ثقافةقضايا ثقافية

الشعر ديوان العرب

سجل الشعر في العصر الجاهلي للعرب حياتهم وبيئتهم وظروفهم وأحوالهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وصور الحياة العربية في هذا العصر تصويراً رائعاً، وغطى جميع مناحي تطلعاتهم، فقد قال الشعراء الجاهليون في جميع أنواع العواطف الإنسانية المختلفة، واستطاعوا أن يصوروا النفس البشرية وانفعالاتها في جميع الحالات، مما يدل على قوة الإحساس، ورقة الشعور. ثم إن ما حوته هذه النماذج -وغيرها ما لم يتسع المجال لذكره- من الصور الشعرية، يدل على دقة الشعور، وقوة الشاعرية لدى الشعراء الجاهليين.

فمن دراسة الشعر الجاهلي، يتبين أنه حافل بالحديث عن أحوالهم وعاداتهم وأخلاقهم. ولذلك جاء القول المأثور: “الشعر ديوان العرب”. والحق أنه سجل خالد لهؤلاء القوم، تتجلى فيه بوضوح مظاهر الحياة، والبيئة في ذلك العصر.

ففيه نرى البيئة الصحراوية، مصورة تصويرًا حقيقيًّا، سماء صافية، ترسل أشعتها القوية على رمال الصحراء، فتبدو كأنها الذهب النضار، ويسطع قمرها، وتتلألأ نجومها، في ليل هادئ جميل، حلو قصير على المرح الطروب، ممل طويل على المهموم الحزين، وأرضها قاحلة جرداء، يقل فيها الماء والنبات، فإن وجدا في مكان، كان روضة تسر الناظرين، غدير الماء قطعة من الجنة، ومزادة الماء كلها حياة.

وفيه نرى الوهاد، والأودية، والجبال، والهضاب، يتسلقها البدو، متجشمين الصعاب، وينحدرون إلى المنخفضات في صبر وجلد، كل هذا في سبيل الحياة، والبحث عن أسباب الرزق، يتعثرون بالحجارة الصلبة، ويصطدمون بالصخر والجندل، وتغوص أقدامهم في الرمال، ونرى الطرق المطروقة، والسبل الملتوية، يضل عنها من لا خبرة له بها، ثم يلمح نار الكرم تناديه، أو ترشده وتهديه. ونرى الفلاة أحيانًا يشتد بها الحر، فيكاد يذيب دماغ الضب، ويشتد البرد، وكان الزمهرير وتساقط الثلج، وإن جادت السماء، نزل الغيث، وجاء الخير، فانتشر الكلأ، وعلا الوجوه البشر، فيتسابق الناس إليه، وترى القبائل تتحرك مسرعة نحو الكلأ والعشب، وقد تضطر الظروف بعضها للنزوح عن مكانها، فتترك ديارها، وتبقى الرسوم والأطلال، مصدر اللوعة والحزن للصب، ومثار البكاء والدموع للمحب المتيم، بما توحيه من ذكريات لا تنسى.

وفيه نرى من ظواهر الطبيعة الصامتة، مسرى النسيم العليل رخاء، وهبوب الريح عاصفة، وتراكم السحب، ترعد وتبرق، ونزول الأمطار، طلا ووابلًا، ومجرى الماء، عذبًا سلسبيلًا، هادئًا خفيفًا، أو جارفًا عنيفًا … ومنابع العيون غائرة سحيقة، تفيض في سحر ودلال. أو تجمعت في غدير، تداعب الرياح صفحته، فتقسمه طرائق تتراقص في رشاقة وجمال.

وبجانب صورة الطبيعة الصامتة، نرى في الشعر صور الحياة المتحركة، فنشاهد فيه ما في الصحراء من حيوان وطيور وحشرات: فنرى فيه الإبل تروح وتجيء، بين إمهال وإسراع، وجري، وإرقال، في السلم، وفي الحرب، وهي وسيلة لمواصلاتهم، وأداة لتنقلاتهم، ومصدر من مصادر الرزق والحياة، فتحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وتفيض عليهم بالخير من لبن وشعر، فيشربون لبنها، ويتخذون من أوبارها ملابسهم يتقون بها الحر والبرد، وأثاث بيوتهم حيث يجدون الراحة والهدوء، فإذا ما عز القوت، ضحت بنفسها، فتقدم لحومها غذاءً شهيًّا لهم، فتحفظ عليهم حياتهم حية وميتة. وفيه نرى صورًا واضحة للفرس، وسيلة للصيد، تلك الرياضة المحببة، فتجلب الخير، وتوفر لهم وجبات شهية لذيذة، فإذا خيم الفزع وادلهم الخطر، كانت لهم الحصن المتين، فبها يقابلون الأعداء، ويقتلون المعتدين، ويلاقون الأبطال، ويهزمون الصناديد، فتدفع عنهم الكيد، وتفرج الكرب، وتحمي الشرف، وتعلي المنزلة، وتجلب الثراء والخير. ولأهمية الإبل والخيل في حياة العربي، عني بهما عناية تامة، وكان لهما أبلغ الأثر في إحساسه ومشاعره، فأجاد في وصفها إجادة تامة، وأبدع في صورهما الشعرية أيما إبداع، حتى جاءت أوصافهما كاملة تامة الأجزاء من جميع النواحي؛ كما نرى في الشعر صور النعام، والظليم، والظبي، والغزال، والأسد، والضبع، والذئب، والوعل، والبقر، والثور، والأتان، والضب، والغنم، والعنز، والكلب، والصقر، والعقاب، والغراب، والحمام، والقطا، والجراد، والحية، والعقرب، والنمل، والذر، وغير ذلك من الحيوانات التي تمرح في جو الصحراء الواسع الفسيح.

فإذا ما جاء الشعر إلى أولى ملهمات الشعر التي تفيض بالحياة والحيوية، وهي المرأة، نرى الشاعر الجاهلي يجيد في تصوير ما حباها الله به من جمال طبيعي، فتبدوا كأنها آلهة الجمال، أو أنها الجمال في تمثال.

ولئن بحثنا عن صور الحياة في الشعر الجاهلي فسوف نجدها واضحة جلية فيه، فالجاهليون كما يبدو في شعرهم، يعتزون بأنفسهم، ويشمخون بأنوفهم، يحمون الحمى، ويحفظون العرض والشرف، ويتباهون بالحفاظ على حقوق الجار، وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وإجابة الداعي، ويتفاخرون بالقوة والغلبة، وكثرة العَدد والعدد، فإذا ما ثارت نفوسهم -وكانوا سرعان ما يثورون- قامت الحرب، واشتعلت النيران، فتتجمع الجيوش، وتتلاحم الصفوف، وتدور رحى المعارك، وتتوالى الطعنات والضربات، فترى القتلى صرعى، والأرض مخضبة بالدماء، والجرحى يئنون، والأسرى في الأغلال، والسبايا يسقن في ذل وهوان، وتصبح النفوس الموتورة متأججة، والحقد قد تمكن في النفوس، والغيظ يكاد يقطع نياط القلوب، والأخذ بالثأر يعمي الأبصار، ويحيل الحياة ظلامًا، الهم يزداد، والألم يشتد لحظة بعد لحظة، وكل قد غفل عن نفسه، وأهمل شئونه، فلا يهتم بمظهره، وقد آلى على نفسه ألا يغتسل ولا يتنظف حتى تكف الهامة عن الصياح، وهكذا تقود المعركة إلى معارك، فتشاهدهم في نزاع مستمر، وعراك دائم، ولا يكفون عن الاستعداد للخطر على الدوام، فهم دائمًا على أتم الاستعداد لملاقاة الأخطار، الأسلحة تهيأ وتعد، والرماح تبرق، والسيوف تلمع، والقسي مشدودة، والسهام تملأ الكنائن. وفي المعركة يظهر الفرسان، والأبطال، الطعن شديد، والضارب عنيف، والدروع تحمي الصدور، والبيض تلمع فوق الرؤوس، وميدان المعركة فوقه سحب من الغبار، وتظله العقبان، وعصائب الطير تهتدي بعصائب متجهة نحوه، وقد نرى بعد ذلك صور الساعين في فداء الأسرى، والمتطوعين للصلح بين المحاربين ؛ كما أنه يرينا صورة للنزاع بين العشيرة الواحدة، وفيها التأثر الشديد بادٍ على وجوه القوم، إذ إن ذلك لا يعني إلا إهلاك العشيرة نفسها بنفسها، وتخريب بيوتها بأيديها، وهنا نرى قلوبهم تدمى حزنًا على ذويهم الذين تسيل دماؤهم على أسنة رماحهم، وظبات سيوفهم. فإذا ما نحينا هذه الصورة الدامية جانبًا، رأينا في الشعر الجاهلي صورًا لأوقات الهدوء والدعة، وساعات الطمأنينة والأمن، فترى صور القوم يخرجون للصيد، على خيل كلها قوة ونشاط، ومعهم أدوات الصيد من عدد وحيوان، ثم يعودون ممتلئي الوفاض، هاشين باشين ، بما غنموا من سمين الصيد ولذيذ الطعام.

كما يرينا القوم في مجتمعاتهم الخاصة والعامة، يتبادلون الآراء في الصالح العام، ويتشاورون فيما يهمهم من قضايا ومشكلات، أو يتسابقون في ميادين الفصاحة والبيان، أو يتحاكمون إلى ذوي العقل الحكمة، أو يتسامرون في أمسياتهم بالقصص والأخبار، أو يتجاذبون أطراف الحديث في الطرائف والملح والنوادر والآثار، أو يلهون في منتدياتهم باللعب واليسر، أو ينتشون بشراب الخمر واحتساء الأقداح، أو يرفهون عن أنفسهم بأنواع الطرب والغناء، وغير ذلك مما يسري الهم، ويبعث فيهم الراحة والإحساس بالجمال ومتعة الحياة. هذا عدا الصور الرائعة التي نرى فيها القبيلة في مجتمعها ملتفة حول رئيسهم يتباحثون في شتى نواحي القبيلة السياسية والاجتماعية، أو يستمعون إلى كبيرهم، يبصرهم بالحياة، ويفيدهم من تجاربه، أو من معلوماته وثقافته، التي ألم بها عن طريق عقله الواسع، وإدراكه القوي، ونظره البعيد.

وإذا اتجهنا نحو الشعر الجاهلي لنرى كيف صور المثل العليا للعرب، نجد فيه صورًا واضحة لحبهم للإغاثة. والنجدة، والإسراع إلى إجابة الداعي، وتعظيمهم للوفاء، والقيام بما تقتضيه المعاهدات من واجبات والتزامات، وإعجابهم بالصمود أمام الخطر، وملاقاة الأعداء في رباطة جأش، وحماية اللاجئ، ورعاية حق الجار، والمحافظة على أهله وشرفه وبيته، وإكرام الضيف، وهداية الضال، والإيثار حين ترغم الشدائد الناس على الأثرة. والشعر الجاهلي يصور فقر الصحراء المدقع في كثرة الغارات والحروب طمعًا في الغنائم وفي أشعار الصعاليك، وفي الإكثار من الفخر والمدح بالجود والكرم والإسراف في الإنفاق وفي إشراك الفقراء في أموال الأغنياء. كما أن فيه إشارات إلى معتقداتهم وشعائرهم الدينية، واتصالاتهم الداخلية والخارجية. فالشعر الجاهلي بهذا الذي بيناه فيما سبق يعتبر مصدرًا أساسيًّا لتصوير حياة العرب الجاهليين.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى