معتقدات

الإسلام وتفاصيل الحياة

(1)

من الناحية المعرفية الموضوعية البحتة: ينبغي أن نتجاوز سؤالًا على غرار: هل للإسلام علاقة بجميع تفاصيل الحياة، أم أن حدود سلطانه تقتصر على قطاع معيّن من حياتنا؟، وهذا أيضا بغضّ النظر عن كون ذلك القطاع من حياتنا هو الروحي أو غيره.

 فهذا الإسلام: القرآن والسنة، على مستوى الوحي كنص مقدس على الأقل، بين أيدينا، نراه يتكلم في كل تفاصيل الحياة، الفردية والاجتماعية، من أول هيئة الشعر واللباس، إلى الزواج والطلاق، إلى الحكم والحرب والسلام، فضلًا عن الأمور العبادية الدينية المحضة، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية السلوكية، وغير ذلك كثير. ناهيك إذن عن المدونة الفقهية – الفقه هنا بالمعنى العام الذي يشمل كل العلوم المتعلقة بفهم الوحي – التي تزخر بتفاصيل أوسع وأكثر دقة عن ذلك كله.

 الشرْع كله، سواء المنزّل – الوحي أو النص الديني نفسه – أم المأوَّل – اجتهادات العلماء غير القطعية فيه -، أم المبدَّل – المحرَّف الضال من تفسيرات الوحي -؛ وفق تقسيم ابن تيمية الثلاثي؛ كله يتعلق بتفاصيل الحياة المختلفة كلها. سواء المنزل منه؛ بالحق المطلق، أم المأول منه؛ بمحاولة فهمه في دائرة الوحي الصحيح، بأدواته وإمكاناته البشرية، أم المبدل منه؛ بأخطائه وضلالته = الجميع نجده شاملًا لجميع مجالات الحياة، يتناولها مستطرِقًا فيها.

 القراءات التي تصر على طرح مثل ذلك السؤال عن علاقة الدين – الإسلام هنا – بتفاصيل الحياة هي قراءات هازلة مهما ادعت الجدية. إما أنها تتكلم عن دين آخر غير الإسلام الذي نقرأه في القرآن والسنة، أو أنها تفترض افتراضات خاصة بها، تتعلق بتاريخانية الدين، يعني بكون الدين محدودًا بزمان أو مكان، وهذا مع مخالفته لعشرات النصوص الدينية نفسها، ولمنطق الدين نفسه كفلسفة ومفهوم – كي لا نخوض في جدل قليل الأهمية هنا -؛ مخالف لوجدان المتدينين في أغلبيتهم الساحقة. وهذه حقيقة صلبة لا تقبل الجدل.

  (2)

وبناء على ذلك فمن الأجدى أن نبحث حول طبيعة العلاقة بين الإسلام، كوحي، وبين الحياة العامة والخاصة بتفاصيلها مباشرةً، وهل هي علاقة تطابق تام؟ أم علاقة تضمن؟ أم هي مزيج من ذلك؟ وبصورة أكثر اختزالًا ووضوحًا: هل الدين يحكم كل تفاصيل الحياة؟

والإجابة: نعم، ولا.  وذلك بناء على ما نقصده من كلمة (يحكم) لأن لها مستويات مختلفة. هي برأينا ثلاثة مستويات.

 (3)

وكي نفهم طبيعة هذه العلاقة (الحاكمة) بين الدين وتفاصيل الحياة، وما هي (مستويات) الحكم للدين على تفاصيل الحياة؛ لابد أن نعلم أن الدين شرَع أحكامًا كثيرة: كثير منها تفصيلي، يتعلق بدقائق تفصيلية دقيقة تخص حياة الإنسان، رأى الشارع الحكيم أنه لابد من ضبطها، ووضع أحكامًا أخرى عامة، بمثابة الضوابط القيمية الأخلاقية، تندرج تحتها تفاصيل جزئية لا تنحصر، كلها في مساحة العفو الديني.

 ومعنى العفو الديني ليس الإباحة والتجويز والتصحيح كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن المراد بالعفو الديني هو مطلق الترك، بمعنى عدم تعلق تلك المساحة بالإثم الديني، وإن كان من الممكن أن تكون ضارة أو غير نافعة أو غير مجدية، ويمكن أن يمنعها فقيه في ظرف ما لغرض ما، وفق عرف، أو تجربة أو مصلحة. فهي المساحة التي تركها الشارع للناس، لأعرافهم وتجاربهم واجتهادهم وعقولهم، فإن وجدوها نافعة فعلوها، وإن وجدوها ضارة تركوها، وإن وجدوها نافعة وغيرها أنفع منها كانوا بالخيار بين ما يحتاجونه منها، وهكذا في سائر ما يكون للناس في مناحي الإبداع في جميع مجالات الحياة.

  ولكن هذا العفو نفسه يكون مأطورا بالقيم الأخلاقية العامة، التي وضعها الشرع: إما للمجال نفسه، كالاقتصاد مثلا – كما نجد في قيم مثل منع الغش، والاحتكار، والربا -، أو بالعموم كمباني الضرر والذريعة والمشقة ونحو ذلك.

 (4)

ولكن تلك الأطر القيمية العامة، كالمصلحة والضرر والمشقة؛ هي أُطُر عقلانية برجماتية عامة، فبأي وجه يجب أو تصح نسبتها للدين، بحيث يمكن إطلاق، أو على الأقل التصحيح الوجهي لإطلاق: إن الدين يحكم كل تفاصيل الحياة؟

الجواب على ذلك: أن الدين يضفي على تلك الأطر العامة التي يشترك فيها جميع الناس: المعنى والقيمة، وذلك من جهتين:

 الأولى: أنها تعلق تلك القيم والأخلاق بالأمر الإلهي، بما يجعلها متعالية ومطلقة ومقدسة، وليست خاضعة لظرف اجتماعي زمني خاص، بحيث يمكن تصور أن تكون تلك القيم غير مرغوبة في مجتمع ما إن اتفق على ذلك، أو رأى مصلحته في تركها. إنه سؤال: الغاية، واستمداد القيمة، الذي لا يمكن لغير الدين أن يلبيه.

 كما أن الإطار الأخلاقي المصلحي المجرد؛ لا يمكن أن يلتزم صفة الشمولية والإلزام (العام) إلا بالبعد الديني.

 إشكالية إمكان الإلزام الأخلاقي الوضعي إشكالية قديمة فكّر فيها الفلاسفة، ولعل من أوائل إرهاصاتها: حكاية الخاتم السحري التي أثارها أفلاطون – في كتاب الجمهورية -، الذي يخفي من يلبسه عن الأنظار، حيث تساءل أفلاطون تساؤلًا فلسفيًّا – سياسيًّا عميقا، حول مدى إلزامية الأخلاق في غياب السلطة الزمنية القانونية. هذا السؤال قد استمر البحث فيه قرونًا متطاولة في مجالات وسيطة بين الفلسفة العامة والأخلاقية والقانونية والسياسية.

 ثمة محاولات حثيثة تحاول العلمانية والاتجاهات الإلحادية دعمها لتأسيس ما يدعى بالأخلاق المستقلة autonomy ethics، بحيث تستغني عن الإطار الديني الذي يضفي على الأخلاق طابع الإلزام والشمولية. ولكنها جميعًا ظلت تعترف بالقصور والدائرية. فمجرد البُعد المصلحي للأخلاق ومحاولة اشتقاق استقلالية لها = خرافة غير قابلة للتحقق في دنيا الناس.

 (5)

والجهة الثانية لوجوب إضفاء المعنى والقيمة الدينية على القيم الأخلاقية: أن المعنى والقيمة الدينية للأطر الأخلاقية العامة هي التي تحقق مقام العبودية، وهيمنة المقام الإلهي، ولهذا فائدته في ترتيب أحكام دينية مختلفة، تتعلق بالدنيا والآخرة على حد سواء، ففعل نفس الفعل المتحد في الصورة يختلف بالقيمة التي يمثلها عند فاعلها، فإن فعلها ملاحظًا الدين، بمعنى أن يكون فعله تعبدًا؛ فهو مثاب مأجور على ذلك عند الله، وإن لم يفعلها بذلك اللحاظ؛ لم يكن فعله أكثر من مصلحة دنيوية لا يطلب منها رضى الله وما عنده في الآخرة، «مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله؛ فإنه لا يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم»، كما يقول ابن تيمية.

 ويقول أيضا: «ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله؛ فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كفر؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم».

 (6)

كما أننا نقول إنه يعسر – إن لم يكن مستحيلًا – أن توجد صورة واقعية لا يعود فيها التصرف الإنساني إلا للإطار المصلحي العام، بل لابد من وقوع تفاصيل متنوعة في الفعل الإنساني، يتوجب عندها الرجوع إلى خصوص الشرع الديني بفروعه التفصيلية، فهذه فائدة أخرى من (تديين) ذلك الإطار المصلحي الأخلاقي العام.

 وبناء على ذلك: فجعْل مجرد (التفصيل) معيارا لما يهتم به الدين من عدمه = خطأ، وشَوْبٌ من العلمنة، فالدين كما ترك تفاصيل أمور كثيرة جدًّا، فإنه قد تدخل في تفاصيل أمور كثيرة، ومنها أمور شخصية جدًّا بالاعتبار الفرداني الحداثي، كهيئات كثيرة في البدن والطعام مثلًا، فضلًا عن العلاقات الشخصية. وترك تفاصيل أخرى كثيرة تحكمها ضوابط خاصة في مجال كما في الاقتصاد والسياسة، وترك تفاصيل أخرى – أكثر – تحكمها ضوابط عامة قيمية تنتظم حياة الإنسان كلها.

 (7)

ولكن: يرد السؤال الأكثر حساسية من التنظير السابق: من الذي يحدد لنا أنَّ هل هذا (التفصيل) من الذي راعته الشريعة، أم أنه من التفصيل الذي تركته للعفو المأطور إطارًا خاصًّا أو عامًّا؟

 الجواب: الفقيه لا غير. وأية محاولة لنزع الفقيه عن هذا الإجراء هي علمنة.

الفقيه لأنه يعلم فروع الشريعة؛ هو وحده مَن يقدر على القيام بعملية (الفرز) المذكورة، بين فروعٍ، وعموماتٍ.

 والتعليل المنطقي لذلك أن فروع الشريعة وما جاء فيها من الأحكام، مهما كانت كثيرة، ومهما قيل إنها لا يحيط بها إنسان واحد؛ فإنها محصورة، سواء بالفروع أو بالأجناس، بخلاف المسائل التي لم تراع الشريعة تفصيل الكلام فيها، فإنه لا شك أنها لا تنحصر. ولا شك أيضا أن إمكان العلم بالشريعة أيسر من إمكان العلم بجميع ما ليس بشريعة، فإن إمكان العلم بالمنحصر أوضح وأيسر من إمكان العلم بما ليس بمنحصر.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يجوز للمُحرم أن يلبسه، أجاب بما يحرم عليه لبسه، لأن المحرّم على المحرِم محدود، وما سواه مباح غير محدود، ومن عرف المحدود أمكن أن يميز به غيره.

 فالحال أشبه بمن لا يعلم إلا لونا واحدًا، ونحن نطلب منه أن يميز (ما ليس بذلك اللون)، وليس أن يميز سائر الألوان ويحددها. نحن نطلب من الفقيه أن يستخرج لنا كل ما (ليس بأحمر) مثلا. ولا شك أن هذا أيسر من أن نطلب من غير الفقيه أن يميز لنا (كل لون) من الألوان على حدة.

 وبناء على ذلك فإنه لا يمكننا ترك عملية الفرز هذه لأي شخص ليس بفقيه، ولا يعلم الفروع والقواعد الدينية كي يميز بين ما للدين فيه حكم خاص مما ليس له فيه حكم خاص، مهما تسمى ذلك الشخص مفكرًا أو باحثًا أو داعيةً أو سوسيولوجيًّا أو نحو ذلك.

 (8)

ولكن أين الإشكال والتخوّف: الإشكال والتخوف من تسوّر الفقيه على تفاصيل – سواء أكانت في السياسة أو الاجتماع أو العلم التجريبي أو غير ذلك – لم تراع الشريعة البتَّ فيها، كما نجد كثيرًا منهم يتكلمون في تفاصيل الاقتصاد والسياسة والطب والعلم، فيفسدون أكثر مما يصلحون.

 إلا أن هذه المفسدة لا يمكن أن تعالج بمفسدة أعظم منها، وهي عزل الفقيه عن ممارسة دوره في بيان ما راعته الشريعة بخصوصه – وهو مجال اشتغاله الأصيل الذي لا يحتاج فيه معاونة ولا يجوز أن يشركه فيه غيره -، وبين ما راعته بالعموم من خلال وضع أطُر خاصة أو عامة له.

وليس لذلك علاج إلا بإجرائين:

 الأول: أن يحسِّنَ الفقيه أدواته من جهة، وأن يقنع بحدود وظيفته التي هي: الاجتهاد الفقهي الشرعي – بأدواته الشرعية – في التفصيلات التي حقق الشارع حكمها، والاجتهاد الفقهي الشرعي في تمييز تلك التفصيلات عن التفصيلات غير المعينة والمتروكة للإطار. ولا يتم له ذلك إلا بتحسين فقهه في الدين من جهة، وبتحسين معارفه العامة للمجالات من جهة.

 والثاني: وهو الشطر الثاني من العلاج: التواصل الحسن والأمين بين المتخصصين – في جميع المجالات كالسياسة والاقتصاد – والفقيه، كي يحكم على بعض التفصيلات هل هي من التفصيلات المراعاة شرعًا باتًّا، أم من المتروكة للإطار الخاص الذي يجب أن يُشْرَح له ليحقق مناطه في التفصيلات – كأن يحكم على بعض المعاملات هل هي ربا محرم أم لا -، أم هو أعم من ذلك ومتروك لمصلحة الناس وتجربتهم ويكتفى بتأطيره الإطار الأخلاقي العام القائم على مباني المصلحة والضرر.

 (9)

وما سوى ذلك من تسور الفقيه على كل أمرٍ لمجرد كونه مأطورًا بالدين = جهل وإفساد، وكلام على الله بغير علم، وصد عن سبيل الله.

وما سوى ذلك من هجوم الدنيوي على كل تفصيل دون طلب حكم الله فيه (الذي قد يكون أنه عفو متروك للتجربة) = علمنة وترك لما أنزل الله.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى