جسور حضاريةمسرح وسينما

الفرنكوفونية والسينما العربية.. أقنعة استعمارية ورسائل سلبية

تحمل الفرنكوفونية شعارات أيديولوجية قوامها نشر الحداثة والتنوير الفرنسي، بوصفها نموذجاً ينبغي احتذاؤه في التقدم الحضاري؛ وهو ما أكده مفهوم الفرنكوفونية الاصطلاحي الذي يقرر أنها تمثّل تيّاراً ثقافياً نودي به في أعقاب استقلال البلاد التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي بقصد الإبقاء على الصلات الثقافيّة المشتركة المتمثّلة في تعزيز نشر اللغة الفرنسيّة وثقافتها، ثم تطوّر الأمر لتأسيس منظّمة فرنكوفونية جامعة(1).

يتفرع عن منظمة الفرنكوفونية عشرات المؤسسات والجهات الداعمة للثقافة الفرنسية على مستوى العالم، لمواصلة تعميم اللسان الفرنسي بمؤسسات التعليم في المستعمرات الفرنسية السابقة، حيث تشير الدراسات إلى أن النخب الوطنية الفرنكوفونية في السلطة كانت خير معين في تطبيق سياسة الفرنسة؛ فتحقق لفرنسا في عهد الاستقلال ما لم يتحقق لها في عهد الاستعمار.

كما رعت الفرنكوفونية مشروعات ثقافية وفنية وأدبية لترويج أيديولوجيتها، عبر دعمها لشرائح واسعة من المثقفين والمفكرين الوطنيين الذين هم فئات متفرنسة تغريبية في بلادهم؛ أملاً في صنع ما يُسمّى «الفضاء الناطق بالفرنسية»، الذي يحتضن كل من ينتمي إلى الثقافة الفرنسية، خاصة في الدول التي استعمرتها فرنسا، وسعت لمواصلة هيمنتها الاستعمارية على صعيد الفكر والثقافة، بنشر الآداب والفنون الفرنسية، مع ترجمتها إلى اللغات المحلية.

من الثقافة إلى السياسة

كما تطورت الفرنكوفونية من البعد الثقافي والرابطة اللغوية لتتخذ أبعاداً سياسية وفكرية واقتصادية(2)، وتكرّست تلك التوجّهات بشكل أكبر تأثيراً، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، خاصّة بعد بروز الولايات المتّحدة كقطب أوحد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق حينما شعرت فرنسا بتحدٍّ كبير أمام العولمة الأمريكية، والاستعلاء الأنجلوفونيّ مع السيادة شبه التامّة للغة الإنجليزيّة عالمياً في شتّى مجالات الحياة، التي عزّزتها ثورة المعلومات والشبكة العنكبوتية(3)، فتوسعت أنشطتها لتشمل الهجوم على النموذج الأمريكي، بوصفه نموذجاً إمبريالياً ورأسمالياً قميئاً، لا يرتكز على إرث ثقافي وفكري رفيع مثل النموذج الفرنسي.

ومن ثم دعّمت الفرنكوفونية مشروعات فكرية وثقافية وسينمائية عديدة في الدول المنضمة الأعضاء، عبر برامج واسعة تضم عدداً كبيراً من العاملين الفاعلين، الذين يحصلون على مزايا مالية وتكريمية عالية، وتستهدف -كما يقول عبدالإله بلقزيز- اغتصاب اللسان الوطني (العربي)، ومسخ الشخصية الثقافية، وتزوير الذاكرة الجماعية، وتنمية المثقف الوطني المتغرب المستلَب ثقافياً، كي يدافع عن الثقافة والتنوير الفرنسي، والدخول في مواجهة مع أبناء جلدته منتصراً للفرنسة(4).

فعملت الآلة الفرنكوفونية على إستراتيجية التغريب الثقافي والفكري، ومواصلة المشروع الاستشراقي المضاد للهوية العربية الإسلامية، والترويج لأنماط الثقافة الفرنسية، وتصوير فرنسا على أنها بلد كمال الحضارة والتقدم والمعرفة، واحتقار قيمنا الأخلاقية، ومحاربة التيارات الإسلامية، وإعلاء المنظومة السلوكية والأخلاقية الأوروبية، مثل حقوق المرأة بالمفهوم الغربي، وتشجيع العلاقات خارج الزواج، والتعاطف مع المثليين والأمهات اللائي لم يحصلن على زواج شرعي؛ وتقديمهم على أنهم فئات مضطهدة اجتماعياً، ومثلهم كذلك الملحدون والعلمانيون، وتبدّى كل ذلك واضحاً في برامج دعم السينما الموجهة في العالم العربي، مثل الأفلام السينمائية في المغرب العربي (تونس، والجزائر، والمغرب)، وموريتانيا، ومصر، ولبنان، ناهيك عن الدول الأفريقية المسلمة، مثل السنغال، ونيجيريا، وتشاد، والنيجر.

ولعل خير شاهد على ذلك الفنان المصري حسين فهمي (عندما تولى رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي، وقد رفض عرض أفلام يوسف شاهين)، فقد ندد بتمويل بعض الأفلام العربية من جانب وزارة الثقافة الفرنسية، وهو ما يكون ملوثاً مسيئاً للمجتمعات العربية، سواء أكان في مصر أم في المغرب العربي، حيث تمجد هذه الأفلام الحياة في فرنسا وتقدمها كأنها حلم لكل شاب، بل ويتم دفعها إلى المهرجانات حتى تحصل على جوائز، مستشهداً بتمويل فرنسا لفيلم تونسي يحلم فيه البطل بالسفر إلى باريس، وأيضاً فيلم مغربي يحكي قصة سبعة شبان مغاربة يفضلون العيش في غرفة بباريس بدلاً من العودة إلى بلادهم(5)، بما يعني أن الشباب العربي يحتقر وطنه، وبدلاً من أن يساهم في تنميته والانتماء له؛ يحلم بالهجرة –أو الفرار- إلى فرنسا المتحضرة، ويتباهى بثقافتها الراقية.

شاهين.. والفرنكوفونية

إن القضية ليست فيلماً أو بعض أفلام، إنما هي سياسة فرنكوفونية ثابتة، فهناك عدد من المخرجين العرب ارتبطوا ثقافياً وفكرياً بالمشروع الفرنكوفوني في أعمالهم، وحصلوا على دعم مؤسساته، ويأتي في مقدمتهم المخرج المصري يوسف شاهين (1926 – 2008م)، الذي تولى ابن شقيقته المنتج الفرنسي «جابي خوري» إنتاج أفلامه، بمشاركة المنتج الفرنسي «أمبير بالزان»، بوصفه مندوباً عن الفرنكوفونية، وقد أنتج الاثنان معظم الأفلام في العقدين الأخيرين من حياة شاهين، كما ضمنا له عرضها في عشرات من دور السينما بفرنسا، بعد دبلجتها بالفرنسية، كما أن مؤسسات الفرنكوفونية كانت تشترط تزكية مسبقة من يوسف شاهين، من أجل تمويل أي أفلام لمخرجين آخرين(6)، وكأن شاهين صار عرّاباً للسينما الفرنكوفونية في مصر.

وإذا نظرنا لأفلام شاهين خلال عقد التسعينيات وما بعده، سنجد أنها تغازل في مضمونها ورسائلها الرؤية الفرنسية للعالم، المعادية للعولمة والأمركة، والرافضة للهويات العربية الإسلامية، حيث ترى أن التقدم للمستعمرات الفرنسية السابقة ينبغي أن يكون وفق النموذج الفرنسي لغوياً وفكرياً وقيمياً وأخلاقياً وحضارياً، وبالطبع فإن هذا لا يحمله كل فيلم، وإنما يكفي أن يدور الفيلم حول موضوع بعينه، ضمن هذه الدائرة الفكرية والقيمية المتفرنسة.

فمثلاً، فيلم «إسكندرية نيويورك» (2004م)، أنتجه يوسف شاهين بدعم فرنسي، وهو الفيلم الرابع في سلسلة أفلامه عن سيرته الذاتية («إسكندرية ليه»، «حدوتة مصرية»، «إسكندرية كمان وكمان»)، وفي هذا الفيلم تبدو أمريكا بلداً عنصرياً متعالياً، ويقع يحيى، بطل الفيلم -خلال دراسته للسينما- في حب زميلته جنجر، ثم يتركها ويعود إلى مصر، وفي إحدى زيارته للولايات المتحدة تعود إليه ثانية، على الرغم من أنها كانت متزوجة، ثم يغادرها يحيى عائداً لمصر، وعندما يرجع بعد عشرين عاماً، تخبره أن لها ابناً منه (غير شرعي) يدعى إسكندر، يعمل راقص باليه، وهو نجم شهير في فرق الباليه الأمريكية، فيتفاجأ يحيى، ويعمل على التقرب من ابنه، الذي ستخبره أمه بحقيقة أبيه، يرفض الولد الالتحاق بنسب أبيه؛ لأنه عربي، ويرفض العودة معه إلى مصر، فالعالم عنده أمريكا فقط، وسائر العالم لا قيمة له.

إن الرؤية الفرنسية جلية في الفيلم، حيث تظهر المرأة الأمريكية شبقة جنسياً، والشعب الأمريكي متعجرفاً؛ يحتقر شعوب الأرض بمن فيهم العرب، كما أن الأمريكيين نهمون للمال والحياة، لا يعرفون الثقافة الراقية، وإنما حياتهم استهلاكية صاخبة في ضوضائها، وموسيقاها العالية، ورقصاتها العصبية.

أما فيلم «المصير» (1997م) ليوسف شاهين، وهو بتمويل فرنسي أيضاً، فقد حاز جائزة «السعفة الذهبية» في «مهرجان كان السينمائي» (الفرنسي) في العام نفسه، وهو يتبنى أيديولوجية معادية للتيار الإسلامي، من خلال تقديم شخصية العالم الفقيه والفيلسوف الأندلسي ابن رشد، الذي أُحرقت كتبه بسبب أفكاره الفلسفية، وقد صوّر شاهين ابن رشد عاشقاً للموسيقى والغناء، وتظهر زوجة ابن رشد تراقص الشباب وتضاحكهم، بينما كان ابن الخليفة شخصاً متزمتاً، يسير مع شباب جامد يحرّمون الفن.

وهنا، يعزف شاهين على الانطباع الزائف الذي يروّجه العلمانيون بأن الإسلاميين معادون للفن، محاربون له، مكفّرون لأهله، وينسون أن الإسلام يحرم الفن المبتذل بكل ما فيه من عري وسقوط في الكلمة والأداء، وليس الفن الراقي، فهذا تعميم مخل فاسد.

أيضاً، فإننا نتساءل: هل ابن رشد العالم المجتهد، صاحب المرجع الفقهي الشهير «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، يرقص ويغني مع الفتيات، وتقلده زوجته في رقص وغناء جماعي مع الشباب، وهي حاسرة الرأس؟ بجانب أن حوارات الفيلم جاءت بالعامية المصرية، في ازدواجية لغوية، تخرج المشاهد من الإيهام التاريخي المفترض، أملاً في إسقاط مفتعل على الواقع المصري المعاصر.

الدراما المغاربية

وإذا أخذنا نموذجاً لأحد أفلام المغرب العربي، وهو فيلم «الخبز الحافي» (2004م) للمخرج الجزائري رشيد بن حاج، وهو مأخوذ عن رواية للكاتب المغربي محمد شكري، كتبها بالفرنسية، وترجمها إلى العربية الطاهر بن جلون، والرواية تتناول مظاهر الفقر المدقع في حياة بطل الرواية، وفيها ما فيها من ألوان العهر والإباحية والشذوذ الجنسي، وقد تصدى المخرج رشيد لإخراجها، لأنه سيكون فيلماً يقدّمه إلى المهرجانات الأوروبية، خاصة مهرجان «كان»، وفيه كسر التابوهات (المحرمات) التي ينشدها الغرب عن المجتمعات الشرقية، التي تعاني -في منظوره- من الكبت والحرمان (الجنسي)، ويحلم أهلها بالسفر إلى فرنسا بلد الحريات والانفتاح.

وعلى غرار هذا الفيلم تأتي أفلام عديدة، منها الفيلم المغربي «جيش الإنقاذ» (2014م)، والفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للسينمائي والكاتب المغربي عبدالله الطايع الذي يجهر بمثليته، ويناقش الفيلم صراع الهوية الجنسية الذي يعيشه الطفل بطل الفيلم، في مجتمع محافظ مثل المغرب، وعندما يصبح الطفل شاباً يعيش حالة اغتراب جنسي واجتماعي في وسطه العائلي والاجتماعي، قبل أن يتمكن بواسطة علاقة جنسية مع مواطن سويسري، من تحقيق حلم الهجرة إلى أوروبا، وبالتالي اكتشاف «الحرية» التي طالما حلم بها، وسعى إليها.

أما المخرج التونسي عبداللطيف كمشيش، فقد تمتع بدعم فرنسي لأفلامه المتتابعة، ودائماً ما يفتح لها مهرجان «كان» أبوابه، فقد درج هذا المخرج على تقديم ما يسمى بسينما الصدمة، باختيار مضامين صادمة للمتلقي في العالم العربي، متباهياً بكسره المحرمات، ففي فيلمه «حياة أديل»، الذي فاز بـ «السعفة الذهبية» في مهرجان «كان» (2013م)، يقدم قصة حب مثلية بين فتاتين، ويفصّل في عرض المشاهد الخارجة، وقد وصلت في فجاجتها إلى عشر دقائق متصلة.

والأمر نفسه فعله في فيلمه الأخير «مكتوب يا حبي» الذي هو الجزء الثاني من فيلم يحمل نفس العنوان، وفي هذا الفيلم الذي عُرض في مهرجان «كان»، في دورته الـ72، عام 2019م، ويعرض الفيلم قصة حب بين فتيات فرنسيات وشباب عربي، يمضون وقتاً طويلاً على شاطئ البحر، يغرقون في الحب والثرثرة دون قصة واضحة، وفي الليل، يذهبون إلى مرقص، يصخبون، ولنا أن نتخيل كمّ المشاهد المبتذلة، وبإسفاف شديد، التي تسببت في اعتراضات كثيرة عليه في العالم العربي، ومع ذلك كُرِّم المخرج في المهرجان.

إن ما عرضناه من أمثلة للسينما العربية التي ترعاها الفرنكوفونية وترحّب بها وتحتفي بمخرجيها في مهرجاناتها، فضلاً عن عرضها في دور السينما الفرنسية؛ يُعَدُّ دليلاً واضحاً على أن استمرار فرنسا في نفس رؤيتها الاستعمارية الاستشراقية، التي ترى في المجتمعات العربية انغلاقاً وكبتاً، وتحصر المسألة كلها في المشكلات الجنسية وقضايا المرأة، وتتغاضى عن مشكلات الفقر والفساد، ولا تقدّم صورة حقيقية عن واقع الحياة والأزمات في المجتمعات العربية، بل تقدم ما ألفه المشاهد الغربي الذي يتنعم بالحرية ومستويات المعيشة المرتفعة، وينظر باحتقار إلى شعوب المستعمرات، غير مدرك أن رفاهية فرنسا مأخوذة من نهب ثروات الشعوب الفقيرة.


(1) الموسوعة الاقتصاديّة الاجتماعيّة، إسماعيل عبدالفتّاح، نشر خاص، 2005، ص373.
(2) الفرنكوفونية: دراسة في المصطلح والمفهوم والتطور التأريخي، وليد كاصد الزيدي، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، العراق، ط1، 2020، ص18.
(3) المرجع السابق، ص83.
(4) الفرنكوفونية: أيديولوجية، سياسات، تحد ثقافي لغوي، د. عبدالإله بلقزيز، في كتاب الفرنكوفونية (أبحاث وحلقة نقاشية)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ص29.
(5) جاء هذا في حوار حسين فهمي مع قناة «CBC” المصرية، في 20/11/2011م https://www.hespress.com/art-et-culture/41563.html
(6) حوار جابي خوري على موقع “البوابة نيوز”، 3/10/2017م https://www.albawabhnews.com/2740672

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى