يستمر الصبر ولا بد أن يستمر. يستمر مع امتداد الحياة، ويستمر ما دام في القلب نبض هذه الحياة. فالصبر باقٍ ما دام الأمل في الله باقيا، الصبر قوام الاستمرار، ووقود المبتلى في صموده وتماسكه أمام رياح الدنيا. أحس في أحيان وكأن الشموخ الذي أبديه سينهار، وأحس كأن صمودي الظاهر للعيان ينهار. كأنني في ظاهري وما أبديه شخص جلد، ثابت، متماسك؛ لكني في باطني آيل للسقوط، أتهاوى، أنهار داخليا، يتفكك بنائي الداخلي إلى جزئيات هذه المتاعب.
كم هو صعب أن تعيش في وسط من الناس لكنك وحيد، وكم يندر أن تلفى بينهم صاحب عقل رشيد. أحمل همي وغمي وحدي، وأحمل أوزارا من الآمال وحدي. تؤرقني ضبابية المآل والمصير، ويوحشني انعدام المرافق والصديق. يحزنني حديث النفس عن المستقبل، وتقتلني الوحدة في المسلك والطريق. فوربي، لولا نهي النبي تمني الموت لفعلناها، فلقد مللنا هذه الحياة وتَكَرَّهَت إلينا فكرهناها. لكن للأعمار آجال مضروبة، ووقت معدود، وفراق هذه الدنيا الدنية لا شك وعد موعود. فما هي في حقيقتها إلا ساعة ستمر بالصبر، وإن كان مرا فعليه أجر عظيم وأي أجر.
يوم تعطى فلا حساب لعطائك، حينها فقط تدرك حقيقة ابتلائك. فالمؤمن يعلم بأن منازله هنالك، وأن دنياه مهما بلغت من الجمال، وفتنت ناظره بأبهى المناظر وأجمل الألوان، فإنها ليست بدار مقام ولا قرار ولا ما هنالك. “إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى”. فإن الله يحبك، وإن الله يريدك. يا من فقد حر العيون والبصر، ويا من فقد لسان النطق والبيان، ويا من فقد وفقد؛ اصبر.
اصبر، بارك الله فيك، واصبري، فما هي إلا سويعات ستنقضي. اصبر، لست وحدك، فمعك كل من هو مثلك في هذا العالم الواسع، فلست من ابتليت وحدك، ولست من تحمل الهموم والآمال وحدك. كلنا في قارب واحد نسير، وإلى غاية واحدة مآلنا والمصير. فلماذا الجزع؟! ولماذا الضجر؟! ولماذا اليأس؟!
تلك سلوى وذكرى أردت بثها وبعثها لأبلل بريقها خيط الحياة المرير، لأنظمه من ثقب الأمل الصغير. فلولا حبك ربي لما صبرت، ولولا الصبر منك لما صبرت اليك.