فكر

لحظة ميلاد كاتب

لأن للسؤال قدرة مدهشة على استفزاز فعل التفكير وحفزه على التأمل والنظر ؛ ولأن الأجوبة الجاهزة لا تنتج مفكرين، بقدر ما تنوم العقل وتجمد اقتداراته، ولد من رحم السؤال عقل متوقد نقاد تجرأ على إدخال النسق الثقافي البشري بأكمله في تجاويف علامة استفهام تشكك في قيمته وجدواه بالقياس الى النسق الطبيعي!

أجل كل شيء حدث بسبب سؤال من بضع كلمات ملقى في جريدة ! إذ بمجرد قراءته انقلبت حياته ، وتحول الى شخص آخر! حدث ذلك في أحد أيام شهر أكتوبر من عام 1749م.. كان سائرا في شارع فانسين متجها الى سجن دونجو ، حيث كان صديقه الفيلسوف ديدرو مسجونا. لكن وهو يخطو في الطريق أخذ يتصفح جريدة “ميركور دو فرانس”، فاستوقفه في إحدى صفحاتها إعلان عن مسابقة فكرية من أكاديمية ديجون تستكتب فيه جمهور القراء والمثقفين للجواب على سؤال:

هل أدى تطور العلوم والفنون الى إصلاح الأخلاق أم إلى فسادها؟“.

يقول في كتابه “اعترافات”:
بمجرد قراءتي للسؤال أبصرت عالما جديدا، وأصبحت إنسانا آخر“!

ملك السؤال عقله ووجدانه ، وأحاط به ، فتزاحمت في ذهنه ألف فكرة ؛ حتى اضطر من ثقلها الى الجلوس تحت ظل شجرة من أشجار السنديان التي كانت تزين وتظلل قارعة الطريق ، وأخذ قلم رصاص وبدأ في كتابة مسودة جوابه .
كانت له عادة غريبة في الكتابة ، حيث كان يشعر بأنه لا يفكر إلا وهو يمشي! لذا نلاحظ أن مختلف كتبه كان أساسها التأملي ناتجا خلال تجوال في الغاب أو صعلكة على قارعة الطريق؛ حتى أنه كثيرا ما كان يقول :
لا يمشي رأسي إلا مع رجلي !”

“الأجوبة الجاهزة لا تنتج مفكرين، بقدر ما تنوم العقل وتجمد اقتداراته” الطيب بوعزة

لذا يصح، في سياق المشابهة، أن نصفه بأنه مفكر مَشَّاءٌ. لكن ، حتى لا ينصرف النعت الى المقصود فلسفيا من مذهب المشائية ، لابد من التنبيه إلى أن إيقاع خطوه كان دوما على غير إيقاع أرسطو !

عند وصوله الى السجن كان لا يزال تحت وطأة التفكير في ذلك السؤال المستفز؛ فلاحظ صديقه “ديدرو” شروده واستفهمه عن السبب، فأخبره بسؤال المسابقة، بل قرأ عليه تلك السطور التي كتبها تحت شجرة السنديان؛ فأعجب ديدرو بتحليل زائره للسؤال، وجوابه الغريب ، وشجعه على المضي في بحثه، والتباري به.

عملت بإشارته، ودخلت المباراة. ومنذ ذلك الحين كتبت صك شقائي بيدي. إن جميع البلايا التي أصابت حياتي ، في ما بعد، كانت نتيجة حتمية لتلك اللحظة التي ارتكبت فيها ذلك الضلال!”.

كذا يقول مختصرا بداية الانقلاب الذي غير مجرى حياته، من كاتب نوتات موسيقية يعيش في هدوء مستلذا العزلة في كنف الطبيعة، الى أحد أشهر فلاسفة عصر الأنوار الملاحق بالمحاكم، وانتقادات رجال الدين، وحجارة العوام الغاضبين!
إنها لحظة ميلاد كاتب، بل ميلاد أحد أشهر كتاب الأنوار، جون جاك روسو .

وعود الى السؤال الذي استفز مخاضه، لقد كانت خلاصة جوابه عليه، هو أن تقدم العلوم والفنون أدى الى فساد الاخلاق لا صلاحها! وفي صلب جوابه هذا تكمن فلسفته المستهجنة لتلك النقلة الانثروبولوجية التي حدثت في صيرورة التكوين التاريخي للإنسان ، فأخرجته من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة والمدنية.

إن الحيوان العاقل ، يقول روسو، حيوان فاسد ! وفي قوله هذا تعريض بالكائن البشري، الذي كان ، بحسب اعتقاده، “أغبى” الكائنات الحيوانية عندما استعمل عقله، وترك حياة الطبيعة واصطنع هذه المدنية الفاسدة!

إنها الفكرة التي تثوي في مختلف كتاباته منذ بواكيرها، حيث تشكل نوعا من الأساس الفلسفي لكل الأبنية المعرفية التي شادها؛ بل تتحول في كثير من سياقات فكره إلى أداة منهجية تحليلية ، فتصير منظورا تأويليا وتقييميما لظواهر الوعي والحياة

ومن الطريف أنه عندما أجاب في العام التالي على سؤال آخر : “ما أصل التفاوت الملحوظ في المجتمعات الانسانية؟”، ضَمَّنَ في جوابه نفس فكرته عن تمجيد حياة الطبيعة، مع نقد لاذع لتلك النقلة من العيش الطبيعي الى العيش المدني. غير أنه تجرأ فبعث بحثه “خطاب في التفاوت بين البشر” الى أخطر وأشرس ناقد في عصره، أي إلى الفيلسوف اللوذعي فولتير، فما كان من هذا الأخير إلا أن رد عليه بقسوة سخريته المعهودة: “لم يستعمل أحد فكره بقدر ما استعملته أنت لكي تجعلنا شبيهين بالبهائم. يشتهي الانسان عندما يقرأ بحثك، أن يمشي على أربعة قوائم!”

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى