معتقدات

المضمون العَلماني في الاتجاه التنويري.. المشروعية السياسية (ج3)

 (6) القطعيات المهدرة في المفهوم التنويري للشرعية السياسية

إطار ضيق من الحق نراه نحن في رؤية التنوير الغربي للشرعية السياسية، يتحدد هذا الإطار في وجوب ألا يحكم المسلمين إلا من يرضونه، واختيار المسلمين لحاكمهم مؤطر في رؤيتنا بشروط وضوابط شرعية، كما أن المصلين الذين يحرم أن يؤمهم رجل وهم له كارهون[20] لا يجوز لهم اختيار إمام للصلاة لا يُحسن القراءة، وكما أن المرأة التي يجب استئمارها[21] فيمن ترضاه زوجاً لها لا يجوز لها أن تَنكح رجلاً ليس مسلماً.

فاختيار الناس لمن يحكمهم ليس قيمة مطلقة في الرؤية الإسلامية كما هو الحال في الرؤية التنويرية العلمانية، وإنما هو في الحقيقة مفردة قيمية خاضعة لإطار الوحي المقدس، فهي تحت مظلته وليست سلطة فوقية لها حرية الدخول تحت مظلته أو لا، فبمجرد اختيار الرجل أن يكون مسلماً صار خاضعاً بمجرد الإسلام للشريعة ومظلتها القيمية والتشريعية.

فالوحي هو مصدر كل شيء:

  • 1- مصدر التشريعات حتى في المسكوت عنه إنما يُشَّرِع المسلمون بإذن الوحي لهم أن يُشرعوا.
  • 2- مصدر السلطات؛ فكل سلطة لا تخضع للوحي ولا تُقيمه فهي فاقدة للشرعية، وحتى اشتراط اختيار الناس لمن في السلطة إنما هو بنص الوحي على أن الناس هم من يختارون ولاة أمورهم.

فهل التنويريون في تلقيهم للمفهوم التنويري الغربي للشرعية السياسية قد تلقوه في هذا الإطار، أم أنهم قد تلقوا هذا المفهوم ومعه مضامينه العلمانية ما أدى لإفساد هذه المضامين العلمانية لأدواتهم الشرعية، ما أنتج إهداراً للقطعيات الشرعية؟

هذا ما سيُظهره بياننا للقطعيات المهدرة في طرح التنويريين[22]، لكن ننبه إلى شيء مهم:

وهو أن الحكم القطعي الذي يضيعه التنويريون قد لا يؤسس على أساس واحد، بل قد يؤسس على أكثر من حجة، والذي يهمنا هنا هو وجود حجة (اختيار الناس وإكسابه للشرعية السياسية) ضمن حجج القول الذي خالفوا به القطعيات ولو وجد غيره؛ فالذي يهمني أن يُذكر في حجج جواز تولي الكافر (مثلاً) أن هذا اختيار الناس المـُكسب للشرعية، مع إقراري بأنهم قد يذكرون حججاً أخرى معه.

أولاً: تجويز طرح الشريعة للتصويت:

الذي نراه أن ما يحدث في نظم الحكم القائمة في بلاد المسلمين من طرح الشريعة للتصويت؛ فعل محرم بنص القرآن القاطع: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].

ولا نرى بأساً من توجه المسلمين للإدلاء بأصواتهم فيها ولسان حالهم «نحن نصوت لتلك الشـريعة شهادة لله أن الحكم له خاضعين لحكمه وسلطانه داعين إياكم أيها المخالفين لمثل ما نحن فيه من الخضوع لشريعة الله».

وسواء تُصور أن الناس يمكن أن يختاروا غير الإسلام أم لا، فهذا خارج محل البحث، فالبحث في حكم طرح الشريعة للتصويت بقطع النظر عن نتيجة هذا الطرح كما أنه لا يجوز لك أن تطلب من رجل شرب الخمر ولو كنت تقطع أنه لن يشربها.

أما كثير من النخب التنويرية وتأثراً منهم بالمضامين العلمانية للتنوير الغربي، فقد جوزوا إخضاع الشريعة للتصويت وزعموا أن هذا هو مقتضى طلب رضا الناس عن الدين المضاد لإكراههم عليه المنهي عنه.

يقول عبد الله المالكي: «يكون المجتمع حراً في اختيار الأفكار والرؤى والمعتقدات التي يرى أنها هي الحق، أو في اختيار المرجعية والمبادئ التي تتأسس عليها قوانينه»[23].

وقد حاول المالكي أن يجمع بين هذه الحرية وهذا الحق الذي يقرره وبين أنه يرى الشريعة مهيمنة ملزمة وأن الناس يأثمون لو لم يختاروا الشريعة، وذلك بأن جعل الإرادة هنا جبلية (أي مجرد القدرة على أن يفعل وأن لا يفعل بقطع النظر عن حكم الفعل أو عدمه في الشرع)، وليست شرعية، والحق أنها كانت محاولة فاشلة، وذلك لسببين:

  • الأول: أن الإرادة الجبلية لا تُجعل قيمة، وإرادة الإنسان أن يقتل بريئاً هي إرادة جبلية ليس لها أي مضمون قيمي يُمدح، بينما الواقع أنه في بحثه يسوق حرية اختيار الشريعة مساق القيمة ويجعلها فضاء أمثل لتجسيد مبادئ الإسلام ويسوق شواهدها من نفس المدونة التنويرية الغربية التي تتعامل مع الإرادة كقيمة.
  • الثاني: أن محل النزاع هو في أن هذه الإرادة الجبلية (تصويت الناس على الشريعة) غير جائزة ولا يجوز التلبس بها ولا دعوة الناس إليها كأي إرادة جبلية تعارض الشريعة، وهذا ثابت لا ينفعه فيه التفريق بين التخيير الشرعي والتخيير الكوني، فالكفر الأصلي لا يُجبر صاحبه على تركه، لكنه غير جائز ولا ندعوه لممارسته.

والحقيقة أن هذا الخلط والضعف الاستدلالي إنما هو بسبب التضارب الشديد الذي يعانيه الفكر التنويري في عملياته التوفيقية بين المنظومة التنويرية العلمانية وبين الإسلام، فرغم المحاولات الجهيدة تظل العلمانية كامنة في محاولاتهم هذه تُطل برأسها من تحت آباطهم، سلمهم الله من لدغاتها المميتة.

ثانياً: القول بعدم جواز إنفاذ الشريعة في الناس بالقوة ولو أُمنت المفسدة[24]:

الذي نراه هو مقتضى الشريعةِ نصاً وإجماعاً أن إقامةَ كتابِ الله في الناس واجب شرعي، وأن هذه الإقامةَ تكون بالنصح والبيان، وتكون أيضاً بالجهاد والسنان، وأن استعمالَ القوةِ واجب ضد من امتنع عن تحكيم الشريعةِ، سواء كان حاكماً فرداً أو أغلبيةً تصويتية، بشرط توافر القدرة وأمنِ المفسدة الغالبةِ، فإن أي سلطة حاكمة شرطُ مسالمتِها هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أقام فيكم كتاب الله[25]. وقد اتفق الفقهاء على أن من منع شريعة من شرائع الله يُقاتل لمنعه لها، قال مالك: «الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقاً عليهم جهادُه حتى يأخذوها منه»[26].

ويقول شيخ الإسلام: أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، فلو قالوا: نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر؛ فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعاً، كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة»[27].

ولذلك قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال[28]. فجعل المنوط هو التفريق بين شرائع الله في الاستجابة لها. وصريح قوله أنهم لو منعوا الصلاة لقاتلهم، فدل ذلك على عدم تعلق القتال بالإمامة والسياسة، ولذلك نص الفقهاء على القتال على المندوبات المتواترة وليس فيها حق للإمام.

وأبو بكر نفسه يحتجون بخطبته عند تولي الخلافة ولكن يغفلون عن تأسيسه الأصيل لمصدر الشرعية السياسية وهو قوله رضي الله عنه: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»[29].

وهل اختيار الناس لنظام حكم يُضيع الشريعة يُعد طاعة لله ولرسوله؟!

وحكم الله إنما ينعقد وجوبُه وإلزاميتُه بمجرد كون الرجل مسلماً، فليس قتالُ الناس للالتزام به إكراهاً على الدين، وإنما هو عقوبة لهم على عدم التزام الدين الذي سبق وآمنوا به، ولذلك في حديث بريدة في جهاد الغزو: «ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ»[30].

فتأمل كيف كان عدم قبول أولئك الذين أسلموا لأن يُجرى عليهم حكم الإسلام كان موجباً للجزية أو لقتالهم، ولم يقبل منهم رسول الله أن يُسلموا دون إجراء حكم الإسلام عليهم.

ومن هنا تعلم خطأ الاستدلال بآيات منع الإكراه أو أحاديث التعليق على الطاعة في جهاد الغزو[31]؛ لأن هذا الاستدلال:

  • أولاً : فيه غفلة عن أن هذه الأدلة هي في حق غير المسلمين والبحث إنما هو في إلزام المسلمين بمقتضى عقد الإسلام المستلزم عدم التفريق بين شرائع الله في وجوب الاستجابة لها وأن للإمام مقاتلة من منعها.
  • ثانياً : أن هذه الأخبار ليس فيها أن أولئك المغزوين لو لم يجيبوا ويطيعوا أنهم يتركوا، بل فيها النص على إلزامهم بالجزية أو قتالهم، وعلى أنهم لو أسلموا يُجرى عليهم حكم الإسلام وجوباً بمجرد إسلامهم.

ويقول شيخ الإسلام: «فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله {وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وقال تعالى للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه، ففي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه»[32].

وهذا التقرير لا يتسق بالطبع مع ما قررته النخب التنويرية من استمداد الشرعية السياسية من اختيار الناس؛ فكانت السلطة التي اختارها الناس شرعية ولو كانت تحكم بغير الشريعة، وكانت القوانين التي اختارها الناس شرعية ولو كانت وضعية على خلاف شريعة الوحي.

يقول يوسف القرضاوي: «لا علاج لهذه الأمة إلا بالحرية.. وأنا قلت في بعض برامجي إنني أقدم الحرية على تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأنه لا يمكن أن تطبق الشريعة الإسلامية والحرية مفقودة، فإذا اختار الناس الشريعة طبقناها عليهم، وإذا رفضوها، نتجه لتعليم الناس ودعوتهم حتى يختاروا الشريعة»[33].

يقول سعد الدين العثماني: «من جهة أولى لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض قانون على المجتمع، وإذا كان الإسلام يقرر أن لا إكراه في الدين والذي يعني أن الإيمان نفسه لا يجوز إكراه أي كان – كذا – عليه، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دون الإيمان في شعائر الإيمان وشرائعه، ومن جهة ثانية فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه على الآخرين، فهو مكلف به ديناً، وذلك لا يكفي لجعله قانوناً عاماً في المجتمع، بل عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية، فلا يمكن أن تعطى سلطة أو يعطى حاكم حق فرض أحكام على الناس بأي مسمى كان، ويمكن أن يتساءل البعض ما هي الضمانة حتى لا يخرج الناس في تشريعهم عن محكمات الدين؟
والجواب بأن الضمانة هي الأمة التي قررت النصوص الحديثية أنها لا تجتمع على ضلالة، والاجتماع هنا التبني العام، أي لا تتبنى في عمومها ولا يتبنى أكثريتها ما هو مناقض للشريعة، لكنها إذا تبنت ذلك تأويلاً أو جهلاً فلا يمكن إلزامها بغير ما اقتنعت به»[34].

ويقول أحمد الريسوني: «لنفرض فرضاً أن شيئاً من هذه المخاوف قد وقع وظهر بديمقراطية حقيقية أن غالبية المسلمين في قطر من الأقطار قد اختاروا ما يتنافى مع الإسلام وما يعد خروجاً عن الإسلام، فهل العيب في الديمقراطية أم العيب في الواقع القائم؟
فليست الديمقراطية هي التي أتتنا بهذا العيب، وإنما الديمقراطية كشفت لنا هذا العيب، فهذا سبب لشكر الديمقراطية والتمسك بها وليس سبباً لرفضها والقدح فيها واتهامها.
فإتاحة الفرصة للناس ليعبروا تعبيراً حراً عما في نفوسهم وعما في عقولهم، سواء سمي ديمقراطية أو سمي بأي اسم آخر، إنما تكشف لنا الحقيقة وتتيح لنا معرفة الحقيقة، فهل هناك أحد ضد كشف الحقيقة وضد معرفة الحقيقة.
ليس من الإسلام وليس في مصلحة الإسلام ولا في مصلحة المسلمين، أن نقيم على الناس دولة إسلامية ليست نابعة من قلوبهم، وأن ننفذ عليهم قوانين هم لها كارهون»[35].

ويقول راشد الغنوشي: «نعم نقبل ولو جاءت الانتخابات بأشد خصومنا العقائديين، نحن نقبل حكم الشعب، نثق بوعي شعوبنا وبأنها لن تختار إلا ما يرضي الله والرسول، وإذا اختارت غير ذلك فليس أمامنا سوى أن نقوم بتوعيتها حتى تغير رأيها»[36].

ثالثاً: تجويز أن يكون رئيس الدولة كافراً:

لما تأثر التنويريون الإسلاميون بالمفهوم التنويري الغربي العلماني للشرعية السياسية، جرهم هذا إلى سؤال هو من مقتضيات المواطنة بمفهومها العلماني ومن مقتضيات المفهوم العلماني عن شرعية اختيار الناس، وهو: ماذا لو اختار الناس غير مسلم لحكم بلاد المسلمين؟

الحق أن هذا السؤال لا محل له من الإعراب لو كنا في الفضاء القيمي والمفاهيمي للدين الذي أوحى الله به إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون رسالة خاتمة مهيمناً على الأديان والفلسفات؛ ولذلك لن تجد قط تناولاً لهذه المسألة في الصدر الأول كغيرها من البديهيات التي لم يخطر ببالهم قط أن تنشأ بدع وضلالات تتكلم بها، فضلاً عن أن تزعم أنها لا تعارض الدين وتحتج لها بالوحي.

وحده الفضاء العلماني التنويري هو الذي ينزع الدين عن أن يكون مهيمناً على القيم السياسية المتداولة، ووحده الفضاء العلماني التنويري هو الذي طرح فكرة المواطنة كمنظومة ولاء بديلة عن الدين مما استتبع بعد ذلك إخراج دين أبناء الوطن الجغرافي الواحد عن أن يكون له أثر قانوني بالكلية.

ولما كان اختيار الناس وحده هو الذي يُكسب السلطة صفة الشرعية، لم يكن اختيار رجل غير مسلم لحكم بلاد المسلمين إلا اختياراً شرعياً من وجهة نظر التنويريين.

يقول محمد الشنقيطي: «تشترط العديد من دساتير الدول العربية أن يكون رأس الدولة مسلماً. وهو أمر يثير إشكالاً حول المساواة السياسية بين المواطنين، والأهم من ذلك أنه يجعل أساس العقد الاجتماعي الذي تتأسس عليه الدولة العربية المعاصرة ملتبساً.. الإمبراطوريات القديمة هي التي تحدد ديانة الدولة والشعب، لكننا لم نعد نعيش في عصر إمبراطوريات، ولم يعد من الخطر على الإسلام أن يكون رأس الدولة غير مسلم، لأن علاقة الدولة بالدين يحددها الدستور، لا عقيدة الرئيس أو ذوقه الشخصي. والناس اليوم على دين دساتيرهم لا على دين ملوكهم»[37].

قلت: وهذا تأسيس فاسد، ويلزم منه جواز أن تنكح المسلمة غير مسلم ما دمنا سنضمن في عقد الزواج أن يكون دين أولادها تبعاً لها.

وسبب هذا الفساد هو غفلة هذا الكاتب عن مقاصد التشريع في الولاية وقصوره عن معرفة علل جعلها في المسلمين، فهو يعجل إلى علة أو علتين ويزعم إمكان الحفاظ على مقتضاهما بالدستور.

ولا يُخبرنا هذا الكاتب بعد أن نولي غير المسلم هل نعد العدة للخروج عليه بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»[38].

وهل يا ترى هذا الكافر سيصلي صلاة المسلمين؟

فإن لم يُصلها، هل نعد العدة لمنابذته بالسيف امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئاً تَكْرَهُونَهُ، وقوله: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»[39]. فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَداً مِنْ طَاعَةٍ»[40].

قال القاضي عياض: «فلو طرأَ عليه كُفرٌ وتغيير للشَّرع، أو بدعةٌ، خرجَ عن حكم الولاية، وسقطَت طاعته، ووجب على المسلمين القيامُ عليه وخَلْعُه، ونصب إمام عادلٍ إن أمكنَهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفةٍ وجب عليهم القيامُ بِخَلع الكافر»[41].

وقال القرطبِيُّ: «الإمام إذا نُصِّب ثم فسَق بعدَ انبِرام العقد، فقال الجمهورُ: إنَّه تنفسخ إمامتُه ويُخلَع بالفسق الظَّاهر المعلوم»[42].

فإن كان هذا قولَهم في حاكمٍ له ولاية وبيعة، ثم طرأ عليه الكفر أو الفِسق، فكيف بكافرٍ أصلي لا بيعةَ له ولا ولاية؟ كيف يَستقيم في شرعٍ أو عقل أن تُعطى الولاية وحكم المسلمين ابتداءً لكافرٍ أصلي؟

رابعاً : القول بأن السلطة السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته بوصفه إماماً، لا ترتكز على مجرد النبوة، بل كانت ناجمة عن عقد بيعة على الإمامة مستقل.

تشكل الإمامة السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم تحدياً كبيراً لمفهوم الشرعية السياسية الذي أخذه التنويريون من التنوير الغربي العلماني، والسبب في ذلك أن الذي نقرره نحن أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام من حيث هو نبي لا تفتقر إمامته ووجوب طاعته السياسية لاختيار الناس له كإمام، وأن أثر ذلك فيمن يخلفه خلافة النبوة أن تظل إقامة كتاب الله ووراثة النبي في إقامة الشريعة في الناس هي أعظم مكونات الشرعية السياسية، وأن رضا الناس واختيارهم هو بعض إقامة كتاب الله وخاضع في الوقت نفسه لتقييد كتاب الله؛ فلا شرعية سياسية أو دينية خارجة عن سلطة الوحي.

فلما انتبه بعض التنويريين لهذا المعنى، اختلفوا في التعامل معه، فمنهم من جعل ولاية النبي صلى الله عليه وسلم من وظائف النبوة ولاه الله إياها مع النبوة، وأن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك محمد الشنقيطي.

وهذا مع كونه حقاً إلا أنه يتناقض مع تأسيس هذا القائل نفسه لمدنية الشرعية السياسية بعد ذلك؛ فالخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم سموا خلفاء نبوة؛ لأنهم خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة كتاب الله في الناس، فإما أن يسلم ذلك التنويري بهذا المعنى فينزع الشرعية عن كل سلطة لا تقيم كتاب الله في الناس، وإلا فلا يستقيم له القول بشرعية ولاية النبي صلى الله عليه وسلم بغير أن يؤسسها على عقد مدني منفك الصلة عن النبوة ومعانيها، وإلا فمتى أبقى النبوة في الإمامة وجب عليه أن يُبقي خلافة النبوة ووظائفها في الإمامة.

والقولُ بالآخر للتنويريين: هو أن إمامة النبي السياسية مؤسسة على عقد مدني، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استحق الطاعة السياسية بموجب هذا العقد لا بموجب النبوة، هو ما ذهبت إليه طائفة أخرى من التنويريين ليطرد لها قولها في مدنية السلطة السياسية وتأسيس شرعيتها على اختيار الناس فحسب[43].

يقول لؤي صافي: «شكلت بيعة العقبة التي أعلنت ولادة الأمة، الأساس العقائدي الذي حدد التزامات قيادة الأمة المتشكلة والمتمثلة بالرسول القائد صلى الله عليه وسلم، كما حدد التزامات القاعدة المتمثلة بالأنصار، وأسس العقد الرئاسي الذي تمخضت عنه بيعة العقبة حدود السلطة السياسية المنوطة بالقيادة وحدود واجب الطاعة والنصرة المنوط بالقاعدة، ما حدا برسول الله إلى الإلحاح في طلب دعم الأنصار وتأييدهم لقرار الحرب في معركة بدر قبل إنفاذه؛ لعلمه بوقوع القرار خارج حدود التزامات الأنصار في بيعة العقبة»[44].

ويكفي في إبطال هذا القول ثلاث حجج:

  • 1- عدم البينة على استقلالية بيعة النبوة عن بيعة الإمامة.
  • 2- يلزم من قولهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بيعة مثلها مع المهاجرين ولا بينة عليه.
  • 3- ما تقدم في حديث بريدة من إيجاب إجراء أحكام الإسلام وشرائعه بمجرد الإسلام ولم يدعهم إلى بيعة جديدة على الإمامة.

 وأختم بهذا النص الجامع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والذي يعبّر بأحسن عبارة عن المفهوم الحق للشرعية السياسية:

«وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته، طاعة الله ورسوله لا له، وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة، فيأمر بما يأمر، ويحكم بما يحكم، انتظم الأمر بذلك، ولم يجز أن يولى غيره، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله، إنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به، والنهي عما نهى عنه، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب الطاعة، كما لم يطع أمره في حياته طاعة ظاهرة غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره.

فالدين كله طاعة لله ورسوله، وطاعة الله ورسوله هي الدين كله، فمن يطع الرسول، فقد أطاع الله، ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله، وطاعتهم لولي الأمر فيما أمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به، وقسمه وحكمه، هو طاعة لله ورسوله، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها، كلها طاعة لله ورسوله، ولهذا كان أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

فإذا قيل: هو كان إماماً، وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة، أو إمامة تعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول؛ فهذا كله باطل، فإن كل ما يطاع به داخل في رسالته، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله، ولو قدر أنه كان إماماً مجرداً لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر، فالطاعة إنما تجب لله، ورسوله، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم»[45].

خلاصة

تأسَّس في الفضاء العلماني لعصر الأنوار مفهوم الشرعية السياسية القائم على مركزية رضا الناس واختيارهم في عملية إنشاء الدولة وتحديد غرضها وإصدار قوانينها، وكان ذلك التأسيس سعياً للتخلص من قبضة الوحي والكنيسة، فأتى التنويريون الإسلاميون فأغشت عيونهم منظومة الحقوق المدنية التي كافح بها عصر الأنوار سلطة الكنيسة، وما صحب تلك المنظومة من أدوات إجرائية، ورأوا أنها مما تنفعهم في صراعهم مع السلطات المستبدة، غافلين عن المضامين العلمانية التي ترتكز عليها منظومة الحقوق والأدوات هذه، فكان لا بد أن تقود هذه الغفلة عن تلك المضامين العلمانية إلى تضييع قطعيات من الشريعة لا يريد التنوير الغربي أصلاً سوى تضييعها وعقلنة الأداء السياسي كله وفك ارتباطه بأي منظومة قيمية متجاوزة ترتكز إلى وحي مقدس؛ فتبعهم إخواننا هؤلاء في تضييعها، محتجين لذلك التضييع بالوحي المحرف، وقد أوشك طرحهم أن ينقلب علمانياً خالصاً لا تحول بينه وبين العلمانية سوى بقية من مفاهيم الدين الحق لدى التنويريين لم تصل إليها بعدُ معاول تحريف نصوص الشريعة لصالح مفاهيم الحداثة السياسية.

الجزء الأول ـ الجزء الثاني

[20] ورد النهي عن إمامة من له كارهون، ولا تخلو الأخبار فيه من مقال، وقد اعتمدها الشيخ الألباني رحمه الله ، فانظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم/ 650، 2325).
[21] أخرجه البخاري (رقم/ 5136، وأطرافه فيه) واللفظ له، ومسلم (رقم/ 1419) من حديث أبي هريرة مرفوعا: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ».
[22] وظاهر جداً أننا لا نزعم حصول تضييعها من كل تنويري.
[23] «سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة»، عبد الله المالكي، (ص/123)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[24] واستتبع ذلك تضييعهم لجهاد الغزو المشروع بالنص والإجماع، لكن يضيق المقال ها هنا عن تحرير القول فيه.
[25] أخرجه الإمام أحمد (4/ 70، وغيره) واللفظ له، ومسلم (رقم/ 1298)، وأبو داود (رقم/ 1834)، والترمذي (رقم/ 1709) وصححه، وابن ماجه (رقم/ 2861) من حديث أم الحصين.
[26] «الموطأ» (ص/ 269 كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها ).
[27] في «مجموع الفتاوى» (28/ 469، 470) بتصرف واختصار، وانظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 51، 28/ 308، 502، 556)، و«الفتاوى الكبرى» (2/ 32، 3/ 473، 5/ 529)، و«مختصر الفتاوى المصرية» (ص/ 167، 468).
[28] أخرجه البخاري (رقم/ 1400، وأطرافه فيه)، ومسلم (رقم/ 20) من حديث أبي هريرة.
[29] انظر: «تاريخ الطبري» (3/210).
[30] أخرجه مسلم (رقم/ 1731)، وأبو داود (رقم/ 2614)، والترمذي (رقم/ 1617)، وابن ماجه (رقم/ 2858) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب، وفي سماع سليمان من أبيه خلاف، والراجح سماعه، والله أعلم.
[31] كما فعل نواف القديمي في «أشواق الحرية» (ص/62).
[32] «مجموع الفتاوى» (28/364).
[33] برنامج الشريعة والحياة على فضائية الجزيرة بواسطة: «أشواق الحرية» (ص/69).وها هنا تنبيه مهم حاصله: أن بعض النصوص التي تنقل عن سياسيين ومفكرين – خاصة من السلفيين – فيها قبول نتيجة الديمقراطية ولو أتت بما يخالف الشريعة = يكون المقصود بها تقرير مقتضى العجز الحاصل وليس تقريراً لما ينبغي أن يكون لو وجدت القوة، ومثله ما يصدر عن بعض السياسيين في البلاد التي دارت فيها عجلة الديمقراطية بعد الربيع العربي مما يراعون في صياغته تجنب التشنيع عليهم خاصة والاتفاق حاصل على أن حصول القوة التي تلزم الناس بالشريعة لا يبدو ظاهراً في الأفق خاصة مع إكراهات وشروط الواقع الدولي؛ فلا ينبغي إذاً أن يحمل أي نفي لإلزام الناس بالشريعة على أنه مؤسس على الأصول التنويرية للشرعية والإلزام.
[34] «الدين والسياسة تمييز لا فصل» (ص/ 40-41 ).
[35] «الشورى في معركة البناء»، أحمد الريسوني، (ص/170).
[36] «تجربة نضال – حوارات مع راشد الغنوشي» (ص/264)، مركز الناقد الثقافي.
[37] مقال له على موقعه بعنوان: الناس على دين دساتيرهم.
[38] أخرجه مسلم: «1709».
[39] أخرجه مسلم: «1854».
[40] أخرجه مسلم: «1855».
[41] «شرح صحيح مسلم» للنووي (6/ 314).
[42] «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 271).
[43] وبعض الكتاب قال بهذا القول الباطل من حيث أراد تعظيم اختيار الناس للحاكم لا من حيث أنه يمنع أن تكون إقامة كتاب الله مكوناً للشرعية السياسية كالدكتور حاكم المطيري في «تحرير الإنسان» (ص/166).
[44] «العقيدة والسياسة»، لؤي صافي، (ص/ 244)، دار الفكر.
[45] «منهاج السنة»(1/84-85).

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى