المضامين العلمانية للفكر التنويري .. الجريمة والعقوبة (ج2)

3- القطعيات المهدرة في الطرح التنويري لمفهوم الجريمة والعقوبة:
بيّنا أن الطرح العلماني حول مفهوم الجريمة والعقوبة يمنع تدخل السلطة السياسية لدعم الرسالة الدينية، ويرفض تجريم ما تعده الرسالة الدينية جريمة، ويقصر التدخل السلطوي على الجرائم المجتمعية التي تتعلق بأذى الأفراد مع ضبط حدود ذلك بالقوانين التي يختارها الناس.
وبيّنا تأثر التنويريين واستبطانهم لهذا المفهوم ومحاولتهم مواءمته مع النصوص الشرعية عن طريق أفهام غير صحيحة للطرح التراثي الفقهي، في غفلة شديدة منهم عن المتعلق العلماني لهذا المفهوم والذي ترجع جذوره لسياسات فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية.
ونذكر ها هنا أمثلة على القطعيات التي أهدرها التنويريون بسبب استبطانهم هذا المفهوم، وهي ثلاث مسائل:
↵ المسألة الأولى: تحريفهم للعقوبة الشرعية للمرتد.
اتفقت كلمةُ هؤلاء الإسلاميين على وجوب العقوبة على الردة المقترنة بالخروج بالقوة على النظام العام، وهو قول محمد عمارة وطه جابر العلواني وحسن الترابي[13].
ثم اختلفوا في الردة التي لم تقترن بذلك على أقوال:
- الأول: إمكان قتل المرتد وأن العقوبة سياسية تعزيرية إن شاء الإمام أمضاها وإن شاء لم يُمضها، وهو قول راشد الغنوشي، ومحمد سليم العوا[14].
- ثانياً: التفريق بين الداعية لردته فيقتل وغيره فلا يقتل وهو قول الشيخ يوسف القرضاوي[15].
- ثالثاً: استتابته أبداً، وهو قول عبد المتعال الصعيدي وعبد المعطي بيومي[16].
وظاهر جلي جداً تأثر كل قول من هذه الأقوال بالتكييف العلماني الذي لا يربط العقوبة السلطوية بمجرد المخالفة الدينية، ويتجلى هذا بمراجعة نصوص أقوالهم، خاصة حين استرواحهم للمحاربة السياسية أو الدعوة للردة وتكييفهم لهذا بما يُخرج الجريمة عن صورتها الدينية الضيقة ليدخلها في حيز ما تُجرّمه القوانين الغربية المعاصرة في غفلة شديدة عن الأساس العلماني لهذا التفريق؛ فكل استرواح لمثل هذا هو ضعف في تصور عظمة مصيبة الكفر بالله – عز وجل – بعد الإيمان به، وأنه لا تفتقر لمكون آخر لإيجاب العقوبة، وعلى ذلك تدل النصوص الشرعية التالية:
1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[17]»[18].
2- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم المسلم إلا بثلاث: إلا أن يزني وقد أحصن فيرجم، أو يقتل إنساناً فيقتل، أو يكفر بعد إسلامه فيقتل».
3- وعن عكرمة، أن علياً رضي الله عنه حرّق قوماً، فبلغ ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه».
4- في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري رضي الله عنه والياً إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدم عليه ألقى أبو موسى وسادة لمعاذ، وقال: انزل. وإذا رجل عنده موثق، قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهود[19]. قال: اجلس. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات، فأمر به فقتل.
5- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، قال: أخذ ابن مسعود قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق؛ فكتب فيهم إلى عمر فكتب إليه: «أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة لا إله إلا الله، فإن قبلوها = فخل عنهم، وإن لم يقبلوها = فاقتلهم، فقبلها بعضهم = فتركه، ولم يقبلها بعضهم = فقتله».
6- وعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِشَيْخٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «لَعَلَّكَ إِنَّمَا ارْتَدَدْتَ لِأَنْ تُصِيبَ مِيرَاثًا ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ». قَالَ: لَا. قَالَ: «فَلَعَلَّكَ خَطَبْتَ امْرَأَةً فَأَبَوْا أَنْ يُنْكِحُوكَهَا فَأَرَدْتُ أَنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ». قَالَ: لَا. قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ». قَالَ: أَمَا حَتَّى أَلْقَى الْمَسِيحَ فَلَا. فَأَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إِلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وظاهر جلي دلالة هذه الأخبار بألفاظها وسياقاتها على عدم تقييد عقوبة المرتد بحرابة أو استتابة مطلقة، أو تقدير إمام، ونحو هذا؛ بل ألفاظها وسياقاتها قطعية في الدلالة على ما أجمع عليه فقهاء المسلمين من أن المرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل لمجرد ردته لا غير.
قال الشافعي: «فلم يختلف المسلمون أنه لا يحل أن يفادى بمرتد بعد إيمانه ولا يمن عليه ولا تؤخذ منه فدية ولا يترك بحال حتى يسلم أو يقتل»[20].
وينص الشافعي نصاً لا ارتياب فيه على مناط قتل المرتد أنه: «إنَّمَا يُوجِبُ دَمَهُ كُفْرٌ ثَبَتَ عَنْهُ إذَا سُئِلَ النُّقْلَةَ عَنْهُ امْتَنَعَ، وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدًّا رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَأَبُو بَكْرٍ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ، وَعُمَرُ قَتَلَ طُلَيْحَةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ، وَغَيْرَهُمَا»[21].
وقال ابن تيمية: «الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس»[22].
ويقول الطاهر ابن عاشور: «حكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل = أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية، فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح؛ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين، وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام، وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام»[23].
↵ المسألة الثانية: منعهم العقوبة الشرعية على الآراء الشاذة المحرمة.
الآراء المحرمة: هي كل اختيار في مسألة دينية يُظهره من اختاره، ويكون هذا الاختيار مخالفاً للنص القاطع أو الإجماع القديم.
والعقوبة: هي الجزاء، وتكون العقوبة شرعية حين تكون جزاء معيناً يؤذن الشرع باستعماله في هذا المقام المعين.
يقول القرافي: «الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة.. معظمها على العصاة زجراً لهم عن المعصية، وزجراً لمن يقدم بعدهم عن المعصية»[24].
ومحل النزاع في بحثنا هذا هو الصورة الباطلة التي قبلتها هذه الطائفة من التسامح الغربي، وهذه الصورة هي: منع العقوبة على مطلق الآراء المحرمة، وإنما ينتقون هم أنواعاً من الآراء المحرمة (فمستقل ومستكثر) يجيزون العقوبة عليها، أما الأكثر الأعم من الرأي المحرم فلا يجيزون العقوبة عليه.
لذلك كان النزاع بيننا في دعوانا أنه: يمكن شرعاً العقوبة على كل قول/ فعل محرم.
أي: إمكان أن تقع العقوبة على أي قول محرم، ويكون تحقق هذا الإمكان ووقوعه على قول محرم معين راجعاً لاجتهاد الإمام ونائبه من قاض ونحوه إن كانت العقوبة قضائية، وراجعاً للمجتهدين إن كانت العقوبة مجتمعية كالهجر أو الرد العلني ونحوه.
ويكون مناط النظر الاجتهادي في العقوبتين القضائية والمجتمعية هو: مصلحة الأمة ممثلة في المجتمع الذي أُظهر فيه القول المحرم، ومصلحة قائل القول المحرم نفسه، ومدى تطلب تحقيق هذه المصالح ودرء ضدها من المفاسد إلى معاقبة صاحب الرأي المحرم.
كما أن باب الاجتهاد مفتوح أمام أي محاولة لتفصيل ضوابط المصلحة في هذا الباب، بل باب الاجتهاد – عندي – مفتوح أمام المطالبة بإيقاف بعض صور هذه العقوبة ولو كانت مستحقة = سداً لذريعة التوظيف السياسي إن انضبط مناط سد الذريعة ولم تعترضه مصلحة راجحة بينة.
والذي تدل عليه الأدلة والوقائع التاريخية للتجربة الراشدة، وممارسات السلف، هو تقليل العقوبات السلطوية المصلحية – بالذات حين خروج السلطان عن الممارسة الراشدة وعدم أمن تعديه – وتغليب وتكثير العقوبات المجتمعية كالذم والزجر والهجر، لكن هذا التقليل لا يعني الإعدام، بل الأصل إمكان هذه العقوبة وأنها مما يجيز الشرع للإمام استعماله بحسبه، وأنها مما يوجب الشرع النظر في مناطات استعمالاتها = فهذا قدر ثابت ليس مع المنازع فيه حجة عقلية أو نقلية.
وأما هؤلاء المخالفون: فمنعوا فتح الباب لإمكان العقوبة بهذه الصورة، وخصوا العقوبة بنطاقات معينة مرجعها في الغالب لتوسعتهم[25] لمبدأي السب وتكدير السلم الاجتماعي في العقوبات المدنية الغربية بحيث يتناولان بعد التوسعة بعض القضايا التي لم يجدوا مناصاً من إثباتها كعقوبة ساب الرسول، ولا حاجة بنا إلى تفصيل الرد على كل واحد منهم بحسب ما اختاره من نطاق للعقوبة؛ لأن قولنا هذا إن أثبتنا كونه حقاً = فسيؤدي هذا لإبطال جميع تقييداتهم؛ لكونه يُقرر أصل الجواز وشموله.
والحق أن موقف التنويريين من تلك الآراء يمكن تعيينه من غير عسر بمجرد تأمل أقوالهم في الردة، نظراً إلى أن الردة هي سقف الأقوال المحرمة نظراً لأنها تقع حتى من غير تأويل وتقع قصداً للخروج عن الإسلام، فمن كان لا يعاقب بها أو يضيق نطاق عقوبتها فكيف سيكون قوله فيما دونها؟
ومع ذلك فإن تعيين أقوال الناس لا يكفي فيه مجرد هذا الاستدلال، ولذلك سأذكر ها هنا شيئاً من أقوالهم الدالة على موقفهم من العقوبة على الرأي المحرم:
(1) يقول عبد المتعال الصعيدي: «كل ما يدخل في باب الحرية الفكرية في مأمن من العقاب الدنيوي؛ لأنه يجب فتحه على مصراعيه، إذ لا يخشى على المجتمع منه، وإنما يقصده رواد الخير للإنسانية ليصلوا بأفكارهم إلى ما فيه سعادتها دنيا وأخرى، فإذا أصابوا = فبفضل من الله، وإذا وقعوا في خطأ = كانوا معذورين فيه، ولا يصح عقابهم بشيء ما عليه.فإذا تعسف الحكام في ذلك بالتضييق على الناس في باب الحرية الفكرية = فإن الدين يكون بريئاً من هذا التعسف»[26].
(2) يقول عبد العزيز قاسم منتقلاً من الحديث عن عقوبة المرتد إلى العقوبة على الآراء المحرمة مفرقاً بينهما: «عقوبة المرتد عقوبة شرعية ورد بها النص في قوله عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه»، بيد أن تطبيقات هذه العقوبة تعرضت لتحولات خطيرة في التاريخ الإسلامي؛ فقد استغلت لتصفية حسابات سياسية في بعض الأحيان[27]، ووظفت في المواجهات المذهبية؛ فقد حوكم ابن تيمية مثلاً بتهمة مخالفة الإجماع[28]، وكاد يُقتل، وقد توسعت بعض كتب الفقه في تشريع العقوبة حتى امتدت إلى المبتدع[29]، وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين مع ردتهم، وعلل ذلك بأنه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتلُ أصحابه[30]؛ ولهذا[31] اعتبر بعض الفقهاء[32] أن هذه العقوبة مرتبطة بمفارقة الجماعة[33]، أي الخروج عليها»[34].
وقد ذكرتُ هذا النقل رغم تفككه المعرفي لأدلل على أن هذه الجمجمة في عقوبة المرتد وهي ثابتة بالنص فما بالنا بما دونها من الآراء المحرمة.
(3) يقول نواف القديمي: «ما أريده هنا أن نتأمل فقط في هامش الحريات الموجودة بمجتمع المدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، لأننا سنجد شيئاً مُذهلاً تتداعى أمامه كل مبررات الدعوة للطرد والإسكات واتهام العقائد والنيات، وذلك مع المنافقين الذين يعلم رسول الله نفاقهم القطعي من فوق سبع سماوات.. فكيف يكون الأمر في مجتمعاتنا اليوم أمام كتّاب اختلفنا أو اتفقنا معهم هم إسلاميون مهمومون بإصلاح المجتمع، ولهم آراؤهم الشرعية التي يستندون بها على أدلة من الكتاب والسنة.
لننظر فقط لما كان يقوله ويفعله المنافقون بالمدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبين ظهرانيه، وهو ما نقله لنا القرآن الكريم في آياتٍ تُقرأ إلى يوم القيامة.. ورغم أن المنافقين كانوا يعيشون بين ظهراني الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكِرام، إلا أن رسول الله لم يأمر بإسكاتهم قسراً وعِقابهم على أقوالهم، فضلاً عن قتلهم لقولهم ما يوجِب الكفر الصريح.. أمام كل هذا الهامش الواسع لحُريّة الكلمة في مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي مجتمع الصحابة الأول، هل ثمة بعد ذلك مبررٌ لكل هذا القلق من ترداد البعض لأفكار يراها آخرون مخالفة لما اعتادوه من أحكام شرعية، أو حتى تصريح البعض بما يُناقض الشريعة في المجتمع المسلم؟!
رغم أن التعامل مع المنافقين في مُجتمع المدينة، وإسكاتهم، وإيقاف كفرهم وضلالهم؛ كان أيسر بكثير مما يمكن أن يستطيعه أي نظام سياسي اليوم تجاه المختلفين سياسيّاً وفكريّاً»[35].
والحقيقة أن الاحتجاج بواقع المنافقين من أعجب ما قيل من الاحتجاج العلمي في تاريخ الإسلام، وهو أحد دلائل ضعف القدرة الاحتجاجية في العصر الحديث؛ لذلك لا تجد فقيهاً ولا متكلماً في تاريخ الإسلام يحتج بمثل هذه الحجج، وأبسط البدهيات العقلية تقضي بأنه لم يك ثمّ داع لنفاق ولا غيره إن كانت حرية المنافقين في إظهار عقائدهم متاحة؛ فأي حاجة لرسول الله أن تنقطع معرفته بباطل المنافقين إلا بلحن قولهم؟
وبدهية أختها: وهي أن بعض المنقول في القرآن عن المنافقين هو مما يدخل في نطاق السب الذي يجعله إخواننا هؤلاء جريمة؛ فلازم قولهم أنه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم فيه حرية ولا عقوبة عليه، وهم لا يلتزمون هذا مما يدلك على خلل قولهم، بل خلل فهمهم لقولهم.
وتضييع تلك البدهيات الواضحات مما يدلك على الواقع المؤسف للحالة الاحتجاجية في الفكر العربي المعاصر.
وقد توسع بعض الباحثين في نقد هذه الحجة من وجوه كثيرة، أخص من هؤلاء الباحثين إبراهيم السكران وسلطان العميري؛ فهما أحسن من تعرضا لها.
يبقى أمر أخير: وهو النصاعة الظاهرة لقيام المانع الشرعي من عقوبة المنافقين على باطلهم، وهو ما في الصحيحين من حديث عمر وجابر بن عبد الله قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصارياً فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري يا للمهاجرين. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري. قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعوها فإنها خبيثة. وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»)[36].
ورغم ذلك فإنه لما تصاعدت ظواهر نفاقهم ليأسهم من وقف المد الإسلامي، بدأوا يكثفون خططهم، وبدأ القرآن يكثف الحملة ضدهم؛ فقد آن أوان محاسبتهم على نفاقهم، فقد أصبح الإسلام قوة يعمل لها ألف حساب، وقد سيطرت على الإمبراطوريات الكبرى والوقت لم يعد وقت مداراة للمنافقين المعوقين داخل الصفوف؛ فقد أصبحت المصلحة تقتضي بعد ظهور قوة الإسلام أن يعامل هؤلاء كالكفار الصرحاء.
– فأنزل الله تبارك وتعالى {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْـمُرْجِفُونَ فِي الْـمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلا قَلِيلاً 60 مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيـلاً 61 سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60-62].
قال ابن تيمية: «دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلاً وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا أسروا وقتلوا وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوماً لا يمكن قتلهم».
فأين الحرية المكفولة لهم إذن؟!
فإذا انتهينا من هذه الشبهة = رجع القول إلى أصل مسألتنا وهو حكم العقوبة على الآراء المحرمة، والحق أن الآراء المحرمة هي من المنكر الواجب تغييره بالاتفاق، وللمسلمين ولولي أمرهم طرائق لهذا التغيير، منها: جواز تغييره بالقوة لصاحب السلطان، ومنها عقوبة صاحب الرأي المحرم عقوبة سلطوية، وهذا هو الذي تدل عليه نصوص الشريعة القطعية وكلام أهل العلم لا يختلفون فيه، ومن ذلك:
(1) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»[37].
(2) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»[38].
قلت: وكل صاحب سلطان يستطيع إزالة المنكر وإجراء العقوبة الشرعية على فاعله إن اقتضت المصلحة إجراءها = فهو مخاطب بهذه الأدلة لا بينة على خروجه منها.
(3) قال تعالى: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 12-13].
قلت: وهو صريح في اعتبار تصرف (الطعن في الدين) بمجرده تصرفاً حربياً يبرر القتال ويساوي تصرفات العداوات السياسية كنكث العهود، ويدل على جواز العقوبة السلطوية عليه، وأن الشريعة لا تفرق بين الطعن في الدين وبين التصرفات الحربية في استحقاق الجميع للعقوبة السلطوية.
- قال الشافعي: «حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام»[39].
- قال الأجري: «يَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأُمَرَائِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ مَذْهَبُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ – مِمَّنْ قَدْ أَظْهَرَهُ – أَنْ يُعَاقِبَهُ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَتَلَهُ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وُيُنَكِّلَ بِهِ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَنْفِيَهُ نَفَاهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ النَّاسَ»[40].
- وقال الماوردي متحدثاً عن واجبات الحاكم المسلم: «أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ، أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالْأُمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ»[41].
- قال ابن تيمية: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور؛ وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات. فمنها عقوبات مقدرة؛ مثل جلد المفتري ثمانين وقطع السارق. ومنها عقوبات غير مقدرة قد تسمى (التعزير). وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها؛ وبحسب حال المذنب؛ وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته. (والتعزير) أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام. ومنه ما يكون بالحبس. ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن. ومنه ما يكون بالضرب. فإن كان ذلك لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة أو ترك أداء الحقوق الواجبة: مثل ترك وفاء الدين مع القدرة عليه؛ أو على ترك رد المغصوب؛ أو أداء الأمانة إلى أهلها: فإنه يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الواجب ويفرق الضرب عليه يوماً بعد يوم. وإن كان الضرب على ذنب ماض جزاء بما كسب ونكالاً من الله له ولغيره: فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط وليس لأقله حد.. وأمر أبو بكر وعمر بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة. وأمر بضرب الذي نقش على خاتمه وأخذ من بيت المال مائة. ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة. وضرب صبيغ بن عسل – لما رأى من بدعته – ضرباً كثيراً لم يعده. ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل مثل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة: 32].. وذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعي إلى قتل الداعية إلى البدع. وليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك. فإن المحتسب ليس له القتل والقطع. ومن أنواع التعزير: النفي والتغريب؛ كما كان عمر بن الخطاب يعزر بالنفي في شرب الخمر إلى خيبر؛ وكما نفى صبيغ بن عسل إلى البصرة وأخرج نصر بن حجاج إلى البصرة لما افتتن به النساء»[42].
- وقال ابن تيمية: ((فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما – كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعياً، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينوا له الحق، كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه.وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين. والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة. قال الله تعالى: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} [الشورى: 16]))[43]..
قلت: ولا يحتج بأن الوحي لم يُرتب عقوبة معينة للأقوال الشاذة المحرمة؛ ذلك أنه لا حجة في ذلك لوجهين:
↵ الوجه الأول: أن الاحتجاج بترك الوحي لا بد أن يكون بعد إثبات قيام المقتضى وانتفاء المانع، والذي نقرره أن المقتضى لم يقم للنص على عقوبة للأقوال الشاذة لقلة وندرة ظهور هذه الأقوال زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يك ثمّ من يستقل بنظر في الشريعة ليشذ في قوله، والناس كانوا تبعاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يك ثمّ مظنة لمثل ذلك سوى أقوال المنافقين الذين كانوا يستخفون بأقوالهم وبعض أقوال لأعراب حديثي عهد بإسلام، واستخفاء الفريق الأول وحداثة عهد الفريق الثاني بالإسلام مع ندرة ذلك كله؛ يقلل من اقتضاء النص على عقوبة لمثل ذلك، ومثلها بلوغ المحرمات رتبة تقتضي مصلحياً العقوبة عليها بعقوبات بدنية، فلا بينة على وقوع هذا، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم العقوبة رغم وقوعه، مع دلالة الأدلة على استعماله عقوبات زجر وهجر، هي داخلة في جنس العقوبة المثبتة لأصل وجود عقوبة على جنس الذنوب.
يُضاف إلى ذلك قيام المانع: وهو تعذر إقامة العقوبات على مثل ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم والدين ينزلُ منجماً، فحتى النادر من الأقوال الباطلة التي تقع من أصحابه صلى الله عليه وسلم يرجع لنقص العلم بالوحي ومراد الله ورسوله على نحو ما وقع من معاذ وعائشة وأسامة رضي الله عن الجميع، فكان يُكتفى بتعليمهم مع التشديد أو عدمه، مع تعذر عقوبة المنافقين لما سبق ذكره.
↵ الوجه الثاني: أن الأقوال الشاذة في الدين لا تنضبط مقاديرها من جهة البطلان والطعن في الدين، ولا من جهة الخطورة على المجتمع، ولا من جهة انتهاكها لحرمة الدين، ولا من جهة نفع العقوبة للقائل بها، ولا من جهة هذا القائل نفسه وما يظهر منه من حسن القصد والاجتهاد الموجبين للتخفيف، وهذه النسبية الشديدة في أحوال الأقوال الشاذة تمنع إجراء التعامل معها على وجه واحد، فناسب ذلك جريانها على جهة السياسة والمصلحة وعدم ضبطها بنصوص محددة.
فإن أبوا إلا التمسك بهذه الحجة، فإنا نذكر بينة قاطعة تدلهم على خطأ هذه الحجة، وتدل في الوقت نفسه على أن ما يحركهم هو المضمون العلماني لا الاحتجاج الفقهي: فإن لازم قولهم هذا هو عدم العقوبة السلطوية في جرائم السب المجرد كأن يسب الرجل أبا الرجل أو أمه؛ إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب على مثل هذه الجرائم أو أذن للناس أن يطلبوا العقوبة عليها، ولا يمكن تجويز العقوبة عليها إلا وفقاً لتأصيلنا لا لتأصيلكم.
↵ المسألة الثالثة: إنكارهم قتال الطوائف المتتنعة عن الشريعة
يقول عبد الله المالكي: ((فحروب الردة التي خاضها الصديق رضي الله عنه كانت لمواجهة انفصال القبائل المتمردة التي امتنعت عن دفع الزكاة، ولجل تثبيت الوحدة السياسية للدولة الناشئة..فهو لم يحاربهم حرباً دينية؛ لأنهم على التوحيد في معظمهم ويدينون بالإسلام، ويصلون ويصومون ويحجون، بل ويزكون، ولكنهم يصرفون زكاتهم في مضارب قبيلتهم، ويمتنعون عن دفعها إلى عاصمة الخلافة وبيت مال الدولة، فلا وجه إذاً لمحاربتهم الحرب الدينية وإنما سيحاربهم حرباً سياسية تعيد للدولة هيبتها ووحدتها، وتضمن لهذه الوحدة النمو والتدعيم)).[سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة (ص/175)].
والحقيقة إن هذه التصورات المستبطِنة للمفاهيم العلمانية عن الدولة الحديثة ذات السيادة والتي هي مركز الولاء ومنتجة القيم والتي تسقط الدولة بهذا المفهوم الحداثي العلماني على الخلافة الراشدة = كلها أجنبية عن الشريعة والدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وفقه خليفه في إقامته الصديق أبي بكر رضي الله عنه؛ ذلك أن التكييف الذي لا يرتاب فيه لحروب مانعي الزكاة أنها حروب دينية لقوم ضيعوا شعيرة من شعائر الإسلام، هذا هو مناطها لا غير؛ لأنها دولة خلافة وإقامة للدين، وليست دولة العلمنة الحديثة التي تهمها حدودها ولا ترعى حدود ما أنزل الله، ويدل على هذا المناط دلالة قطعية لا يرتاب فيها فيه عالم بلسان الشرع قول أبي بكر: ((والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال)) [44]،
فجعل المناط هو التفريق بين شرائع الله في الاستجابة لها. وصريح قوله أنهم لو منعوا الصلاة لقاتلهم فدل ذلك دلالة قطعية على عدم تعلق القتال بالإمامة والسياسة، ولذلك نص الفقهاء على القتال على المندوبات المتواترة وليس فيها حق للإمام.
يقول مالك: ((الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقا عليهم جهادُه حتى يأخذوها منه)) [45].
ويقول شيخ الإسلام: ((أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، فلو قالوا: نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، =فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعاً، كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة)) [46]
خلاصة
الحق أنك مهما حاولت استقراء الأساس الفكري للتفريق بين الآراء الباطلة المحرمة وبين غيرها من الأقوال والأفعال التي لا يمانع المخالف من العقوبة الدنيوية عليها.
ومهما حاولت أن تجد فرقاً منضبطاً بين السب والشتم الذي يجيز المخالف العقوبة عليه وبين الجناية على الدين والاعتداء على حق الله الكامنين في الردة والطعن في الدين.
ومهما حاولت أن تتأمل لِمَ جعل المخالفون العقوبة على الرأي جائزة إن اقترن بعدوان على الدولة ومنعها إن لم يقترن بذلك.
مهما حاولت التأمل في كل ذلك = لن تبصر مناطاً منضبطاً لتفريقاتهم هذه سوى كونها نوعاً من الاستبطان اللاشعوري للعلمانية.
فالعلمانية وحدها هي الأساس الذي يفسر كل تلك الفروقات التي يرفضها العقل السليم.
فالعلمانية هي التي أسست لعدم تدخل القانون الزمني لحماية الديني.
والعلمانية هي التي تنزع القداسة عن الديني وتبقيها للإنسان فتجيز التجديف وسب الله والأديان وتمنع سب الإنسان.
والعلمانية هي التي ابتدعت التفرقة بين الجرائم الدينية وبين جرائم الحق العام.
والعلمانية هي التي فرقت بين الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد.
وستجد الحقيقة الناصعة التي لا تحتجب إلا بأخلاق النعام: أن استبطان التنويريين لهذه التصورات العلمانية هو الذي أنتج أقوالهم الشاذة في أبواب الردة والعقوبة على الأقوال الشاذة وقتال الطوائف الممتنعة وجهاد الغزو، وسائر ما أضاعوه من قطعيات الدين.
كل ذلك نفق مظلم أدخلتهم فيه المفاهيم الغربية ومجاهدة بلاء المواءمة غير المنضبطة بينها وبين الشريعة بالتأويلات المتكلفة والتحليلات المتطرفة والأفهام المعتسفة للنصوص والوقائع وكلام الفقهاء.
أسأل الله أن يهديهم وأن يشرح صدورهم وأن ينير دربهم وأن يُجري ماء الفرح بهذا الدين وثوابته دافقاً بين ترائب صدورهم.
[13] انظر: ((التعددية)) لمحمد عمارة (ص/9)،و((لا إكراه في الدين)) لطه جابر العلواني(ص/15)، و((السياسة والحكم)) للترابي(ص/156).
[14] انظر: ((الحريات العامة في الشريعة الإسلامية)) للغنوشي (ص/49-50) و((أصول النظام الجنائي في الإسلام)) لمحمد سليم العوا (ص/217).
[15] انظر: ((جريمة الردة)) للقرضاوي(ص/48-56).
[16] انظر: ((الحرية الدينية في الإسلام)) (ص/69-70)،,(( ((التكفير بين الدين والسياسة)) (ص/10). مع ملاحظة أنهم لا يقولون حتى بسجنه أثناء مدة الاستتابة فهذا رفع لمطلق العقوبة.
[17] ومفارقة الجماعة هاهنا صفة مفسرة وليست قيداً؛ إذ كل ترك للدين هو مفارقة لجماعة المسلمين وسيأتيك نص أهل العلم على هذا المعنى.
[18] راجع تخريج الأخبار كلها في مقالتي: ((عقوبة المرتد بالنقل))، في ملتقى أهل التفسير.
[19] لاحظ كيف أنه لم يذكر مناطاً آخر كترك الجماعة أو غيره، بل فقط مجرد الارتداد.
[20] ((الأم)) (6/169).
[21] ((الأم)) (1/295).
[22] ((الصارم المسلول)) (1/320).
[23] ((التحرير والتنوير)) (2/319).
[24] انظر : ((الفروق)) (1/213).
[25] وجعلتها توسعة؛ لأنه حتى الغرب لا يعاقب تحت هذين المبدأين على سب المقدسات غالباً، وإنما حشرها التنويريون تحتهما عنوة، فلا الحق ظل معهم ولا الباطل يقبلهم.
[26] انظر: ((الحرية الدينية في الإسلام)) (ص/12).
[27] انظر لإبطال هذه الدعوى : ((التفسير السياسي للقضايا العقدية)) للشيخ سلطان العميري(ص/99-122).
[28] ما علاقة هذا بعقوبة المرتد؟!!
[29] هذا لم يكن من توسع كتب الفقه بل هو مستقر مستفيض في أقوال السلف وأفعالهم رحمهم الله.
[30] هذه هي العلة إذن.
[31] أي لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم كي لا يتحدث الناس هذه هي مقدمة التعليل فننظر ما نتيجته؟
[32] لم يثبت بطريق صحيح يُطمئن إليه عن فقيه قط،وإنما هو قول محدث.
[33] للقاريء الكريم جائزة من المؤلف إن استطاع أن يجد لي رابطاً بين امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين خشية سوء الشائعة وبين قصر قتل المرتد على مفارقة الجماعة.
[34] ((الحداثة والنص والإصلاح الديني)) (ص/70)، نشر: الشبكة العربية للأبحلث.
[35] مقالة بعنوان : ((على هامش فتوى البراك في جلبي))،وانظر : ((تجديد فهم الوحي)) لإبراهيم الخليفة(ص/446-455).
[36] أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584).
[37] أخرجه أحمد: (11460)، (11073).ومسلم (49).
38] أخرجه أحمد (4379) ومسلم (50).
[39] ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (1/ 462).
[40] الشريعة (1/483).
[41] انظر : ((الأحكام السلطانية)) (ص/40)،ومثله عند أبي يعلى (ص/24).
[42] انظر : ((الفتاوى)) (28/ 108).
[43] انظر : ((درء التعارض)) (7/ 172).
[44] أخرجه البخاري (رقم/ 1400، وأطرافه فيه)، ومسلم (رقم/ 20) من حديث أبي هريرة.
[45] «الموطأ» (ص/ 269 ـ كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها ).
[46] في «مجموع الفتاوى» (28/ 469، 470) بتصرف واختصار، وانظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 51، 28/ 308، 502، 556)، و«الفتاوى الكبرى» (2/ 32، 3/ 473، 5/ 529)، و«مختصر الفتاوى المصرية» (ص/ 167، 468).