المضامين العلمانية للفكر التنويري .. الجريمة والعقوبة (ج1)

ذكرنا في المقال الأول أن المحدد الذي على أساسه نفصل بين التنوير الإسلامي وبين مذاهب الفقهاء السائغة، أن رجال هذا التيار قاموا بعملية مواءمة وتوفيق بين مفاهيم التنوير الغربي العلماني وبين نصوص الوحي والشريعة، وأنهم في عملية التوفيق هذه أضاعوا قطعيات من الشريعة وخالفوها؛ إما بقبول باطل وإما برد حق، فكانت مخالفة القطعي بقبول ما هو باطل من المفاهيم الغربية، أو برد ما هو ثابت قطعي من الدين؛ هي الموجب لتصنيفهم على الصورة السابق ذكرها.
والواقع أن العامل الأساسي الذي يُخرج عملية التوفيق هذه عن مسارها الصحيح ويؤدي لتضييع القطعيات؛ هو قبول الباطل، وهو الذي يؤدي بعد ذلك لرد الحق، وأكثر هذا الباطل الذي يتورطون في قبوله يكون مُحمّلاً بمضامين علمانية لا ينتبهون إليها، ما يؤدي لاستحالة التوفيق بينه وبين الوحي الصحيح إلا بتضييع شيء من الدين الحق؛ فاستبطان مضامين علمانية بصورة لا شعورية هو أساس الضلالة في التنوير الإسلامي.
وحديثنا في هذه المقالة هو عن فلسفة الجريمة والعقوبة في التنوير الغربي العلماني، وكيف استقبلها التنوير الإسلامي استقبالاً فيه من الشريعة والدين الحق، وفيه أيضاً من الباطل المحض المهدر لقطعيات الدين بسبب المضامين العلمانية التي استبطنها التنويريون أثناء عملية الاستقبال والمواءمة.
1-مفهوم الجريمة والعقوبة وفلسفتهما في التصور التنويري العلماني:
بنى التنوير العلماني صرحه الفكري في هذا الباب على ركنين رئيسين:
الأول: نزع الدين عن أن يكون مصدراً للتجريم المدني.
الثاني: منع جريان العقوبات السلطوية على جرائم دينية.
في التصور العلماني: ليس اعتبار الدين الفعل جريمة بموجب لأن تعده السلطة السياسية جريمة، وليس كون الفعل جريمة من وجهة النظر الدينية بالموجب لإجراء العقوبة السلطوية على فاعله.
فالعلمانية بعد أن نزعت سلطات الكنيسة وخلعتها على دولة ملوك الحق الإلهي ثم على حكومات التعاقد ثم على الدولة/ الأمة بعد ذلك = أبت أن تجعل للكنيسة كممثل للدين أي شرعية في تعيين الفعل المجرم أو طلب إجراء العقوبة عليه؛ وكان ذلك متسقاً مع أمرين:
الأمر الأول: رغبة العلمانية في تقليص سلطات الكنيسة وتقليص الدين في نفوس الناس وتقليص المساحة التي يشغلها من وظائف الدولة؛ فإن وضع جهاز العقوبات المدني في خدمة الرسالة الدينية يتنافى مع المبدأ العلماني القاضي بفصل الدين عن الدولة.
الأمر الثاني: رغبة العلمانية في ترشيد الفعل السلطوي والأساس القانوني وإرجاعه للنظر العقلي في المصالح والمفاسد الوضعية، ونزع الدين عن أن يكون مكوناً من المكونات القانونية وموجباً من موجبات العقوبات السلطوية.
وفي النصوص التالية نستعرض كيف تطور هذا المفهوم في الفكر الغربي:
– صنف مارسيل البادواني أستاذ الفنون الأدبية ورئيس جامعة باريس في القرن الرابع عشر الميلادي كتابه «المدافع عن السلام»، وفي أحد نصوصه المهمة يقول: «يعود لسلطة الأمير وحدها، بمقتضى القوانين الصادرة عن المشترع البشري، حق إصدار الحكم الجزائي ضد الهراطقة وسائر من يقتضي ردعهم بالقصاص أو العذاب الزمنيين، كما يعود إليها الحق في إنزال عقوبة شخصية أو عينية بهم وتسريع تنفيذها».
– ويقول مارسيل: «إن السلطة لكي تتمكن من القيام بهذا الأمر إن كان مشروعاً يجب أن يكون بيد المشترع الإنساني وحده».
– ويقول مارسيل: «عندما يعاقب الأمير أحدهم فما ذلك فقط لأنه أخطأ ضد الشريعة الإلهية؛ فكثيرة هي الخطايا المميتة التي ترتكب ضد الشريعة الإلهية كالزنى مثلاً، وتتساهل فيها الشريعة البشرية عن علم وإدراك.. إن إنزال العقاب بالهرطوقي الذي يخل بالشريعة الإلهية أمر ممكن في هذا العالم إذا كانت الشريعة البشرية تحظر هذه الخطيئة أسوة بما عداها. إلا أن سبب العقاب المباشر في هذه الحالة أيضاً هو انتهاك الشريعة البشرية»[1].
في هذا النص المبكر المهم نجد تباشير الصلة بين العلمانية والتسامح العقابي بجعل مناط عقوبة المهرطق هو خرقه للشريعة الإنسانية لا انتهاكه للشريعة الإلهية، ومطالبته بنقل سلطة تلك العقوبة من الكنيسة إلى الملك، واحتجاجه بأشياء من الشريعة المسيحية لا تعاقب عليها الشريعة ليقيس عليها جنس الشريعة فلا يجعلها بمجردها مصدراً للعقوبة، وجميعها أفكار ستتناسل منها تصورات التنوير العلماني والتنوير الإسلامي بعد ذلك.
– يقول تودوروف: «إن أول سمة تكوينية لفكر الأنوار تتمثل في جعلنا نفضل ما نختاره ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا.. ينبغي الانقياد طوعاً للقوانين والقيم والقواعد التي يرغب فيها بالذات أولئك الذين هي موجهة لهم».
– وكان من لوازم هذا التأسيس العلماني للقوانين والتشريعات ألا يكون من مكونات مفهوم الجريمة وتكييف عقوبتها دين أو وحي؛ لذلك يواصل تودوروف عرضه لأسس التنوير العلماني قائلاً: «ولم يكن هذا البرنامج ليشمل السياسة فحسب، بل شمل كذلك العدالة؛ إذ غدت الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد»[2].
– وقد استوى هذا المفهوم تاماً حين عبر عنه جيفرسون بقوله: «لا تمتد السلطات المشروعة للحكومة إلا إلى تلك الأعمال التي تؤذي الآخرين فحسب، لكن لا يؤذيني في شيء أن يقول جاري إن هناك عشرين إلهاً، أو يقول لا يوجد إله قط؛ فلا هذه ولا تلك تسرق جيبي أو تكسر ساقي»[3].
2- استبطان المفهوم العلماني للجريمة في الفكر التنويري الإسلامي:
والحقيقة أن التنويريين في تأثرهم بمفاهيم حقوق الإنسان والتسامح الغربية وفي محاولتهم المواءمة بينها وبين الدين الحق؛ قد أضاعوا ثوابت من الدين ما أداهم إلى تضييعها سوى استبطان المفهوم العلماني للجريمة والذي لا يجعل الدين وتضييعه موجباً للعقوبة حتى يقترن هذا بالموجبات العلمانية للعقوبة من أذى الآخرين والاعتداء على حرياتهم وحصول الضرر الاجتماعي.
فالواقع أن العلمانية في صلتها بتطور الدولة القومية الحديثة نقلت علاقات الولاء والبراء وقيم الانتماء للجماعة والخروج عنها من الدين إلى مؤسسة الدولة القومية عبر مفهوم المواطنة؛ ونقلت لهذه الدولة الوظائف العمومية للدين، وأبطلت عقوبة المرتد مثلاً لكن تنقلها إلى عقوبة للخارج عن الدولة أو الخائن لها، ثم أبطلت العلمانية إقامة الشأن السياسي على التصورات المعيارية الدينية والأخلاقية؛ لتقيمه على أسس عقلانية إجرائية تعاقدية لا تعاقب إلا على قانون تم سنّه بهذه الآليات، وسنرى كيف ابتلع التنويريون العلمانية وكيف قلبوا مفاهيم الدين السابقة على مفاهيم الدولة الحديثة؛ ليجعلوا تشريعات الدين في عقوبات المرتدين وأصحاب الأقوال المحرمة مرتبطة بالولاء للدولة وحفظ استقرارها المجتمعي.
ويتجلى لنا هذا الطرح عند التنويريين باستعراض كلامهم التالي:
– يقول طارق السويدان[4]: «هناك فرق شاسع بين حرية التعبير التي أدعو وأؤمن بها، وبين حرية السب والشتم والاستهزاء، لأني تعريفي للحرية الذي أكرره دوماً (قول وفعل ما تشاء بأدب وبلا ضرر)، فإذا أساء الإنسان الأدب مع الله أو رسوله أو حتى مع الناس، أو استهزأ بدين الله أو المقدسات عندنا أو مقدسات غيرنا؛ فإن صاحب هذا الفعل ينبغي أن يعاقب لأنه تجاوز الحرية إلى الإساءة والضرر، سواء كان من المسلمين أو غيرهم.. وألخص رأيي بأنه على الصعيد العملي أعتقد أن للأنسان الحرية في أن يعمل ما يشاء ما لم يتجاوز ما اتخذه المجتمع من أنظمة تكفل أمنه واستقراره.
أما في مجال الفكر فلا أرى للحرية فيه حدود إلا الأدب وعدم الإيذاء اللفظي.
أما ما عدا ذلك فللإنسان أن يعبر عما بدا له من قناعات وإن خالفت قناعات المجتمع، بل وإن خالفت الدين السائد والمذهب القائم، وواجبنا أن نسمع له ونعمل على إقناعه بالدليل والبرهان لا بالتهديد والقانون»[5].
قلت: وهذه العبارات دالة على استبطان المفهوم العلماني الذي يجعل سب فلان وفلان، وإيذاء المجتمع، وتكدير الأمن العام؛ كل تلك جرائم تستحق العقوبة السلطوية، أما الإلحاد ففكر يقارع بالحجة فحسب!!
– يقول جاسر عودة: «هناك فرق في الشريعة بين الذنب أي الإثم أو المعصية التي يرتكبها الإنسان مخالفاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه وما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الجريمة التي قد تكون ذنباً، لكن الفرق بينها وبين الذنب أن الجريمة لها عقوبة مدنية»[6].
قلت: واستبطان المفهوم العلماني ظاهر جداً فيما طرحه جاسر عودة، وقد زاد عليه بسوء فهم غريب جداً؛ إذ ظن أن إجراء العقوبات التعزيرية يستلزم تقنينها مع ما يستتبع ذلك من عبء على الدولة.
ومع كون هذا ليس صحيحاً؛ بل طبيعة العقوبات التعزيرية القائمة على النسبية التقديرية والموازنة المصلحية تتأبى على التقنين؛ إلا أن تضخيم الأمر وجعله عبئاً على الدولة فيه مبالغة لا تتناسب مع التناسل اليومي للقوانين وزيادة أعباء الأجهزة التنفيذية في العالم من أجل قضايا تافهة واستدراكات عصبية لقصور التشريع الوضعي.
كما أن الدكتور عبر ست صفحات كاملة لم يذكر حجة شرعية واحدة، بل ظل يسطر الكلمات خلف بعضها في دعوى مجردة عن البرهان.
– يقول عبد الله المالكي: «الشريعة من جهة علاقتها بالسلطة والفعل السياسي تنقسم إلى قسمين:
(1) أحكام شرعية إيمانية فردية أخلاقية.
(2) أحكام شرعية إيمانية اجتماعية حقوقية.
فالقسم الأول لا يتصف بصفة قانونية حقوقية، ومن ثم لا يحق للسلطة التدخل في فرضه.. ومنشأ هذا التقسيم هو أن منطق الشريعة من الوجهة السياسية السلطوية يقوم على تمييز البُعد الفردي الأخلاقي من البُعد الاجتماعي الحقوقي.. كلها محل إلزام من حيث الديانة.. ولكن الفرق هو أن الأحكام الفردية الأخلاقية التزامها ذاتي فردي مبني على الاختيار الحر المنوط بالمسؤولية التكليفية أمام الله تعالى من دون إجبار أو إكراه سلطوي، ومن ثم فالمسؤولية فيها مسؤولية أخروية فقط، وأما الأحكام الاجتماعية الحقوقية فالتزامها قانوني مؤيد بسلطة الدولة ومؤسساتها التنفيذية ومن ثم فالمسؤولية فيها دنيوية وأخروية في آن»[7].
قلت: والحقيقية أن الشريعة بريئة من هذا التقسيم، وظاهر جداً التناص الذي يقارب التطابق بين هذا الكلام وبين الأساس التنويري العلماني الذي قرره تودوروف بقوله: «إذ غدت الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد»[8].
وقد نقل المالكي نقلين عن القرافي وابن تيمية في مسألة أخرى تماماً، وهي أن حكم الحاكم لا تعلق له بمسائل الفتيا تعلقاً يعين الصواب والحق فيها، ولا صلة لهذا المبحث بمسألتنا، والدليل على عدم تعلق كلامهم بمسألتنا ما يلي:
↵أولاً: أنهم ذكروا مسائل خلاف الفقهاء وأن حكم الحاكم لا يجعل أحد القولين صحيحاً، ومسألتنا ليست في تصحيح أحد القولين، وإنما في إمكان العقوبة على مخالفة الشريعة فيما سماه التنويريون أخلاقاً، وأكثر هذا لا تعلق له بخلاف الفقهاء، بل هو من المسائل المجمع على حرمتها، وليس في كلام القرافي وابن تيمية منع الحاكم من العقوبة على مخالفة المجمع عليه، بل في كلامهم النص على جوازها.
↵ثانياً: أن القرافي بيّن مقصده من كلامه في نفس الموضع الذي ينقل المالكي منه وهو قوله: «ويلحق بالعبادات أسبابها وشروطها وموانعها المختلف فيها، لا يلزم شيء من الأحكام المترتبة على اعتبار أحدها من لا يعتقده، بل يتبع مذهبه في نفسه ولا يلزمه قول ذلك القائل بحكم الحاكم به».
فدل ذلك قطعاً على أن القرافي يتكلم في مسألة أخرى لا تعلق لها بما نحن فيه، وبينة ذلك القطعية أن المالكي قرر أن الزكاة وأخذها هو من أحكام الحقوق المجتمعية، والقرافي هنا يُدخل العبادات في كلامه، فهل يقصد القرافي أن ولي الأمر لا دخل له بجمع الزكاة، أم يقصد أن اختيار ولي الأمر إيجاب الزكاة في الحلي (مثلاً) لا يعين أن هذا هو الحق ويوجب بذلك على الناس تغيير مذاهبهم؟
لا ريب أن مراد القرافي هو الثانية، ومنها ننتقل إلى ما يقطع الجدل كله وهو سؤال:
هل إذا اختار الحاكم إيجاب زكاة الحلي وأراد جمعها من الناس، هل يقصد القرافي وابن تيمية أن ليس للحاكم فعل ذلك؛ لأنها مسألة خلافية؟
الجواب لا؛ إذاً لا تخلو مسألة اجتماعية حقوقية (بتصنيف المالكي) من خلاف فقهي ولو كان مراد القرافي وابن تيمية عدم التدخل في الخلاف الفقهي لانسد على الحاكم التدخل في كل شيء حصل فيه خلاف وامتنع عليه اختيار قول يُمضى به القضاء، وهذا باطل لا يقول به فقيه قط، ومراد الرجلين هو عدم صلاحية اختيار الحاكم لتعيين الحق وقمع الفتيا المخالفة، وليس عدم صلاحية اختيار الحاكم لإمضاء القضاء والتصرف السلطوي على مقتضاه، لا فرق في هذا بين خلقية أو اجتماعية، وليس هذا هو مورد القسمة في كلام الشيخين أصلاً، بل مورد القسمة عندهما في التفريق بين الفتيا وأن اختيار الحاكم لا يقضي عليه، سواء في الأخلاق أو الحقوق، والتفريق بين ذلك وبين الفعل السلطوي وأن تأثير اختيار الحاكم فيه لا جدال فيه لا يفرقون في ذلك بين أخلاق وحقوق.
↵ثالثاً: أن كلام ابن تيمية في الموضع المنقول كان في سياق اعتراضه على رفع كلامه في الواسطية لابن مخلوف القاضي، وليست هذه من مسائل القضاء، ولا علاقة لهذا كما ترى بتفريق بين خلقية وحقوقية كما يتوهم المالكي.
ثم إن أكثر كلام ابن تيمية في هذه المسألة كان عطفاً على قوله في الطلاق ثلاث وإرادة بعض الفقهاء منعه من الفتيا فيها لأن فتياه على غير اختيار الحاكم، وهذا يدل دلالة قطعية على بطلان فهم المالكي لكلام ابن تيمية، وذلك لسببين:
- الأول: أن هذه المسألة من مسائل الحقوق في تقسيم المالكي فيلزم المالكي على فهمه أن ابن تيمية يقصد منع تدخل الحاكم بسن قانون في الطلاق مبني على اختياره من أقوال الفقهاء، وهذا باطل لا يقول به المالكي.
- الثاني: أن ابن تيمية مقرٌّ بأحقية الحاكم في فرض قانون مبني على اختياره في الطلاق، وإنما نزاع ابن تيمية في احتجاج خصومه بذلك على منعه من الفتيا؛ فكلام ابن تيمية كله في الفتيا وأن اختيار الحاكم لا يقيدها وليس في أن اختيار الحاكم وتصرفه مقيد.
↵وخاتمة الاحتجاج ها هنا: أن عبد الله المالكي لو أتم نقل كلام ابن تيمية سيجده في الصفحة المقابلة للصفحة التي فيها هذا الكلام يُتم كلامه فيقول: «والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين: إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة لقوله تعالى {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وإذا تنازعوا فهم كلامهم: إن كان ممن يمكنه فهم الحق فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه وأن يقر الناس على ما هم عليه، كما يقرهم على مذاهبهم العملية؛ فأما إذا كانت البدعة ظاهرة – تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة – كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية، فهذه على السلطان إنكارها؛ لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك، ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئاً – عند الجهال – لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة»[9].
وهذا نص قاطع في عدم التفرقة بين شرائع الدين في إمكانية التدخل السلطوي، وأنا أعقد خلوة شرعية بين هذا النقل وبين أخي عبد الله المالكي، فليس بعد دلالته مجال لاحتجاج ولا متسع للجاج.
↵وثم خطأ آخر وقع فيه المالكي في هذا الموضع وحاصله:
أنه لما أراد الاحتجاج للتفريق العلماني بين جرائم الحق العام وبين الحريات الفردية في ارتكاب ما يحرمه المقدس = أورد نصوص الفقهاء في عدم جواز التجسس وتتبع العورات، وموضع الغلط هنا: أن الفقهاء يحرمون التجسس، ولكنهم لا يقولون بأن الجريمة المستورة لا يعاقب عليها صاحبها إن تم كشفها بغير تجسس كالإقرار (ماعز والغامدية) مثلاً، أو انكشاف ستر من غير تجسس كما في واقعة الزنا التي سيقت لأمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه -.
ويلزم المالكي أن يمنع عقوبة من أقر على نفسه بشرب الخمر؛ لأنه في تصوره إنما شربها في بيته ولم يقتحم بها المجال العام!
فالمالكي جعل منع التجسس منعاً للعقوبة السلطوية، والواقع أنه لا تلازم بينهما؛ لأن منع التجسس هو إبطال لطريق معين لإثبات التهمة وليس إبطالاً لجنس طرقها، ولذلك إن ثبتت الجريمة التي تكون داخل البيت بطريق شرعي = عوقب فاعلها.
وإنما جره إلى هذا استبطانه للتصورات التنويرية العلمانية الغربية في العقوبات؛ ففرق بين الأخلاق والحقوق المجتمعية، ثم فرق بين المجال الفردي والمجال العام، وكل هذه التفريقات مصادمة لنصوص الشريعة القطعية وغاية ما مع المالكي فيها هو أفهام بينت الخطأ لكلام الفقهاء، وهي الإشكالية الشائعة في الطرح التنويري.
والحقيقة أن هذا التصور ينافي تماماً الدين الحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكل معصية جعلتها الشريعة معصية وقدرت استحقاق فاعلها لعقوبة أخروية = هي جريمة يجوز التدخل السلطوي للعقاب عليها إن كان العقاب السلطوي هو الأصلح[10]؛ فالأساس في اعتبار الفعل جريمة في نظر الإسلام هو مخالفة أوامر الدين[11]، والأساس في العقوبة على ما ليس في العقوبة عليه نص هو رجحان المصلحة الشرعية.
ولعلي أختم بمثال من سياسة الفاروق عمر أوشك أن يعاقب فيه على تصرف غير أخلاقي لحق ديني هو حق مسجد رسول الله، ولم يمنعه إلا احتمال جهل الرجلين وعدم تفقههما:
عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَضَرَ رَجُلٌ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. فَذَهَبْتُ، فَجِئْتُ بِهِمَا فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ مَا فَارَقْتُمَانِي حَتَّى أُوجِعَكُمَا جَلْدًا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم![12].
تابع ⇐ الجزء الثاني
[1] النصوص بواسطة: (( تاريخ التسامح في عصر الإصلاح))، جوزيف لوكلير، نشر: المنظمة العربية للترجمة.
[2] (( روح الأنوار))، تزفيتان تودوروف، (ص/15-17).
[3] (( عصر التنوير))، ليود سبنسر، (ص/130).
[4] (( أصول الشرائع))، للنتام، (ص/307).
[5] أختار حذف الألقاب من كلامي اختصاراً مع حفظ مقامات أصحابها؛ فأرجو ألا يُفهم من حذفها إرادة تنقص.
[6] بيان موجود على صفحته في الفيس بوك.
[7] (( بين الشريعة والسياسة)) (ص/93-98)، نشر: الشبكة العربية للأبحاث.
[8] (( سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة)) (ص/67-68)، نشر: الشبكة العربية للأبحاث.
[9] (( روح الأنوار))، تزفيتان تودوروف، (ص/15-17).
[10] (( مجموع الفتاوى)) (3/239).
[11] انظر: ((الجريمة)) لمحمد أبي زهرة (ص/25).
[12] «صحيح»، أخرجه ابن شبة في «تاريخ المدينة» (1/ 33) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ومن طريقه البخاري في صحيحه (رقم/ 470) عن الْجَعْدُ (وقد يصغر) عن يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ به.