، إضافة لفجوة توضع بها جرّة الفخّار الممتلئة بالماء فتحافظ على البرودة في زمن لم يكن هناك لا كهرباء ولا برّادات مياه.
واصلنا المسير حتّى بيت مصطفى الحاج عيد وهو بيت تراثي متميّز كان مبني من حجارة ضخمة على نظام العقود المتصالبة قام الاحتلال بنسفه إثر اعتقال المناضل روفائيل جبر حمّاد والّذي كان يقيم به والمعروف باسم حسن الأمريكاني، وهذا البيت واحد من 18 بيت جرى نسفها في سلواد، وتحت البيت كان هناك مقام لأحد الصالحين وذهب مع البيت حين تمّت عمليّة الهدم، وحسبما روى لي الشيخ عبد الكريم عيّاد فإن الحاجة لبيبة أصيبت بالصّدمة حين عادت ووجدت البيت مهدوما، وبعد أن استفاقت من الصّدمة أتت للبيت حيث كانت تخفي (صيغتها الذّهبيّة) في طاقة من طاقات البيت وظنّت أنّها ضاعت مع البيت، وحمدت الله أن الجدار الوحيد الّذي لم يسقط بعمليّة الهدم به الطاقة الّتي تحوي ما تملك، لنواصل الطّريق حيث شاهدتّ ركام بيت الأسير إبراهيم حامد والمحكوم 52 مؤبد، وأكملنا الطّريق باتّجاه علّيّتين متقابلتين، علّيّة دار أبو خزنة وعلّيّة دار أبو العنيد مارّين عن العديد من البيوت التّراثيّة الّتي وثّقتها عدستي، والعلّيّة كانت تمثّل مكانة اجتماعيّة في المجتمعات الرّيفيّة، فهي عادة تبنى لاستقبال الزّوّار والضّيوف، وتبنى فوق البيت العلويّ “العقد”، وواضح أنّ هاتين العلّيّتين ومن طبيعة الحجر المدقوق والنّاعم أنّهما بنيتا في مرحلة لاحقة، ومن الملاحظ الاهتمام الكبير بزخرفة الحجر المحيط بأقواس النّوافذ والأبواب للدّلالة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمن يبني العلّيّات.
مررنا بالعديد من البيوت التّراثيّة وبعضها بسيط من حيث البناء وبعضها تميّز بحجمه وأنّه من طابقين أو من طابق وعلّيّة ومنها بيوت دار أبو شحادة عيّاد، متّجهين إلى كتلة صخريّة ضخمة جرى الاهتمام بها ووضع العديد من الفخّاريات عليها مثل غزال وصقر وجرار ومدفع وعلى أعلى صخرة بهذه الكتلة نصبت سارية للعلم الفلسطينيّ، ولكن من الضّروري أن تنتبه البلديّة أنّ العلم ممزّق ومنكّس ومن الضروري تبديله، وهذه الكتلة الضّخمة والجميلة بالفخّاريّات المضافة عليها تسمى عراق الخاروف وفي الّلهجة المحلّيّة “عراك الخاروف”، حيث تستبدل القاف بالكاف، لنتجه لبيت عبد الله أبو سارة جد مضيفي عبد الرّؤوف وهو بيت عقد متصالب ولكنّه تميّز أنّه من أوائل البيوت الّتي سقفت بالإسمنت فوق العقد المتصالب، وهذا البيت متروك ومهمل ولكن كان من البيوت القليلة التي دخلتها، فعرفت أدق تفاصيله من الدّاخل، فله بوّابة يتمّ الدّخول إلى المنزل منها وهي ذات قوس من الأعلى وحول الباب حجارة مدقوقة وناعمة ونافذتين طوليتين متجاورتين قرب الباب كما أنظمة بيوت العقد القديمة، وبمجرد الدّخول نجد القسم السّفليّ من البيت والّذي كان يستخدم في هذا النّمط من البيوت إما للخزين أو للماشية، ويتمّ الصّعود على درجات علويّة للبيت الّذي يستخدم للعائلة، وما زالت الفجوات والطّاقات في الجدران تتحدّث عن ذكريات كانت هنا، وهذه الطّاقات كما أسلفنا تستخدم للخزين ولوضع الفراش ولحفظ برودة الماء بالجرار الفخّاريّة، وهناك نافذة طولية جانبية ضيّقة تمّ إزالة قاعدتها العلويّة وتحويلها إلى بوّابة ضيّقة.
والبوّابة كانت خشبيّة وعلى الأرض ملقى البوّابة الخشبيّة التّراثيّة لتغطية البئر خوفا من وقوع أحد فيه، فالآبار عادة كانت محفورة في ساحة البيت وتسمى آبار التّجميع، وتنزل لها المياه بالشّتاء من السّطح ومن فوقها إلى فتحة تكون مغلقة بنبتة الليف كي تصفي المياه قبل دخولها البئر، فليس أطيب من مياه الأمطار للشرب أو لغلي الشّاي والقهوة، وما زالت نسبة من بيوتات فلسطين تستخدم نظام آبار التّجميع لحفظ مياه الأمطار واستخدامها رغم وصول تمديدات المياه للبيوت، ويا حبذا لو حافظ كلّ بيت على نظام هذه الآبار لاستخدامها للتّخفيف من استخدام المياه الّتي استولى عليها الاحتلال ويبيعنا ايّاها بأسعار باهظة.
سلواد الحاليّة لبؤة الجبال يعود تقدير نشأتها بين 350 إلى 400 عام حين سكنها الأخوة آل حامد وحمّاد وسكنها معهم آل عيّاد ويؤكّد ذلك أنّه وجد في سلواد مباني تعود في تصميمها ونشأتها إلى الفترة العثمانيّة، وهذا يناقض بعض الرّوايات الّتي تقول أنّ أهل سلواد تعاونوا مع أهالي المزرعة الشّرقيّة في مساعدة جيش المجاهد صلاح الدّين الأيّوبيّ، فتحرير بيت المقدس كان عام 1187م، أي قبل 833 عام من عامنا الحاليّ، كما أنّ الرّحّالة الّذين مرّوا بالمنطقة وأشاروا للقرى المجاورة مثل يبرود وغيرها لم يشيروا لسلواد، وأنّ الإشارة الأولى كانت من “مندريل” الفرنسي عام 1697م حسبما ذكر لي مضيفي أبو صالح، ولكن في كتاب المؤرّخ مصطفى مراد الدّباغ “بلادنا فلسطين” ج 10 ق2 أورد أنّ هنري مندريل هو رجل إنجليزي وزار القدس عام 1696 وكتب عن رحلته وأشار لأريحا والعيزيريّة ولم أجد فيما كتبه والمنصوص عليه بالكتاب أيّة إشارة لبلدة سلواد، وإن توافقت رحلته مع الفترة المؤكّد أنّ سلواد كانت موجودة فيها، وكانت تعتبر من قرى بيت المقدس قبل أن تتبع محافظة رام الله والبيرة.
من بيت عبد الله أبو سارة التّراثيّ اتجهنا للبلديّة لنرتاح قليلا مع بعض من القهوة حيث التقطت عدستي مجموعة من الصور للوحة تحمل اسماء الشهداء وصور ولوحات أخرى تتحدث عن سلواد، ولنتّجه بعدها إلى مسافة أمتار لخلف البلديّة للقاء السيّدة علياء حامد “أم مـحمّد” رئيس جمعيّة سيّدات سلواد الخيريّة لأربعة دورات متتالية، وهي جمعية غير ربحيّة تأسّست عام 1991م، وقد حدثتنا السيّدة أم محمّد والّتي كانت ترافقها بالجولة سكرتيرة الجمعيّة في الطّوابق الثّلاثة، فمبنى الجمعيّة ضخم وكبير ولكن إمكانيات الجمعيّة الماليّة محدودة، والجمعيّة بعض من أهدافها الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة تدريب وتأهيل لعدم إمكانية التحاقهم بالمدارس الحكوميّة، ، فهي تضمّ أطفالا من 8 قرى وبلدات محيطة بسلواد، إضافة لحضانة أطفال وتسعى الجمعيّة لتمكين المرأة الرّيفيّة ماليّا من خلال مشغل للتّدريب على الخياطة ومطبخ يعتمد على البيع وأيضا هناك قسم لتدريب ذوي الاحتياجات الخاصة على بعض المصنوعات المهنيّة، وتضمّ الجمعيّة صالة تدريب رياضيّة للسيّدات وغرفة حسيّة لحالات التوحّد وقسم للعلاج الطّبيعي، إضافة لقسم للعلاج الوظيفيّ وقسم لعلاج النّطق وقسم لتحفيظ القرآن، وحديقة وملعب للأطفال، وكانت الجمعيّة تتلقّى بعض من الدّعم من السّويد ومن وزارة الشّؤون الاجتماعية لكنّ هذا الدّعم توقّف، والجمعيّة معتمدة على الدّعم من أهل الخير وهذا يجعلها بحالة تذبذب واختناق ماليّ مع وجود 12 موظّفة، حتّى أنّ الجمعيّة لا تمتلك باصا لنقل الأطفال، وأعتقد أنّه يجب العمل على دعم الجمعيّة مادّيا حتّى تتمكّن من مواصلة مهامها الخيّرة والمهمّة للمجتمع المحلّيّ، وقد تجوّلت في كل أروقة وقاعات وغرف الجمعيّة وأنا أستمع للسّيّدة أمّ محمّد، قبل أن نودّعها وأشكرها على جهودها، ومن الجمعيّة تحرّكت برفقة مضيفيني لاستكمال برنامج التّجوال في البلدة التّراثيّة الجميلة، لنستمع منها لحكايات سلواد وذاكرتها وهذا سيكون مجال الحديث في الحلقة الرّابعة إن شاء الله..
صباح جميل قبل أن تبدأ الحرارة بالارتفاع وأنا أجلس بحديقة وكني الصّغير في بلدتي جيّوس، ارتشف قهوتي الصّباحيّة وأستعيد ذاكرة تجوالي في سلواد مع شدو فيروز: ” ذاكرٌ يا ترى سورنا الأخضرا، حيثُ كانت تَفيءُ الطيور،ْ يومها حُبُّنا كان في حيِّنا، قصّة الورد لحن الزهورْ”، فأهمس: صباح الخير يا سلواد، صباح الخير يا وطني.. صباحكم أجمل.