نقد

ثنائية التقابل في ديوان “شامة بيضاء” للفلسطينية إيمان زياد

أما قبل:

شامة بيضاء كتاب للفلسطينية إيمان زياد، صدر عن دار دجلة بعمان. يقع في 103 صفحة من الحجم المتوسط، يضم 129 نصا ما بين القصير والقصير جدا.

نصوص الكتاب نثرية أخذت شكل الشعر المنثور، متحررة من الوزن ومن الايقاع الخارجي، ومحتفظة بحقها في خلق أبعاد تخيلية وإرساء العبارة على أرضية الإيحاء متجاوزة اللغة المباشرة والتقريرية… وعوضت الأرقام العناوين، وكأن الكاتبة ربطت كل نصوصها بعنوان موحد وهو ما وُسم به الكتاب، وبقيت الأرقام علامات مؤشرة فقط كنوع من التمييز.

 وأما بعد:

أبدًا لا يمكن القفز على العوالم التي أصغت إلى نبضها الفلسطينية إيمان زياد، ولا يمكن تجاوزها إلى التركيز على الملمح الذي اخترتُه كزاوية نظر تخصُّ قراءتي هذه -لا يمكن ذلك- دونَ الإشارة إلى تلك العوالم، لسببين:

الأول: أنَّ هذه (العوالم بالأساس) هي أثر من آثار الوجود الإنساني، لا يَمحوها إلا الموتُ (بداهة)، وهي بالنسبة للإنسان أشياء جوهرية تُحصِّنُه من الضياع المادي والحسِّي والنَّفسي معا، وتُعيدُهُ الشعورَ بجدوى الحياة واستمرارها.

والسبب الثاني: أنها المشترك الذي يوحدُ شواغل التفكير والوجدان، فمُحال أن نجد إنسانا عاقلا مدركا لا يغلب على اهتمامه التفكير في مثل هذه الأشياء، ويلج عوالمَها باحثا عن المُفتقد أو مُحاولا تكريس الوعي بها داخل هذه الدوائر التي تُختزل في: الوطن/المرأة/الحرية/الذاكرة/الحنين/الحزن/الفرح..

وبهذا فإنَّ العوالمَ التي أثثت لها الكاتبةُ في مجموعة “شامة بيضاء”، لا تخرج غالبا على هذه الدوائر التي ذَكرتُ بإيجاز، مع العلم بداهة أن كثيرا من الأدباء بل كلهم (على اعتبار أن المشترك واحد) قاربوها سواءً جُملةً واحدة أو مفردة ،كل على حسب رؤيته وخلفيته الفكرية والمعرفية.. لكن إن كان السؤالُ المُلحُّ هو: ما الجديد؟، فسنقول: أن الجديد يكمن في كيفية التناول والتوظيف، لأن كل مبدع يصوغ نفس القضايا بشكل مختلف عن الآخر ويُصغي إليها بالنحو الذي يفرضه عليه وحي الإبداع وقلق الوجود، وهناك يكمن سر الإبداع وحقيقته وماهيته. ولهذا فإنَّ المبدعةَ ضمن مجموعتها “شامة بيضاء” تبدي رؤيتها الشمولية للأشياء، مُمتاحةً بعض الوجع إنْ لم نقل كله من الواقع، ثم مُحوِّلة رؤيتها إلى إبداع مقروء، مسترسل بلغة شائقة بديعة. لغة شعرية تغزو ثخوما أخرى قصدَ إنتاج المعنى، مرتكزة على الانزياح والمجاز وخرق الدلالة، وتطويع العبارة لتوافق الإشارة، واستنطاق الأشياء ومساءلتها بغية تصوير مشاهد من الحياة لا من خارجها ومن الواقع اليومي.. من عمق المأساة لا بعيدا منها. الكاتبة ترسمُ لوحاتها الفنية بآلية الحروف، وتلوِّنها بلون مختلف، قلَّمَا ننتبه إلى أهميته في الحياة، لأنه في عرفنا يُشكل الفراغات… لهذا فهي لم تلون إبداعها باللون الأحمر الدال على الدم، أو الثورة، ولا على الأسود الدال على الحزن والألم، وإنما بالأبيض الذي هو سمياء الفرح والأمل والمحبة.. رغم محيط يُنبث ألما وأوجاعا…

ثم لعل أول خرق دلالي يقابل القارئ في هذه الإضمامة يتمركز في بنية العنوان الذي رُكِّب من كلمتين: (شامة بيضاء)، مما يُرغم القارئَ أن يعيد ترتيب مفاهيمه للأشياء بناء على هذا المعطى، وهذه العملية لن تتأتى إلا بقراءة مضمون الكتاب حتى تستسلم له العبارة ويُفسرها تفسيرًا مرتكزٍ على وظيفة الخيال كي يتسنى إدراك ما وراء لغة العنوان، وإدراك ماهية المَقولِ عند الكاتبة إيمان زياد.

ومن المعلوم بمقتضى إدراكنا القبلي، أنَّ لون الشامة أسود وأن محلها الوجه، وهذا يحيلنا على تلك العلاقة ما بين السواد والبياض كلونين متناقضين، بيدَ أنَّ تناقضهما لا يمنع من تشَكُّيل الإنسجام بينهما، بحيث أن وجود الأول مرتبط بوجود الثاني، فالأسود (مثلا) لا يمكن أن يبرز ظهوره للرؤية إلا بوجود الأبيض، والعكس أيضا، بمعنى أن الشامة السوداءَ قد يتجلى وضوحها إن كانت على وجه مُبيض، لكن أن تُعكَس الصورة فهذا ما قد يوقفنا على عتبة التأويل، خاصة وكما قلنا أن عبارة شامة بيضاء تُربك كل معرفتنا بالأشياء، وبالتالي وجب خلقُ تصور جديد مبني على عملية إنتاج معنى جديد له دلالة أخرى مستوحاة من انعكاس الصورة الحقيقية على مرآة المجاز، واستخلاص المغزى من الدلالة الغريبة إلى ساحة المألوف، بمعنى رفع ستار الغرابة عن القول كي يتجلى مألوفا حين تتضح حمولته المَقصدية، فالشامة البيضاء فرحٌ وسط سواد الحزن والألم الممتد والمتسع كلَيلٍ أرخى سدوله.. هي فرح وتفاؤل وأمل في عالم ينزع إلى السواد والعتمة ويتلون بلونه. تقول:

“سأبسط كفّي.. حديقة/تتأهب بين شقوقها المراجيح/ وتدوّي في سمائها/فتنة التحليق/فينشغلُ بها الموتُ/ عن أطفالنا/ولو برهة”ص11

وإنه نوع من استراق الفرح الضئيل وسط عوالم مزعجة ومقلقة: ” يُحدثُ السّريسُ/حياة في شق مهجور”، أو كما صورت لنا الكاتبة في النص (51) من صفحة: (40/41)

 وبهذا يكون هذا الفرح بقدر وحجم الشامة التي هي جزء ضئيل جدا مقارنة مع المساحة الأخرى. لكن في المقابل لا يمكن أنْ يبرز هذا الفرح في غياب الحزن أو في انعدامه! فنقطة بيضاءَ واحدة تكفي أن تَظهر في ثوب أسود، بل قد لا تكون نشازا حين تأتي في موضعها المناسب، فتُجمِّل ما استقبحَهُ الذوق واستنكرته الفطرة سالفا، كما أنها تُجمِّل حياةَ الإنسان ببعض لمسات الفرح والسرور وسط سواد الحال.

ثم، وبناءً على القرينة التي تم الاستدلال بها سابقا يتضح أن المبدعةَ الفلسطينية تدعو الإنسان إلى إنتاج سبل الفرح ضمن واقع مليء بالمنغصات، ورغم الحزن والألم الغالب على سيرورة الحياة ورغم الواقع الموجع اجتماعيا وسياسيا، خاصة وأنه لا يمكن تَجاهل الإشارات التي جاءت في سياق كثير من النصوص تومئ إلى حال أطفال غزة الصامدة تحت قصف الاحتلال الصهيوني والجرح الفلسطيني.. فإنه على الأقل يفتح الإنسانُ من الحياة نافذةَ أمل وبسمة حتى إن كانت بقدر كوة صغيرة. وكما قال المتنبي: لا تحسبوا رقصي بينكم طربا / فالطير يرقص مذبوحا من الألم.

وفي تصور آخر: البياض ليس حيز الفراغ بل هو موطن الفرح..

وكما يحيلنا هذا المفهومُ على ثنائية التقابل بين الأبيض المتمثل في الشامة كالفرح، والأسود الذي يمثل أحزان الحياة ومعيقاتها وجراحاتها، فإنه يحيلنا أيضا على مفهوم الحضور والغياب كثنائية أخرى خاضعة لمنطق التقابل، فإن كان الأبيض لا يَبرز إلا على السواد، (كالبدر في سماء الليل) والأسود لا يبرز إلا على البياض، فالغياب لا يتحقق معناه الأصلي إن لم يكن هناك حضور سابق، وبالتالي فالحضور لا يَستشعر أهميتَهُ الإنسانُ إن لم يكن هناك غياب يتربص بلحظة الحضور، ويبعثر مشاعر الإنسان، ويُربك احتمالاته، تقول: “علِّمها… وأنت تهشّم بالفأس/ وجودا معطوبا مسه الغياب”ص40

وبهذا فمن خلال قراءتي للإضمامة أبصرتُ ملمحَ الغياب، سواء جاء في الكتاب تصريحا أو تعريضا أو ذُكر نقيضه الذي هو الحضور..

وبما أن تيمة الغياب شغلت نصوصا كثيرة في الكتاب فهذا يدل على أنه يعتبر من شواغل الذات عند الكاتبة عقلا ووجدانا – ومع ذلك لا يمكن تقزيم مفهوم الغياب داخل الإضمامة، فهو مفهوم فضفاض، لأن أي شيءٍ مفتقد قد يتبنَّاه هذا المفهومُ، كغياب الكرامة، الحرية، الفرح، النخوة، غياب الأحباب باستشهادهم في مقاومة الاحتلال، غياب حق المرأة في إثبات ذاتها، كينونتها كما ألمحت الكاتبة في أكثر من نص…- ولنقل أيضا أن الكاتبة تحاول أن تؤسس الوعي به وبما يُخلِّفه من أثر نفسي على الإنسان عموما في ظل متغيرات الحياة، أو أنه محرك ديناميكي يزج بالاحساس في دائرة الحزن العميقة: “يحزن لخطوي الخالي منك (…) /ليتها تشفق الطرقات أيضا عليَّ… /تضع في كفي أنفاسك…”ص17

كما تصور لنا الكاتبة بلغتها الشعرية المغسولة بالجمال تلك الحالة العميقة التي تستحوذ على الذات الشاعرة بشعور بالافتقاد والحنين إلى الغائب، بعد الرحيل، فهي تقول في نص (30): “مذ رحلتَ/وأنا أجرب/فضّ علاقتي/بمقبض الباب”ص28، على ما يدل أن الكاتبة تشير إلى الذات التي تعيش لحظة انتظار وترقب وحالة من التوهم بعودة الغائب من نفس الباب الذي رحل منه، لكن شيئا بداخلها يوَجّهُها نحو حقيقة مفادُها أنه لن يعود، (لأن الراحل بخلاف المسافر) لهذا فهي في حالة من الصراع ما بين أمرين، الأول ارتباطها وجدانيا وعاطفيا بأمل العودة: “وما زال الهواء مشحونا بالأمنيات”36، والثاني محاولة الاقتناع عقليا بأن باب عودته لن يُفتح من جديد، لهذا فإن تجربة فضّ علاقتها بمقبض الباب تُسقطها في حالة التجاذب بين العقل والعاطفة، على اعتبار أن مقبض الباب جزء من الكل الذي هو باب الحضور المحتمل والمفترض، كما أنه في المقابل باب الرحيل الذي ترك أثر الغياب في ساحة النص على قصره. ومع ذلك فالنص يوحي باستمرارية الفعل…

وفي ظل معنى الغياب قالت في نص آخر: “..لو أن يده تعرج/ نحو الهاتف /لينفذ بريقي/ نحو النصف الاخر/ من الكرة/ الأرضية”36

وفي هذه الحالة التي تتخللها مشاعر الإفتقاد والاحساس بالحاجة إلى الغائب الذي أسره الغياب ومنعه من تحققه في عالم الحضور، فهي تصرِّح: “وأنت تنقر قلبي بالغياب”79

الغياب الذي يضيِّق ما رَحُبَ من الحياة ويُجمِّد حركتها وحيويتها ويعرقل مسار الفرح المتجدد في عمق الذات، فتشبه (الكاتبة) هذا الحال بـالاختناق فتقول: “الاختناق، توقف الوقت تماما عند غيابك”83

 بهذا نلمح أن الغيابَ منتج للحنين والحزن: “وتغمض جرح الغياب”11، والحضور منتج للفرح: “صدري فجرٌ يمزق العتمة”37، فمُبتدأ الغياب هو الفراق: “ومشينا إلى الفراق كل يجر المسافة نحوه”30، ومبتدأ الحضور هو اللقاء: “ها أنا حييت لأرى روحي تمشي على الشوك …ثم نمضي رفيقين مسهما الفراق”10. بيد أن حالة الحضور زهيدة مقارنة مع حالة الغياب المستأثرة بالمشهد، لهذا كان الألمُ والحزنُ عميقين ومتسعين لا تظهر وسطهما بقعة الحضور إلا بحجم شامة بيضاء، تشع بالأمل والفرح وسط سواد عريض.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى