الحوار المعرفي

فقه الجمال (1-2).. العرفان والإنسان والبيان

«إن الله جميل، يحب الجمال»
حديث نبوي.

(1)

أولا: العرفان:

كل شيء في الوجود متعلق بالله تعالى، كامل الوجود، المستغني بنفسه، الذي كلُّ شيء سواه مفتقر إليه. إليه منتهى كل موجود، إيجادًا وإمدادًا. كلُّ شيء غيره مستند إليه مسنود به. الوجود الإلهي الكامل والمتعالي هو المصحح للوجود، ولمعناه. وهو المصحح لجماله أيضًا. وذلك ما نهتم به الآن.

«إن الله جميل، يحب الجمال»، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. نستفيد من هذا النص أن الجمال أمر ثابتٌ موجودٌ وجودًا مستقلًا بالنسبة لسائر لوجود لأنه متعلق بالله الموجود وجودًا مستقلًا متميزًا عن سائر الوجود.

وبيِّنة ذلك أن الله تعالى يحبُّ الجمال، بما يعني أنَّ ثمَّة جمالًا ذاتيًّا متحققًا، وأنه جمالٌ في نفسه من جهة أنه يستحق تلك المحبة لأجل المناسبة للجمال الإلهي الأصلي، ويعني أنه جمالٌ مستمدٌ من الجمال الإلهي من جهة أنه من الله إيجادًا وإمدادًا كسائرِ كلِّ ما سوى الله تعالى.

وهذا يقال في جميع الذاتيّات، أن لها في نفسها استقلالًا من جهة تميزها الوجودي عن مَدْرَك الملاحظة والبيان، وأن تلك الذاتية لا تنافي افتقارها الإلهي بالنظر إلى نفس وجودها واستمرارها، وأن ذلك جميعه على وجه المجعولية، التي تستفيد التحقق والإبراء من الله، الذي يبرز تلك الماهية العلمية إلى الوجود.

(2)

ثانيا: الإنسان:

الإنسان في علاقته بالوجود: قد يكون فاعلًا مؤثرًا وقد يكون منفعلًا متأثرًا. ومن النوع الثاني من مستويات العلاقة الإنسانية مع الوجود: العلاقة الإدراكية للوجود.

الذي نريد أن نقرره هنا: أن الجمال – بصفة عامة – مطلق، والإدراك هو النسبي. النسبية تقع في النظر إلى الشمس، لا في نفس وجود الشمس، فقد توجد مشكلة في المستقبِل (الإدراك)، لا في المستقبَل (الشمس).

لقد اختلف الفلاسفة عمومًا، والمتكلمون الإسلاميون خصوصًا في طبيعة الإدراك وما يترتب عليه من العلم وهل هو قطعي أن ظني، منذ نبتت السفسطة وحتى الآن. وجد هذا البحثُ أصداءه في مسألة كلامية أصولية: هل الحسن والقبح عقليان؟ بمعنى هل يدرك العقل حسنَ شيء أو قبحه، أم لا يدركه إلا بتوقيف من الوحي. حتى أكثر الاتجاهات غلوًّا في قصر حدود العقل البشري في معرفة الحسن والقبح على مجرد الإيقاف الشرعي بالوحي: لم تنكر أن ثمة أمورًا يدرك العقل حسنها أو قبحها بنفسه، كصفات الكمال والنقص كالعلم والجهل، وما يلائم الطبع وما ينافره، كالروائح الطيبة والكريهة.

(3)

وبطبيعة الحال توجد أنواع كثيرة من الناس، تختلف من حيث العوامل النفسية، والمقومات العلمية، والعملية. وكذلك تتنوع الأشياء في عالمنا، سواء أكانت مادية أم معنوية، وهي تتنوع بين الجيد والرديء، أو لنقل الآن: الجميل والقبيح.

فعلى سبيل المثال: نحن نتكلم في السوق الإبداعي، بما فيه من منتجات جيدة ورديئة. تدخل هذه (الأشياء) المادية والمعنوية في علاقة مع هذا الإنسان بأنواعه وعوامله المختلفة في علاقة شديدة التعقيد، من الملاحظة والانفعال، ومن ثم التقويم، نحو (إدراك) الجمال من عدمه.

واختلاف البشر في إدراك الجمال من عدمه ومن ثم تقييمه بصورة إيجابية أو سلبية؛ يرجع إلى اختلاف إدراكاتهم من جهة، وإلى تنوع الأشياء وتفاوتها وجمعها بين الجمال والقبح بنسبٍ ما في جميع الأحيان.

ولكنّ هذا كله لا يجعل الحكم بالجمال على شيءٍ ما نسبيًّا مطلقًا كما يشيع عند بعض الناس. فهو أولًا لا ينفي وجود الجمال الذاتي والحقيقي، بقدر ما يثبت تفاوت الإدراك الإنساني. وبيِّنة ذلك أن هناك أمورًا متفقًا على جمالها، حتى صارت فوق مستوى التقويم. وهذا ما نتناوله في مستوى (البيان).

(4)

ثالثا: البيان

(لا نشك اليوم في قيمة هومر، أو أفلاطون، أو شيشرون، أو فيرجيل، فإن هذا أمر انتهى فيه الجدل، لأن عشرين قرنا قد اتفقت على حكمها عليه. إنما المسألة هي البحث عن مبعث الإعجاب بهؤلاء الكتاب في عدة قرون. عليك أن تتفهم ذلك، أو تتخلي عن الأدب، وتؤمن بأنك تفتقر إلى الذوق، وإلى الاستعداد ما دمت لا تحس ما أحسه الناس جميعًا).. بوالو

(5)

بغضِّ النظر عن تعبير بوالو الصارخ عن الاتجاه الكلاسيكي في النقد الأدبي، إلا أن مثل هذا الاتجاه في كثير من المقبولات الفنية والأدبية الواسعة؛ هو أمر وجيه، يقضي على النسبانية الذوقية الزائفة، التي تروق لأي أحد أن يقبح في جمال أي شيء.

كثيرًا ما نقابل في حياتنا من يطعن في الثوابت الجمالية على مختلف الأصعدة. هناك من يرى أن أم كلثوم قبيحة الصوت، والخطيب لا يحسن اللعب، ونجيب محفوظ أديب ضعيف. كل تلك الأحكام لا قيمة لها؛ لأن عامة الأذواق المختلفة قد اتفقت على حسن تلك المواهب، ومجرد عدم إدراك قلة من الناس لهذا الجمال؛ هو خلل في إدراكهم، ينجم عنه خلل في (البيان) عن الجمال.

اتفاق عامة الناس، من غير تواطؤ ولا مصلحة، مع اختلاف خلفياتهم الاجتماعية والعلمية على جمال أمرٍ ما: هو مرشح جوهري لثبوت جمال هذا الشيء. ولو كان فيه بعض النقوص والعيوب، كما سأناقش الآن.

(6)

ولكن لماذا ينتقص البعض من جمال الأشياء المتفق على جمالها، فلا يبينون عن جمالها؟ لهذا أسباب كثيرة نفسية وموضوعية. أجمل أهمها فيما يلي:

أولًا: العامل النفسي: فكثير من الناس ينتقصون الجمال لأسباب نفسية، قد ترجع إلى الرغبة في البروز والظهور، واكتساب قدر من التقدير الإيجابي للذات عن طريق الارتفاع عن عامة الناس في صورة ما يتفقون عليه. وقد يكون العامل النفسي متمثًلا في تأثر سواديّ، لسبب أو لآخر، يفسد ذائقية الإنسان، ومن ثم إدراكه للجمال. وقد يكون العامل النفسي نابعًا من سلطة ما عليه، كالسلطة المعرفية التي ترغمه على توهم إنكار الجمال، كما سيأتي في حالة التنافر المعرفي بسبب الحكم القيمي على سبيل المثال.

(7)

ثانيًا: الخلل في معايير التقييم أو إجراءاته.

 وهذا يندرج تحته عدد كبيرٌ من النقاط، ولكن أرصد أهمها هاهنا:

فقد يكون القدح في الجمال بسبب النظر في بعض عيوب الجميل والتركيز عليها. وهذا خطأ في النظر والتقييم. فمجرد وجود العيوب الجزئية لا يقدح في الجمال العام. وبصفة عامة: ليس ثمَّة كمال في الحياة الدنيا، وكل نافعٍ خُلقت له آفته.

وقد يكون القدح في الجمال بسبب مغالطة تقوم على المقارنة. فمجرد كون شيء أجمل من شيء أو أقل جمالًا منه: لا ينفي جمال الشيئين. وعامة الخلل في المقارنة يرجع إلى خلل أدوات التقييم، ففي غالب الأحيان: توجد في المجالات المختلفة معايير يمكن الرجوع إليها وترجيح كفة جمال على جمال. ولكن على كل تقدير: الخلل في المقارنة لا يجب أن ينفي أصل الجمال الموجود في الموضوعين.

وقد يكون القدح في الجمال بسبب مغالطة عدم اعتبار السياق للحكم، مثل الحكم على ركاكة شكسبير بالعربية، فهذا القدح بسبب عدم القدرة على ذوق شكسبير في سياقه البليغ في لغته الأم. هذا نفسه يقال في القدح في بلاغة القرآن أو إعجازه بالنسبة لغير العربي، فهذا لا ينافي الإعجاز في نفس الأمر. وإنما يرجع في الحكم على جمال الشيء بمعايير سياقه، ولذلك فإعجاز القرآن ثابت للصيني – على سبيل المثال – بمعيار العربي، أي: بحكم أصحابها ومعرفتهم بالعربية، أو بتفقهه إن أراد في تلك اللغة، فإنه ولو لم يبلغ التمام في معرفته بتلك اللغة؛ فإنه يقدر على تحصيل قدر كبير صالح للاستيعاب والتذوق. وهذا أمرٌ مجربٌ معروف فيمن أتقن الإنجليزية مثلا فاستطاع أن يذوق عظمة شكسبير.

(8)

ومن أهم المغالطات التي تؤدي إلى نفي الجمال، ولها نوع من العلاقة بالمغالطة السابقة: مغالطة عدم اعتبار أداة الحكم الصحيحة. فكما أن الحكم على الطعام يكون بالذوق والشم مثلًا، والحكم على القماش يكون باللمس والنظر، فهكذا يجب الحكم على الجمال في موضوع معيّن بالأداة الصحيحة المنسجمة مع موضوعه، وإن سلمنا بوجود علاقات أخرى له، ومعايير أخرى أقل تعلقًا بالموضوع.

ومن أهم تلك التمثلات: الحكم القيمي على الفن من الجهة الجمالية. فلكون فنٍّ ما؛ محرمٌ شرعًا، أو فيه محظورات شرعية، يجري الحكم بقبحه من الناحية الفنية. وهذه مغالطة واضحة.

وهذا ما يواجهه كثيرٌ من النقاد الفنيين المنسوبين لخلفيات إسلامية. ولذلك فقد سألني أخ عزيز قديمًا، بما معناه: (لماذا يبدو الإسلاميون غير قادرين على إدراك الجمال في الفن؟ أو بمعنى آخر: لماذا لا يقدرون على ‍الحكم حكمًا فنيًّا لا دينيًّا؟). هذا متعلق تعلقًا مباشرا بما نحن فيه الآن.

وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني من محاولة تأسيسنا لفقه للجمال.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى