قراءة في كتاب

الأعلى والأدنى وجمالية الإيحاء

قراءة في «تفاحةٌ يانعة وسكين صدئة» للقاص المصطفى كليتي

أما قبل

في أسطورة الإغريق، حكاية ربات ثلاث (هيرا، مينرفا ، فينوس)[1]، حضرن عرسا بدعوة من الزوجين، وثار غضب “إيريس” إلهة النزاع والخصام بسبب عدم دعوتها، فرمت للربات الثلاث  تفاحة ذهبية كتبت عليها (إلى الأجمل).. وقام النزاع بينهن لاعتقاد كل واحدة أنها الأجمل والأجدر بأخذ تلك التفاحة. احتكمن إلى أحد الرعاة يسمى “باريس” للفصل بينهن. وبعد أن اتفقن على الخضوع لحكمه كيفما كان، حاولت كل ربَّة استمالة “باريس” بشيء يغريه. واستطاعت فينوس أن تغويه، فوعدته بالحب وبالزواج من أجمل امرأة في العالم. فألقى التفاحة في يدها وصارت من نصيبها.

كانت المرأة الأجمل التي وعدته بها، هي “هيلين” زوجة ملك أسبرطة “مينيلوس”. فأبحر إليها. ثم ما لبث في ضيافة الملك كثيرا، إذ نجح في إغراء هيلين كي تبحر معه إلى طروادة… وعلى ذلك قامت حرب طروادة التي ورد ذكرها في إلياذة هوميروس[2].

لهذا، تمثل التفاحة رمز الغواية في الميثولوجيا الإغريقية، وفي غيرها من الثقافات. كما تأتي في التراث الديني (المسيحي والإسلامي) حيث ترتبط بقصة آدم وحواء، والشيطان، والشجرة المحرمة، والجنة.

بالنظر في سياق أسطورة تفاحة فينوس، نجد بدايتها كانت غواية أنتجت حربا طويلة امتدت زمنا. كما نجد أن الغواية في قصة “آدم وحواء” كانت نتيجتُها خروجَهما من الجنة، أي الهبوط إلى الدنيا.

والهبوط هو النزول أو الانخفاض. أي نزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى منزلة. كما ورد في النص القرآني: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ»[3]، فالهاء عائدة على – المكان- الجنة التي كانت مسكنهما الأول، باعتبارها أعلى منزلة من الدنيا (المكان الجديد).

والأدنى يعني الأقل قيمة كما ورد في القرآن في سياق رده على بني إسرائيل في مسألة اختيارهم للطعام: «قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ»[4].

ولعل الصيغة التي ورد بها الخطاب مع فعل الأمر “اهبطوا”، تفيد بأن نتيجة اختيارهم الدنيوي تقتضي حركة انتقال من مرتبة أعلى إلى مرتبة أدنى، لتفضيلهم (البقل، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل) على المن والسلوى، الذي هو طعام منزل: «وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ»[5]. وبتركهم المُنزَّل، عوقبوا بنتيجة الهبوط إلى مصر[6] من أمصار الدنيا ليحصلوا على الأدنى قيمة.

وبناء على ما سبق: هل دائما ترتبط التفاحة – كرمز للغواية – بالهبوط من الأعلى نحو الأدنى؟ أم أن الغواية غوايتان، غواية تؤدي إلى التدني، وغواية تتعلق بالنص الذي يجلب المتعة للقارئ في مجال الأدب، وخاصة أن غواية النص مرتبطة بالحكي لخصوصية الإيهام التي يهيئها في ذهن المتلقي.

فكيف يبرز هذا المفهوم في المجموعة القصصية “تفاحة يانعة وسكين صدئة”[7] للقاص المصطفى كليتي، وكيف شكلته النصوص حسب ترتيبها وحسب تيماتها؟ وماهي الدلالة التي يوحي بها العنوان، والتي يؤدي عبرها وظيفته؟

غواية العنوان

تحمل المجموعة القصصية «تفاحة يانعة وسكين صدئة»، عنوان النص الحادي عشر -بحسب ترتيب النصوص التي بلغت 81 قصة، واحتل الصفحة 15 من الكتاب- هذا العنوان الذي يمثل نصا موازيا، يقبل القراءة من عدة أوجه، و«يمثل أول لقاء مادي محسوس، ومباشر، يتم بين القارئ والنص، ينتقل عبره القارئ من العالم الواقعي (خارج النص/زمن الاتصال بالكتاب) إلى العالم التخييلي (داخل النص/ زمن القراءة)، أي ينقله من فعل القراءة الخطي، ليضعه مباشرة في فعل السرد التخييلي…»[8].

والعنوان الذي نتناوله هنا، يضعنا أمام نص يشد القارئ لجماله وتركيبه اللغوي العميق، لاسيما أن دلالته التأويلية تتجاوز دائرة الدلالة الحرفية (الظاهر). بحيث تنزاح ألفاظ الجملة لتفتح المجال لإنتاج معنى له وظيفة أخرى غير التي نستقبلها حرفيا من خلال ظهر الغلاف.

وبهذا الانزياح تتمثل لنا صورة ذهنية مغايرة، كما أن هذا التركيب أحد أوجه البلاغة والجمال اللغوي الذي يُحسن توظيفه القاص المصطفى كليتي في كل مجاميعه القصصية. إذ يسوق العبارة على وجهيها الظاهر والباطن، قصد إثارة القارئ وإقناعه، ويوظف الانزياحات والاستعارات لإضفاء إغراء أسلوبي يمسك بتلابيب القارئ كي يلج عالم النص مُنبهرا، فلا ينفصل عنه حتى يتمه.

لغة الكاتب وأسلوبه غواية جميلة وساحرة، وهذا ما سيتبين من خلال قراءة نص العنوان.

دلالة العنوان

يؤطر العنوان خانة الدلالة المرسلة قصد توجيه القارئ واقناعه، وحيث تفتح أمامه أفق التخيُّل، ويُفضي ذلك إلى فهم الإشارة دون التباس أو غموض.

نأخذ من العنوان رمزيتين تمثلان دعامتين أساسيتين لنصه المصغر، بما تمنحانه من حمولة دلالية تساهم في مقاربة النص:

أ) التفاحة: ترمز التفاحة للغواية والإغراء، (كما ورد في أسطورة فينوس). وفي قصة آدم وحواء، كانت سبب خروجهما من نعيم الهناء إلى جحيم العناء، الذي تمثله الدنيا بنكدها وشقائها وصراعاتها وحروبها المتكررة والمتواصلة منذ الوجود البشري إلى يومنا هذا، أو منذ أول عملية قتل في التاريخ نفذها قابيل. فهو هبوط من الأسمى نحو الأدنى.

وترتبط التفاحة كذلك بمفهوم الجاذبية، على اعتبار نيوتن مكتشف قانون الجاذبية الأرضية، انطلقت نظريته من سقوط التفاحة (من شجرة)… وهذا يدعونا إلى التساؤل هل هناك علاقة رمزية بين الغواية والجاذبية، خاصة وأنهما يشتركان في خاصية الاجتذاب؟

أما عبارة “تفاحة يانعة”. فاليانع هو الناضج الذي حان وقت قِطافه. والنضج حالة مرتبطة بالزمن وبالعمر، ونقول فتاة أينع شبابها، إذا بلغت سن الكمال والفتوة[9].

ب) السكين: آلة حادة وظيفتها القطع والطعن، أو الذبح. ترمز إلى الصراع والقتل، أي تُحيل على الدم.

والسكين علامة لأول افتتاح يكرس سنة الأضحية في التاريخ. وتتحول إلى آلة تعذيب في حالة ما لم يتم صقل شفرتها لتصبح قاطعة، لهذا نجد النص الديني يؤكد على إراحة الذبيحة (الأضحية) حتى في لحظة القتل: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، ولْيُرح ذبيحته»[10]. إذ لا يُعتبر الذبح المفضي مباشرة إلى الموت عذابا، لكن في المقابل، السكين التي لا تمر بسرعة لتعجِّل بالقتل، تمارس هذا المفهوم، ذلك لأن الموت لا يعتبر عذابا، وقد ورد في القرآن: «والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها»[11]، فالموت حسب هذه الآية، راحة قد يتمناها من وقع عليه العذاب الشديد.

أما ما يشير إليه الشق الثاني من العنوان، «وسكين صدئة»: يحيل إلى كون الآلة/الأداة معطلة بفعل عامل الزمن، لأن الصدأ طبقة تعلو الحديد إذا قَدُمَ أو تقادم، وسكين صدئة (أو صدئ) يدل على أنها أداة غير مستخدمة أو مهملة، والصدأ كذلك حائل وبين وظيفتها الأساسية (القطع)، وأيّ محاولة إنما هي إثارة لمزيد من العذاب، تماما كالذي يذبح أضحيته بسكين صدئة غير حادة.

وبناء على هذا التأويل لرمزية التفاحة ورمزية السكين، تتضح المفارقة بين تفاحة (ناضجة) يانعة حمراء كلها نضارة وحياة وإغراء، وبين سكين صدئ أرخى الزمان عليه آثاره، ولم يعد صالحا لفعل القطع لإهمال طاله، أو لانتهاء صلاحيته.

بقراءة أقصوصة “تفاحة يانعة وسكين صدئة” نقف على كلمتين متضادتين (شيخ#صبية)، يقول السارد: «قال المستخدم عبر الهاتف المحمول: – شيخنا الجليل بلغ من العمر عتيا، والزوجة الجديدة ما تزال صبية»[12]. وصبية، مؤنث صبي، أي شابة[13] وفتاة في مقتبل العمر، وتقابلها الشيخوخة، وهي آخر مرحلة عمرية. بهذا نكون أمام مرحلتين عمريتين متفاوتتين، وتفاوتهما يشكل فارقا زمنيا كبيرا.

ثم نجد كذلك في العنوان عبارتين متضادتين على مستوى الدلالة: (يانعة#صدئة)، ليأخذ التركيب الدلالي في مستواه التخيلي، هذا الشكل:

(شيخ#صبية) + (يانعة#صدئة) = صبية يانعة

هذه العلاقة المتنافرة بين تفاحة يانعة، وسكين صدئة، تفضي إلى تجسيد صورة مجازية بُنيت على علاقة المشابهة، بخرقِ منطقيَّة الإسناد وذلك بإسقاط حقل معجمي على حقل معجمي آخر.

فاتضح أن مرحلتين عمريتين تمثلهما شخصيتا الشيخ والصبية، أدت إلى علاقة غير متوافقة ولا مكتملة الغاية، كما تبين في خاتمة النص: «أطلقت العروس صرخة مولولة ا

 ألما، قهقه الشيخ معتزا برجوعه إلى صباه»[14]، ولا شك أن الألمَ شعور ملازم لشخصية العروس (الصبية) حالا ومآلا بفعل ظلم أكدته مضمرات النص وتجليات العلاقة الفاشلة التي أشارت إليها هذه القرينة، وفي تصوير مجازي بليغ: «لهثت خيول الشيخ الهرمة فوق جسمها النافر الغضِّ، تفصد عرقه وقواه تكاد أن تنهار»[15].

بهذا العنوان قدَّم الكاتب مجموعته القصصية، وهو نص مركب من جملتين نعتيتين معطوفتين بالواو. الجملة الأولى «تفاحة يانعة»، توحي بالسمو على مستوى التعبير اللغوي، وكذا على مستوى معناها ودلالتها التي تمنح القارئ استقراء أثرها الجمالي أو استشعاره بتجربته الذوقية التي تتعالق بالتصورات الذهنية المسبقة. وخاصة لو تم استثمار الدلالة الرمزية التي تتمثل في [الحب/الغواية].

وأما الجملة الثانية، فإلى جوار جماليتها اللغوية التركيبية والتعبيرية فهي أقل درجة وأدناها، على مستوى الدلالة المشار إليها والتصوير المتخيَّل، أي أن «سكين صدئة» تعبير يومئ إلى الدونية وإلى تمثلات تتجلى في الإكراه والاعتداء والظلم.

من الأسمى إلى الأدنى

تبتدئ نصوص هذه المجموعة بقصص تلازم تيمة الحب كموضوع أساسي، وذلك بداية من:

  • النص الثاني «الحب وطن»، حيث نقرأ على سبيل المثال: «أهدتني حبيبتي وردة وقبلة..»[16].
  • النص الثالث “أجنحة الدفء”، نقرأ: «مادام خافقك ينبض لخافقي، فكل الدفء معي..»[17].
  • النص الرابع “هروب”: «نثرت أزهار أحلامي، ونثرت أزهار أحلامها، وسرنا في الممر مُسرْنَمِين حذرين من أن تداهمنا صحوة اليقظة..»[18].
  • نص «حديث المخدة» نقرأ منه: «تعالي أميرتي ليسمع قلبي وجيب قلبك، فحينما تحضر لغة القلوب تخبو لغة الكلام»[19].

من خلال هذه القرائن النصية، نلاحظ أن تيمة الحب تشكل عنصرا أساسيا في النصوص الأولى التي تتقدم هذه المجموعة القصصية (وقد ذكرنا بعضها لا كلها للتوضيح). ثم تنتهي بسلسلة أخرى من النصوص تكشف عن تيمة عكس الأولى، تتمثل في: [الحرب – القتل]، كما في:

  • النص الخامس ما قبل الأخير بعنوان “ص…و…ر”، نقرأ منه: «صور وصور لركام جثث مقبورة لرجال ونساء وصبية زغب الحواصل. الرصاص يلعلع في كل صوب والموت يمد خطافه خبط عشواء..»[20].
  • النص الثامن ما قبل الأخير ” فلول الهزيمة”: «استعر بأس الحرب لسانا لاهبا، فكانوا له حطبا…»[21].
  • نص آخر بعنوان “بتصرف”: «فتح باب نار “الكلشنكوف” المتدلية على كتفه فحصدهم بوابل زخات سريعة..»[22].
  • في نص ” نيران صديقة” نقرأ منه: «إذ بصليات رصاص تزدرده ازدرادا»[23]…

نلاحظ في هذه الاقتباسات وغيرها أن موضوعها الحرب والقتل، وهو المحور الرئيس الذي تتناوله نصوصها.

ثم بعد هذين النموذجين من النصوص، تتموضع قصص أخرى، يتخذ أغلبها موقع الوسط في المجموعة، بحيث تطرح تيمات متنوعة، منها:

أ) ما هو اجتماعي:  

  • المرأة كإنسان يكابد داخل مجتمع ذكوري. والمرأة كأنثى تمثل أحد مظاهر الجمال في الحياة. والمرأة كرمز للإغراء…
  • الطفولة بأحلامها وطموحاتها، وبراءتها، وبذكرياتها. والطفولة بانطلاقها وعفويتها في الحياة، وبإحساسها بالقمع والقهر…
  • الذكريات: وذلك بالحنين إلى الماضي، وتذكر الغائبين والراحلين ..

ب) ما هو أخلاقي وقيمي:

  • الحب – الخيانة – الشك – الغيرة – النفاق – الانكسار – انحدار في القيم – الغدر كصفة بشرية…

ج) ما هو معرفي فلسفي وتاريخي:

بحيث يستدعي القاص شخصيات من التاريخ، فلسفية وعلمية وتراثية، معتمدا على رمزيتها الشخصية لتشكيل المعنى، نذكر من هذه الشخصيات:

  • الفيلسوف اليوناني ديوجين المعتزل، صاحب المصباح الذي كان يُشعله في واضحة النهار باحثا عن الحقيقة أو عن الإنسان… وقد وفق القاص باختيار عنوان قصته، «بقعة عتمة وحزمة ضوء»[24]، كناية عن العالم العائم في الظلام بغير الحكمة المتمثلة في مصباح ديوجين.
  • آدم وحوا: استعار رمزيتهما (التاريخية والدينية والميثولوجية) ليوظفها في قصة « إشارات المرور»[25]، والتي لها أيضا ثلاث عناوين فرعية كإشارات الضوء الخاصة بالمرور.
  • الشخصية (العربية) التراثية، زرقاء اليمامة التي عُرفت بزرقة عينيها، وحدة بصرها، حتى قيل أبصر من زرقاء.. في نص «فواث»[26] تأتي هذه الشخصية مفقوءة العينين.
  • علاء الدين ومصباحه السحري: وقد وظف القاص رمزية مصباحه في قصة ساخرة بعنوان «آخر خدمات مصباح علاء الدين»[27].
  • شخصية علمية، وهي العالِم النحوي سيبويه: استعار القاص شخصيته لنص بعنوان، «”حتَّى” النفس الأخير»[28] موظفا علاقة سيبويه مع “حتى” التي حيرته حتى قال: “أموت وفي نفسي شيء من حتى” ذلك لتعدد مواقع إعرابها.

د) ما هو سياسي: مظاهرات – صراع – حروب – قتل..

تنطلق القصص – حسب ترتيبها – في تناولها للموضوعات من الأعلى في سُلم القيم ثم نزولا نحو ما يمثل الانحدار. حيث تؤسس النصوص الأولى عالما فاضلا يعمه الحب الذي هو جوهر الوجود وأسمى شعور، وأغلى قيمة إنسانية تحفظ للحياة توازنها. مرورا بالأحلام والطفولة والبراءة، كإحدى عناصر الحياة الإنسانية التي تؤثث العمر وتُشعر كيان الإنسان بوجوده وبإنسانيته. ثم نزولا إلى الشك والخيانة والنفاق. ثم إلى الاضطهاد والقمع والشقاء، ثم الغدر الإنساني، هبوطا إلى درك الصراع والحرب والقتل كأسوأ ما عرفه تاريخ الإنسان على وجه الأرض، وتلك من أسباب خراب الحياة ودمارها وانتكاس القيم واندحار الحضارة أو انحدارها. يَستحيلُ العالم مع هذا الوضع إلى ظلام، كما تُصور لنا قصة: “مرايا العتمة”: «بحلق في سجوف الظلام فلم ير شيئا، جال بنظره فلم يتلمس إلا الفراغ الهائل، فكان المكان مسربلا بظلمة مطبقة.

أنَّ أحدهم بوجع دفين:

آه
فتعالت الآهات الحارقة ثم نظروا إلى وجوههم في مرايا جراحهم الراعفة…»[29].

فالظلام/الفراغ/الوجع/الآهات/الجراح، رموز تنعكس على مرايا الواقع/الحاضر، وهي تصور مستوى التعاسة الإنسانية وسط عالم يدمر إنسانيته.

خاتمة

إذا كانت الكتابة الإبداعية عند القاص المصطفى كليتي تطرح قضايا الإنسانية داخل خلفيات أدبية منسوجة ببراعة ذكاء كاتب يعرف كيف يحكي – في أقل كلمات دالة- بشغف وعلى مهل دون استعجال،  فإنه يستثمر داخلها سمات كتابة “القـ قـ ج” كالتلغيز، والإضمار، والتناص، والتضمين، والإيحاء، والإيهام والفانطاستيك..  ويوظف عنصر المفاجأة، والسخرية، والنكتة، وتحديد المفارقات… كل ذلك داخل تضاريس لغوية ماتعة ممتعة، تتسم بالانزياح، وبتراكيب من الجمل المشوقة والجريئة.

وبهذا تكون القصة عند الكاتب جمرة حارقة تلسع بالدهشة من يقترب إليها من حيث كونها تثير في عمقه، بأقل ما يمكن من كلمات، غوايةَ النص وأسئلةَ المعنى.

هذه القصيصات تستعرض قوتها الإقناعية معتمدة على سلم تراتبي ينطلق من الأعلى نحو الأدنى في نسق تأويلي. تعالج عوالمُها قضايا إنسانية تستمد مرجعيتها من الواقع/الحاضر وصيرورته، ومن متغيرات العالم، ومن التاريخ والتراث الإنساني… كل هذا ينعكس على مرايا الوعي عند الكاتب فيروم صياغة متخيله ضمن منجزه الإبداعي.


[1] عند الإغريق تعرف مينرفا (Minerva) بأثينا، وهي إلهة العقل والحكمة (أنظر الموسوعة الحرة ويكيبديا). كما تسمى فينوس أفروديت (Aphrodite)، وهي إلهة الحب والجمال والجنس عند الرومان (أنظر كتاب أشهر الأساطير في التاريخ: مجدي كامل، دار الكتاب العربي، دمشق-القاهرة،  ص66- 121).
[2]  هوميروس، الإلياذة، ترجمة دريني خشبة. دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ط1، 2014.
[3] سورة طه، الآية: 132
[4] سورة البقرة، الآية: 61
[5]  سورة البقرة، الآية: 57
[6] لا يقصد في الآية بمصر تخصيص البلد، بل العبارة على العموم وجاءت منونة، بخلاف مواضع أخرى في القرآن جاءت ممنوعة من الصرف (إدخلوا مصرَ إن شاء الله آمنين)، بما يفيد: أي مدينة أو مصر من الأمصار. وقد ذهب الرأي المخالف إلى أن العلَم المؤنث الثلاثي، السكن الوسط، لا يمنع من الصرف، فاعتبروها مصر البلد المعروف.
[7]  تفاحة يانعة وسكين صدئة، المصطفى كليتي، دار الوطن، الرباط ط.1، 2014،
[8] محمد داني، جمالية القصة القصيرة جدا، دراسة نقدية، مطبعة البوغاز، مكناس. 2012، ص: 26
[9] معجم الغني: موقع قاموس المعاني www.almaany.com
[10] صحيح مسلم، حديث شداد بن أوس
[11]  سورة المائدة، الآية: 26
[12] تفاحة يانعة وسكين صدئة، ص: 15
[13] الرائد: معجم لغوي عصري، جبران مسعود، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 1992، ص: 490
[14] تفاحة يانعة وسكين صدئة، ص: 15
[15]  نفسه
[16] تفاحة يانعة وسكين صدئة، ص: 6
[17]  السابق، ص: 7
[18]  السابق، ص: 8
[19] السابق، ص: 12
[20] السابق، ص: 81
[21]  السابق، ص: 78
[22]  تفاحة يانعة وسكين صدئة، ص: 76
[23]  السابق، ص: 72
[24] السابق، ص: 55
[25]  السابق، ص: 55
[26] تفاحة يانعة وسكين صدئة، ص: 71
[27] السابق، ص: 83
[28]  السابق، ص: 84
[29]  تفاحة يانعة وسكين صدئة، ص: 59.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى