صلاة صمت / الشاعرة إرادة عمران
صباحٌ خلف أبواب الشجون
يقد قميص ليل يحتويني
فمازال الظلام على عفافٍ
ومازال الصباح على جنونِ
وكاد الليل أن يغويه صبحٌ
فنادى :ياسماوات انقذيني
فسرمدت السماوات الليالي
وأنست صاحبي ذكر السجينِ
طوال ياسنين السجن عندي
قصار في مخيلة السنين
ألا من مبلغ النسيان عني
سطورا لم يصاحبها أنيني
شربت بها كؤوس الأنس تترى
وأمواج السعادة تعتريني
فماعاد اجترار الأمس يجدي
لقطع الليل أو وصل الحنين
تجمدت المشاعر في فؤادي
ونام الثلج مفترشاً غصوني
فهب لي قبة النسيان بيتا
لأتلو الصمت في وتر السكون
بداية أود أن أقول: إنني أتفهم تماما سبب وصف الشاعر الأستاذ محمد العموش هذه القصيدة المدهشة بأنها “نظمٌ جميلٌ لم يدخلْ حدودَ الدهشة”، فعندما قرأت القصيدة للمرة الأولى كدت أحكم عليها بأنها تفتقر لعنصر الدهشة حقا ، وقد أثار استغرابي للوهلة الأولى أن تتسم قصيدة ما للأستاذة الشاعرة المتألقة إرادة عمران بهذا الوصف .
لكنني بعد قراءتي الثانية للقصيدة فهمت سبب الرد الانفعالي من الأستاذة إرادة على الأستاذ محمد العموش , فقد أثارت القصيدة حقا في القراءة الثانية كامل دهشتي .
وحصدت منها لذة ومتعة قراءة الشعر والشاعرية .
وسأبيّن كيف ولماذا بدت هذه القصيدة المدهشة غير مدهشة في القراءة الأولى :
أولا على المستوى الألفاظ:
جميع الألفاظ (الأسماء والأفعال) التي استخدمتها الشاعرة كانت مألوفة جدا على الأذن ، فهي متداولة بكثرة ومطروقة في نصوص المحاولات الأولى لكل شاعر ، كونها من أول ما يخطر في الذهن ،لذا فإن وقعها وقراءتها (على مستوى الألفاظ فقط ) لا يمكن أن يحقق أية دهشة . وفضلا عن ذلك فقد قامت الشاعرة بتكرار الألفاظ ذات الدلالات الأساسية في النص تكرارا واضحا ومتعددا ، ومعلوم لنا كم أن التكرار يضر بعنصر الإدهاش :
لنقرأ الأسماء التي وردت في النص مع تكراراتها : ( صباح / الصباح/ صبح، قميص ليل/ الليل/ الليالي /الظلام / لقطع الليل ، أبواب الشجون ،عفاف ، جنون ، سماوات/ السماوات ، صاحبي ، ذكر السجين / سنين السجن / مخيلة السنين، النسيان/ قبة النسيان ، سطورا ، أنيني ، كؤوس الأنس ، أمواج السعادة ، اجترار الأمس ، وصل الحنين، المشاعر، الثلج ، فؤادي ، غصوني ، الصمت / وتر السكون)
إذن فليس ثمة ما يدهش في الألفاظ .
ثانيا على مستوى الصورة الشعرية ، لنقرأ القصيدة قراءة أولى :
صباحٌ خلف أبواب الشجون
يقد قميص ليل يحتويني
صورة الصباح الذي ينتظر خلف ألأبوب ليقد قميص ليل ما . صورة عادية جدا و(غير مدهشة) في القراءة الأولى.
فمازال الظلام على عفافٍ
ومازال الصباح على جنونِ
استمرارية في المقابلة بين الظلام و الصباح . وليس ثمة ما يدهش في القراءة الأولى
وكاد الليل أن يغويه صبحٌ
فنادى :ياسماوات انقذيني
استمرارية المقابلة بين الليل والصبح ، ويبدأ خيال القارئ بترقب الدهشة مع نداء الليل للسماوات أن تنقذه.
فسرمدت السماوات الليالي
وأنست صاحبي ذكر السجينِ
رد فعل السماوات على النداء (فسرمدت السماوات الليالي) لم يأت بصورة شعرية جديدة ، لذا لم تتحقق الدهشة ، أما صورة العجز (وأنست صاحبي ذكر السجين ) فهي سرد معنوي لا يحقق الدهشة .
طوال ياسنين السجن عندي
قصار في مخيلة السنين
طول سنين السجن عند الشاعرة مقابل قصرها في تصور الزمن (مخيلة السنين) صورة مطروقة كثيرا ومكررة جدا , ولا دهشة.
ألا من مبلغ النسيان عني
سطورا لم يصاحبها أنيني
بيت استفهامي إنشائي غير مدهش يفيد السرد.
شربت بها كؤوس الأنس تترى
وأمواج السعادة تعتريني
صورة شرب كؤوس الأنس قديمة وغير مدهشة ، وأمواج السعادة عادية وغير مثيرة .
فماعاد اجترار الأمس يجدي
لقطع الليل أو وصل الحنين
سرد غير مدهش أبدا ، إذا تناولناه بمعناه الجزئي المنفصل .
تجمدت المشاعر في فؤادي
ونام الثلج مفترشاً غصوني
تجمد المشاعر غير مدهش بحد ذاته، وافتراش الثلج للغصون تصوير متوقع ومكرور المعنى .
فهب لي قبة النسيان بيتا
لأتلو الصمت في وتر السكون
قبة النسيان بيت ترغب الشاعرة بسكناه لتتلو الصمت في وتر السكون ، صورة عادية وغير مدهشة ؟
إذن فأين الدهشة التي أثارتها قراءتي الثانية للقصيدة ؟
الدهشة لا تكمن لا في ألفاظ القصيدة ولا في صورها الشعرية المجزوءة المنفصلة . الدهشة تكمن في المعالجة الفنية المدهشة لألفاظ غير مدهشة ولصور شعرية عادية ، الدهشة تكمن في النسيج الفني الذكي الذي نسجته الشاعرة لتقدم رؤيا أو حالة نفسية إنسانية/ شخصية هي في غاية الحساسية والرهافة والشاعرية والتميّز .
فلنقرأ القصيدة قراءة ثانية تتيح لنا فهم الجو النفسي الداخلي الذي صورته لنا الشاعرة أروع تصوير .
صباحٌ خلف أبواب الشجون
يقد قميص ليل يحتويني
الشاعرة محتواة في الليل ، واحتواء الليل لها يشبه احتواء القميص للابسه . فهو احتواء مطبق تام يشبه اللبس أو التلبس ، فهذا ليس هو الليل المعهود كظاهرة فلكية أو طبيعية ، بل الشاعرة متلبسة بحالة نفسية يوحيها الليل ، ولكنها وهي تتلبس الليل تتعرض لمحاولة تحرش (اغتصاب معنوي ) تشق قميص الليل عنها . وقد استخدمت الشاعرة مفردة قرآنية من الفعل (قدّ يقدّ ) لتحدث تناصّا مع الآية الكريمة (وقدت قميصه من دبر ..) ولو لم تكمل الشاعرة استجلاب عناصر هذا التناص في الأبيات التالية لطالبناها- كما فعل الأستاذ العموش _ بذكر الجهة التي يقد منها قميص الليل، كإشارة لا بد منها لنفهم أن التناص هو مرادها فنسير معها, ولكن الشاعرة استحضرت عناصر أخرى من التناص مع قصة النبي يوسف عليه السلام مثل (سنين السجن / وأنست صاحبي ذكر السجينِ) ، إذن فلا حاجة لها لذكر جهة قد القميص.
لكن من ذا الذي يريد التحرش بها ويقد قميص الليل عنها ؟ إنه الصباح. لا حظوا معي هذه الومضة الشاعرية التي صوّرت فيها الشاعرة العلاقة بين الصباح والليل على أنها علاقة تحرش جنسي ، فالصباح يباغت الليل ويكشف ستره ! ليس هكذا ومجانيا ، بل عن سبق الإصرار والترصد ، إنه ينتظر خلف أبواب (مغاليق ) شجون (لغويا: أشجان أصح من شجون ) الشاعرة ليقتحم الأبواب ويقد عنها قميصها الليلي ، ولكن شجون الشاعرة كامنة في داخل نفسها , فعلاقة التحرش بين الصبح والليل صراع نفسي داخلي ، ليس إلا . فما نتيجة ذلك الصراع ؟ تقول الشاعرة:
فمازال الظلام على عفافٍ
ومازال الصباح على جنونِ
ها قد فهمنا أن الصراع ما يزال حتى هذه اللحظة قائما ، وأن الظلام الذي يمثل الليل أو الحالة النفسية المغلقة التي تشبه الليل ) التكتم أو الغموض أو عدم الإفصاح عما هو عميق من أسرار النفس عند الشاعرة ) مازال متشبثا بعفافه غير مستجيب لمحاولات الصباح الذي مازال مصرا على جنونه في كشف ستر الليل ! ويا له من صراع مثير مدهش نترقب أحداثه الآن بشغف.
وكاد الليل أن يغويه صبحٌ
فنادى :ياسماوات انقذيني
إنها لحظة ما( لحظة إغواء شديد ) يكاد يضعف فيها الكائن البشري ذو الغرائز فيقول على لسان النبي يوسف عليه السلام مخاطبا ربه العليم في السماوات قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33(يوسف )لحظة يحتاج فيها البشر المتحفظ المتشبث بعفافه (الليل) لحفظ الله فينادي: يا سماوات انقذيني ! وكان لا بد من الفعل (انقذيني) لتتضح مشاعر خوف الليل من التورط أو الانزلاق فيما يدعوه إليه الصبح ، على الرغم من همزة القطع التي تتيح الضرورة الشعرية تحويلها إلى همزة وصل ، ويا له من تنام دراماتيكي فني رائع تقف فيه الشاعرة على تفاصيل معاناة نفسية إنسانية خالدة في لحظة مواجهة ذلك الإغواء !
فسرمدت السماوات الليالي
وأنست صاحبي ذكر السجينِ
طوال ياسنين السجن عندي
قصار في مخيلة السنين
اختصرت الشاعرة بالفعل (سرمدت ) ما لا حاجة للقصيدة به مما جاء في أحداث القصة المتوالية كما خطّها الله في القدر، لتصل بالقارئ إلى نتيجة الصراع المهمة، وهي دخول السجن، ومقابلة ذلك الصاحب الذي عُلِّقت عليه الآمال ثم خابت (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42(يوسف)
لا تتضح لنا الدهشة في هذا النسيج الفني المتماسك معنويا إلا بإطلالة شخصية الشاعرة الفارسة المدهشة وهي تصف لنا صلابتها وثباتها في هذه المواجهة التي لم تكتف فيها بالإعراض عن دواعي الانزلاق في الغواية ، بل فاقت ذلك بكونها غير متأسفة على ما فاتها من لذائذ اتباع السقوط في الغواية . فهي تريد أن تبلِّغ النسيان الذي جعلها تقبع في السجن النفسي سنينا طويلة أنها لا تستسلم ولا تئن ولا تضعف.
ألا من مبلغ النسيان عني
سطورا لم يصاحبها أنيني
شربت بها كؤوس الأنس تترى
وأمواج السعادة تعتريني
فماعاد اجترار الأمس يجدي
لقطع الليل أو وصل الحنين
لم تكتب سطورها وهي تئن توجعا على ما فاتها . بل لقد شربت كؤوس الأنس تترى وهي في سجنها , إنها مستأنسة مسرورة ! فهل نفهم من هذا الادعاء شيئا سوى التحدي ؟! إنها امرأة هذه التي تتكلم . امرأة عنيدة ذات شخصية قوية تعرف ماذا تريد. فكيف لا نعجب بها وكيف لا ندهش بهذه الصلابة وهذا الثبات ؟ من جهتي الشخصية : نعم حققت القصيدة الدهشة بمصداقية ما أعرفه من نمط الشخصية المميزة للشاعرة المتألقة .
وفوق هذا فالشاعرة مدركة تماما لنتائج وأسباب تلك الصلابة التي اتخذتها لها موقفا ، فلولا تجمد مشاعرها لما ثبتت ، ولولا أن الثلج قد افترش أعصابها / أغصانها لما تعاملت بذلك البرود مع الإغواء وأساليبه.
تجمدت المشاعر في فؤادي
ونام الثلج مفترشاً غصوني
إننها مقتنعة تماما بما تفعله ، ولا يسوؤها أن تكون منسية ، والدليل على ذلك أنها تطالب النسيان بمزيد من النسيان لكي تتلو بصمتها الذي يتفق مع موقفها في عدم الإفصاح أو التنازل ، لتتلو الصمت بهدوء/ سكون لا يهدف إلى إسماع الآخرين شيئا .
أنا مندهشة ! والقصيدة حقا مدهشة بهذه المعالجة الفنية التي تواشجت عميقا مع مضمون النص ورؤيته الأنثوية / الإنسانية/ الشاعرية المميزة !