نثر

فسيفساء الحياة

“لدي إعاقة حركية عميقة جعلت مني ذاتا تفتقر للاستقلالية في تلبية مطالب الحياة الضرورية. وشدتني لصفحتك كتاباتك عن الأمل والعمل والحياة لله، ووددت ذلك، لكن كيف أتذوق حلاوة السجود وجبهتي لا تطأ الأرض مثلهم؟ وكيف أتلذذ بالقرآن وأصابعي لا تلامس صفحاته؟ لا أستطيع العمل لأبرز ذاتي وأكون منتجا ناجحا مثلهم. تضيع كل أوقاتي في المقاهي ومشاهدة كل ما يشاهد. فلا دور لي في الحياة”.

هذه رسالة أقضت مضجعي يوم اقتحمت رسائلي الخاصة. لما تحمله في طياتها من ضياع وفقد لمعان الحياة. ولأنها تمثل رؤية منتشرة بين أهل الابتلاء بالمكاره إلا من رحم. وإن لم تكن ذائعة بالمقال فإنها تتجلى في الوقائع والأحوال. فإنما هي صورة لمثيلاتها مما قد تختلف معها في إيراد الحجج وصوغ القول لكنها تصب في معنى واجد يجمعها في آخية واحدة مهما تعددت وهو: سوء فهم لجوهر هذه الحياة وحقيقة إيجادها. مما أدى لضلال في التصور وعمى عن إدراك حكمة الحق في الخلق. وتظلم من مجريات القدر يتستر بأنين الشكوى.

فإن للحياة حقائق تتعلق بها ينبغي للمؤمن أن يعلمها علم يقين وإيمان، وأن تكون ركنا في تكوين بصيرته بها وبنفسه. منها:

ـ أن الحياة سبيل عبور. ومحطة في طريق الرحيل إلى الحق. فليست دار قرار ولا مقام، وتأمل معي ما أخرجه الترمذي[1] من حديث عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَد أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: “مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا”.

ـ وأنها ليست هي الحياة الوحيدة التي سوف نحياها، بل هي أصغر جزء من حياتنا وأسرعه ذهابا وزوالا {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] فلا تغتر بلهوها وزخرفها فالحياة الحق إنما هي هنالك {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64] فعلام تتحسر! وعلام تهدر حياتك الأكمل لأجل حياة ناقصة عابرة، لها أجل معدود ومقدار من الزمن محدود!.

ـ الحياة تتكامل بجميع أجزائها لا بمفرداتها كقطع فسيفساء تعضض بعضها بعضا لتشكل لوحة ذات منظر متماسك لا استغناء لجزء عن الآخر في أداء وظيفته وإنجاز اختباره فيها قال الحق سبحانه {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32] فأنت جزء مهم من الحياة لك دور في سيرورتها وإن غفلت عن ذلك أو جهلته.

ـ من علم كنه الحياة وجوهرها من خلال الوحي أيقن بأن حقيقة النجاح فيها ليس هو ما يشاع هنا وهناك من مفاهيم منطلقة من تأثير الرؤية المادية الأحادية للحياة ولكيان الانسان. فاختزلت قيمته وقيمة نجاحه بمركزه وماله وغيرها من ظواهر الحياة دونما نظر لقيمة جوهره وما تحتويه نفسه من فضائل وركائز نبيلة تؤسس لبناء قوله وفعله على هدى من الله.

ـ من الحقائق المنسية عملا: أن غاية إيجادنا في الحياة إنما هي لنؤمر فنأتمر وننهى فننتهي، فلم نخلق سدى وعبثا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]. لا خيار لنا عن العبودية لله وامتثال شرعه.

ـ هذه الحياة ابتلاء لنا بحلوها ومرها، الحياة اختبار لاختياراتنا في مقابل كل منع أو عطاء، لتفاعلنا مع كل منحة أو محنة. هذه الثنائيات المتجلية في حياتنا إلى فقر وغنى، إلى مرض وعافية، إلى مكتسبات وفشل، ونحو ذلك مما تتباين فيه مجريات الحياة وتتضاد. إنما هي ابتلاء لنا. فهل سنحسن الرد عليها بأقوالنا وأفعالنا؟ أم سننشغل بوصف الامتحان ووصف صعوبته ويسره عن العمل للفلاح في اجتيازه.

ـ ومن الحقائق عن الابتلاء فيها: أن منه الاختبار بالنعمة. فتأمل ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون»[2]. ليتجلى لك أن الابتلاء مقرون بالعطاء كما هو مقرون بالمنع بل قد تكون فتنة العطاء أشد لما يلازمها غالبا من تبلد الحس وموت دفء القلوب والغفلة بها عن حقيقة الحياة وما يلازم ذلك من الغرق في طلبها والسعي لتحصيلها بكل ممكن بغض النظر عن حسنه وقبحه. وانظر ببصيرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا أمته: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» وفي رواية «وتلهيكم كما ألهتهم»[3].

إن الكثير منا لا يدرك نعمة البلاء بأخذ المال والصحة والأحباب … إننا لا نبصر لضعف علمنا ولجهلنا بالحق سبحانه وحكمته ما احتوته تلك الاقدار المؤلمة من لطف الهبات وحسن المنة. فعطايا الرب في المحنة أعظم منها في المنحة لكننا غالبا ﻻ ندرك كنهها. وما ذاك إلا لأننا حين رأينا الحياة نظرنا إلينا بعين الدنيا فقط وتركنا عين الآخرة وتلك رؤية ناقصة مضللة وليست مما يتصف به المسلم، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)} [الروم: 7، 8]

فما أحوجنا في التخطيط لخطونا ومسيرة حياتنا أن نهتدي بقول الله عن حكمة ابتلائه: “{ونبلوكم بالشر والخير فتنة} أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال ابن عباس {ونبلوكم} نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال”[4]. ولنسترشد بالكلمة الجليلة لابن مسعود رضي الله عنه: ” ألا حبذا المكروهان: الموت والفقر، وايم الله، إن هو إلا الغنى أو الفقر، وما أبالي بأيهما ابتليت، إن كان الغنى إن فيه للعطف، وإن كان الفقر إن فيه للصبر”[5] لتنبلج عن يومك سحائب اليأس والقنوط، وتنفرج لك بصيرتك في الدنيا وأحداثها نحو معان أعمق أثرا وأشمل رؤية. فالغنى والفقر في تلك البصيرة ليسا إلا تجليا من مجريات دار البلاء والاختبار للأفعال والأقوال والقلوب. فحق الله لا يفارقك كيف ما كانت حالتك. فإنما الحياة بحيثياتها أمانة لا تنفك عن كاهلك. الكل في حملها سواء.


[1] ح: 2377 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[2] ح 2742
[3] أخرجه البخاري ح4015. ومسلم ح2961.
[4] تفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 342)
[5] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 132).

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى