في نقد الشعر، قادني البحث عن أسرار الإدهاش في الصورة الشعرية إلى اكتشاف تلك العلاقة القائمة بين عنصرين مهمين من عناصر الإدهاش هما المضحك واللامنطقي . فحيثما كان اللامنطق المضحك كانت الدهشة .
عناصر الإدهاش في الصورة الشعرية تتوقف على علم البلاغة بأقسامه الثلاثة ( علم البيان وعلم المعاني والمحسنات البديعية (المعنوية )) لكن قسماً من الإدهاش يتوقف على صياغة الكلام بأسلوب يجعل الصورة الشعرية قابلة للقراءة المضحكة بسبب لامنطقيتها.
والتقاط النكتة من قبل المتلقي في تلك القراءة للصورة هو ما يجعلها مدهشة.
أما إضحاك اللامنطق فيتأتى إما من مفارقات أسلوب البيان ( التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية ) أو من التوظيف غير المتوقع للألفاظ في سياقات تقود إلى دلالات معنوية مدهشة يُعنى بها علم المعاني على صعيد تحليل علاقة الجمل والتراكيب اللغوية ببعضها من الناحية المعنوية ، أو من خلال مفارقات المحسنات البديعية المعنوية.
و يمثل اللامنطق المثير للضحك هنا فرعا من فروع المبالغة في الوصف و التي قد تتنوع إلى مبالغة كمية أو نوعية. وسنحاول في هذا المقال رصده بتحليل عدد كبير من الصور الشعرية المدهشة، من الشعر القديم والحديث .والتي أراها في تحليلها المنطقي ذات مبالغة وصفية تجعل الصورة أقرب إلى فن رسم (الكاريكاتير) الذي يُضخِّم جزءاً من الصورة على حساب تصغير جزء آخر ، فيخلق عدم تناسق شكلي ( هو في الشعر عدم تناسق شكلي ومعنوي ) يثير الضحك من وجهة نظر المنطق الحيادي .
مع العلم أننا لا نتحدث هنا عن الصورة الشعرية الساخرة في شعر الهجاء، والتي يبدو ظاهراً وواضحاً للجميع أنها تقوم أساساً على المبالغة (الكاريكاتيرية) في التصوير ، وإنما نتحدث فقط على الصورة الشعرية المدهشة جمالياً والتي قد تنتمي إلى شعر الغزل أو المدح أو الحكمة . .
ولنبدأ أولا بتحليل بعض الصور الشعرية الرائعة والمدهشة في تكوينها الجمالي في معلقة امرئ القيس حيث يقول:
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ :: فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي
تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً :: عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ :: ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ
تمتد هذه الصورة الشعرية المدهشة على مدى الأبيات الثلاثة، لتتحول إلى مشهد تمثيلي حركي لطيف قوامه الطرافة والظرف المرِح الذي يبعث على الضحك أو الابتسام .
فامرؤ القيس يفاجئ حبيبته عنيزة ويباغتها وهي راكبة في هودجها على ظهر البعير فيدس نفسه إلى جانبها في الهودج ، ولا يكون منها إلا أن تعبر عن غضبها واعتراضها على سلوكه الطائش بالدعاء عليه بالويلات ( فقالت :لك الويلات ) فلماذا له الويلات يا ترى؟
كان يمكن للقارئ بعد هذا الدعاء منها عليه أن يفترض لها مجموعة من الأسباب المنطقية التي تبرر غضبها ودعاءها ؛ ومن أهم الأسباب مثلا: أنها تخاف أن ينكشف أمر اندساسه في هودجها عند صعوده أو نزوله ويراه الآخرون مما يتسبب لها بالفضيحة . غير أنها فاجأتنا بسبب مضحك غير متوقع ولا يخطر على البال؛ وهو أنها قد خافت من أن تكون العاقبة الوخيمة لسلوكه الطائش ذاك هي أن يضطرها للترجُّل والسير على قدميها.
“فقالت لك الويلات إنك مرجلي” . ويبدو -والله أعلم- أنها متكاسلة عن المشي وتفضل الركوب على الترجل.
ولم يقدم لنا امرؤ القيس سبباً منطقياً حقيقياً آخر لاعتراضها عليه وأخفى ذلك السبب إخفاء تاما . بل إنه زاد في تبرير موقفها في شرحه التفصيلي للصورة الشعرية في البيت الثاني قائلا
َتقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً :: عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ
إذن فكل ما في الأمر أنها تخاف على بعيرها من زيادة الثقل الذي سيجرح ظهره(يعقره ) ، ولذا فإنها تأمر امرأ القيس بالنزول حالا .
ولا شك أن البعير قادر على حمل وزن يفوق الوزن الذي تدعي عنيزة أنه لن يستطيع حمله. فالمسألة لا تتعلق بخوفها على البعير من العقر. ولكنها وقد كان لا بد لها من الاعتراض- والله أعلم – قد أوجدت سبباً واهياً ضعيفاً تكفل به عدم إصغاء امرئ القيس لها وعدم تجاوبه مع اعتراضها. فكانت النتيجة المطلوبة برود أعصاب امرئ القيس الذي قال كلمته الأخيرة بكل اطمئنان وثقة :
فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ :: ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ
لقد أبدع امرؤ القيس بخفة الظل التي أثارت دهشتنا. ومن يستطيع أن يمنع نفسه من الابتسام وهو يتأمل جمال هذا التصوير الذي اعتمد فقط على قدرة الشاعر وحدسه في استحسان واختيار ألفاظ معينة تناسب الموقف وتبرز جماله الفني؟ وهو ما نجد له في علم المعاني ركيزة وقاعدة ؛ إذا يعرفه السكاكي قائلا:
( علم المعاني : هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة ، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقضي الحال ذكره )
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ … وَأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاَء بِكَلْكَلِ
أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِى … بِصُبْحٍ، وَمَا اْلإصْبَاحُ منكَ بِأَمْثَلِ
في أول هذين البيتين تشبيه مكني يشبِّه فيه امرؤ القيس الليل بالحيوان ( المشبَّه به محذوف وكنَّى عنه ببعض خصائصه وهي (الكلكل والصلب والعجز ) وهوحيوان ذو صفات خيالية ينطبق عليها (من وجهة نظري) أن تكون حجة لامنطقية ومضحكة في آن واحد، ساقها الشاعر ليبرر شعوره بزيادة طول الليل.
وتشبيه الليل بالحيوان في البيت هو قراءتي البيانية الشخصية التي لم أجدها في أي شرح سابق لمعلقة امرئ القيس في أيٍّ من شروح الأوائل ( التبريزي والأصمعي والزوزني والشنقيطي ) فليس منهم من ذهب إلى ذلك . بل اكتفوا جميعا في أثناء شرح البيت بالإشارة إلى الاستعارات الثلاثة التي استعارها الشاعر لليل وهي أقسام الجسم : الكلكل ويعني الصدر والصلب ويعني الظهر والعجز ويعني مؤخرة الجسم . فهم يقرؤون الصور البيانية في هذا البيت على أنها من نوع الاستعارة ( المكنية ) فقط . وأعتقد أن هذا غير دقيق؛ لأن استعارة عدة خصائص كلها من لوازم المشبه به المفرد ذاته (الحيوان ) وتصلح ككنايات عنه يحيل الصورة البيانية إلى تشبيه مكني يعقد صلة واضحة بين المشبه والمشبه به المحذوف الذي تمت الكناية عنه ببعض لوازمه.
بل أرى أن النكتة المدهشة في قراءة الصورة الشعرية بيانياً وجمالياً تلح علينا وتدعونا لربط أوصال الجسم بعضها مع بعض لتشكل جسم المخلوق أو الحيوان كاملا ، فلا نكتفي بالقول إن الشاعر قد استعار لليل صدراً ثم استعار له صلبا ثم عجزاً . بل نقول إنه شبًه مرور الليل بمرور حيوان خرافي لا مثيل لجسمه في الواقع، كونه يمتلك فضلا عن الصدر والظهر العديد من الأعجاز وليس عجزاً واحداً فقط كما هو الحال مع الحيوانات الواقعية ..
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ … وَأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاَء بِكَلْكَلِ
ونستنتج أن المشبه به حيوان وليس إنساناً على الرغم من أن الإنسان يشترك مع الحيوان في حيازة الأقسام الثلاثة من الجسم ( الصدر والظهر والعجز) لأن الشاعر يستخدم الفعل (ناء ) يعني :( ابتعد ) عندما يصف هذا المخلوق الذي يتمطى أو يمط منطقة الظهر إلى درجة يصبح معها صدره بعيداً أو نائياً عمن يراه . فلو كان الشاعر يتصور هذا المخلوق إنساناً لكان استخدم فعلا آخر غير الفعل (ناء ) ليدل على ارتفاع الصدر/ الكلكل وعلوه في أثناء التمطي ، وذلك بسبب مراعاة انتصاب قامة الإنسان . لكن استخدامه الفعل (ناء) يملي علينا أن نتصور أن النأي يحدث أفقياً لا عمودياً ، والصدر يصبح نائياً في المسافة الأفقية وليس في الإرتفاع . وبالتالي فإن ذلك المخلوق ما هو إلا حيوان فقاري ( له صلب وعجز ) ويتخذ ظهره وضعية أفقية عندما يمر ويتحرك .
فشرح معنى البيت : أن الشاعر يكابد ليلاً طويلا جداً كناية عن كثرة همومه التي جعلته يشعر بالزمن أطول مما هو عليه في حقيقته ، وقد كان مرور هذا الليل شبيها بمرور حيوان طويل الظهر أخذ يتمطى بصلبه حتى ناء وابتعد بصدره ( وناء بكلكل ) وفي البيت تقديم وتأخير كما يقول من شرحه من الأوائل إذ قدَّم الشاعر إرداف الأعجاز على النأي بالكلكل ، والأصل أن يقول “ناء بكلكله” أولا ، ثم يقول :”وأردف أعجازه” لأن الكلكل يكون في المقدمة من الجسم والعجز في المؤخرة .وتأتي المفاجأة اللامنطقية المضحكة في أنه لما مرَّ أول عجز له أعقبه بعجز آخر وآخر وآخر ( وأردف أعجازا) ومعنى أردف : ( توالى وتتابع )، فكلما تفاءل الشاعر واستبشر بأنه قد آن انتهاء مرور الليل / الحيوان مع مشاهدته أحد أعجازه ، أخذ هذا الليل /الحيوان يتلكأ في مروره أكثر ليُظْهِر للشاعر بعد ذلك العجز عجزاً آخر . فيخيب أمل الشاعر ويزداد إحباطاً من ترقب انقضائه .
لذلك يعمد الشاعر في ثاني البيتين و بعد أن يشهد ذلك الاستعراض البطيء لطول الليل وقد امتلأ به وعيه وفاض إلى أن يذكر صفته ويؤكدها ، وهو يخاطبه ويأمره بالانجلاء ( ألا أيها الليل الطويل ) مع استخدام حرف التنبيه ( ألا ) مكررا مرتين وكأنه يحثه على الانجلاء حثا ( ألا أيها الليل ، ألا انجلِ) .
فالمدهش في الصورة الشعرية في البيت هو هذا التبرير اللامنطقي المضحك الذي برر به الشاعر شعوره بطول الليل بسبب كونه يمر كحيوان غريب عجيب اتضح – لسوء حظ امرئ القيس – أنه يمتلك صدرا ينوء به وظهرا يتمطى به وأعجازا متعددة يردفها تباعاً ، حتى تسبب ذلك كله في تباطئه وعدم انقضائه.
ومن اللامنطق المضحك الذي يثير الدهشة في الصورة الشعرية الجميلة، ما جاء في وصف الأعشى في معلقته لمِشْيَة محبوبته هُريرة . تلك المِشية البطيئة، وأسبابها اللامنطقية العجيبة، والتي تطلَّبت من الأعشى عدة أبيات لوصفها.
ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ = وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟
غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها= تَمشِي الهُوَينا كما يَمشِي الوَجي الوَحِل
كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا = مرّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ
تَسمَعُ للحَليِ وَسْوَاساً إذا انصَرَفَتْ= كمَا استَعَانَ برِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
ليستْ كمنْ يكره الجيرانُ طلعتها = ولا تراها لسرّ الجارِ تختتلُ
يَكادُ يَصرَعُها، لَوْلا تَشَدّدُهَا = إذا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَلُ
هِرْكَوْلَة ٌ، فُنُقٌ، دُرْمٌ مَرافِقُها= كأنّ أخمصَها بالشّوكِ منتعل
وقد بدأ الأعشى هذا الوصف بتشبيه هريرة وهي تمشي الهُوَينْا، أي: بتؤدة ورفق، بمشية الوَجِي الوَحِل.
والوَجي: هو من مشى حافياً ، أو من رَقَّتْ قدمُه، أو خُفُّه، من كثرة المشي، فأصبح يجد فيه مشقةً. فكيف إذا كان وَجِياً (وَحِلا) ً؟ أي : يمشي في الوحل؟
علينا أن نتخيل معاناة هذا المسكين، وهو يضع قدمَه في الوحل، فتغوص فيه وتعلق، ثم يأخذ بمحاولة سحبها، وانتزاعها من الوحل، في كل خطوة وعلى طول الطريق!
فبطء مشيته مماثلٌ لبطء مشية هريرة. كما يقول الأعشى الذي يعطينا مثالاً أوضح عن بطء مشيتها، وذلك عندما يسمح لنا بمراقبتها، وهي تمشي منصرفة من بيت جارتها فيقول:
كَأنّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا= مرُّ السّحابة ِ، لا ريثٌ ولا عجلُ
غير أننا نتصور مرور السحابة بطيئاً جداً! فكيف يصفه الأعشى بأنه بين التريث والعجلة ؟
ثم ألم تكن هريرة تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل ؟ فهل غيَّرت من سرعتها؟ أم نَسِيَ الأعشى ما كان يقول؟
الجواب : لا هذا ولا ذاك . وإنما هنا تكمن النكتة.
فقد كان العرب قديما يميِّزون بين أنواع الغيوم، ويكثرون من أسمائها، إلى درجة تسمح لنا بإحصاء أكثر من بضعة وعشرين اسما للغيوم، تختلف بحسب حالة الغيمة وتوقيتها . وكانوا ينتبهون أيضاً إلى اختلاف سرعات مرور الغيوم في السماء . والقاعدة في ذلك عندهم أنه كلما ازدادت حمولة الغيمة كانت أبطأ في مرورها، والغيمة الجهام هي الأسرع على الإطلاق؛ لأنها خالية تماماً من الماء . أما السحابة فتكون ذات سرعة متوسطة ؛ لأنها غير مكتملة الحمولة.
وفكرة التشبيه هنا لا تقتصر على بيان التماثل بين سرعتي مِشية هريرة ومرور السحابة . بل المقصود أن يقال: إن مِشْيَة هُريرة على بُطئها ، إنما هي ليست في غاية البطء. أو ليست هي أقصى ما يمكن لهريرة أن تؤديه من الإبطاء في المشي . بل ثمَّة إمكانية أكبر من ذلك بكثير في هذا المجال .
ونفهم هذا من قول الأعشى :
يَكادُ يَصرَعُها، لَوْلا تَشَدّدُهَا = إذا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَلُ
فهُريرة تمشي ببطء عظيم لأنها تتمتع بكسلٍ عظيم. وقد وصلت إلى درجة تكاد فيها تخِرُّ صريعةً من الكسل، إذا همَّت بالمشي إلى جاراتها تزورهن (يكاد يصرعها ، إذا تقوم إلى جاراتها، الكسل) لولا تشدُّدها؛ وتشدُّدها يعني أنها تأخذ نفسَها بالشِّدَّة والقسوة، كي تقاوم ذلك الكسل، فلا تسمح له بأن يصرعها، أو يطرحها أرضاً قتيلة، أو عاجزة عن الوقوف. (كما تعني لفظة الصَرْع).
ثم يقطع الأعشى تغزُّله ببطء مشيتها ذاهباً لأغراض شعرية أخرى، قبل أن يعود إلى ذلك مرة أخرى قائلا:
هِرْكَوْلَة ٌ، فُنُقٌ، دُرْمٌ مَرافِقُها= كأنّ أخمصَها بالشّوكِ منتعل
والهِركَوْلة: هي المرأة عظيمة الوركين مرتجة الأرداف في مشيتها. وهي حَسَنَة الجسم والخلق والمشية . والهَرْكَلة عموماً: هي المشي الحسَن.
وامرأة فُنُق أي : منعَّمة. وناقة فنق، أي: سمينة .
وكانت السُّمْنَة دليلاً على التنعُّم في المعيشة . فكونها هركولةً يدل على كونها فُنُقاً أو مُنَعَّمة. وكذلك عظام مرفقيها اللذان يغطيهما اللحم والشحم، وهذا هو معنى (دُرْم مرافقها) . وكل ذلك التنعم يجعلها سمينة، وينعكس على مِشيتها، فيجعلها بطيئةً، وهو سر جمال تلك المِشية في رأي الأعشى شاعر العصر الجاهلي، الذي يدفعه التغزُّل ببطء مِشية هريرة إلى تشبيهها ببطء مشية من انتعل الأشواك في أخمص قدمه. أي: جعلها كالنعل، وأخذ يمشي عليها. فكيف تتوقعون سرعته في المشي ؟
كأنّ أخمصها بالشّوكِ منتعل!
لا شك أن وضع من انتعل الأشواك في أخمص قدميه صعب جداً. ومعاناته كبيرة جداً. فكل خطوة يخطوها تتسبب له بألم لا يُحتَمَل، وتمنعه من التفكير بخطوةٍ تالية. وليس ثمة شيء أبغض إلى نفسه من المشي. وهذا ما يجعله أبطأ في مِشيته (إذا تمكن من المشي ) مما يمكننا تخيُّله.
لكن، لا يجب أن ننسى أن هذا غَزَلٌ يصف الجمال. وليس شعراً وجدانياً يصف معاناة المشي في الوحل بغير حذاء ، أو ألم انتعال الأشواك. وبالتالي فإن هذا الوصف يدخل في باب المبالغة المضحكة ، والتي يعيها الشاعر تماماً ويتعمدها بهدف تحقيق الإدهاش في صورٍ شعريةٍ جميلة. على الرغم من أن بُطء مِشية المرأة كان يُعَدُّ في العصر الجاهلي موضوعاً للغَزَل بوصفه صفةً جمالية.
والكلمة الأخيرة التي يمكننا قولها في هذا الموضوع :
الحمد لله أن ذائقة العرب الجمالية قد تطورت مع مرور العصور، ولم يتم توارث هذه الجزئية في تقييم الجمال كما كانت عليه ، وإلا لكانت وصلتْ إلينا اليوم ، ولكانت ثمة عرقلة للسير ستحدث في بعض الشوارع العربية المزدحمة ، فقط بسبب مرور بعض النساء (الهركولات ) الماشياتِ الهوَينا فيها!