مقاربة أسلوبية في قصیدة “ملحمة الصمود” لسمیر العمري (ج2)

مقاربة أسلوبية لقصیدة “ملحمة الصمود”
المستوی الصوتي
اهتمّت الأسلوبية بالمستوی الصوتي ودوره في إنتاج المعنی اهتمامًا کبیرًا وذلك لما لقیه علم الأصوات من مکانة مرموقة في ضوء علم اللغة الحدیث.لا ریب أنّ الصوت یخلق أثرًا کبیرًا علی المتلقي ویثیر في کیانه هیجانًا وردّة فعل تجاه ما ورد في النص أو القصیدة من أفکار ومواقف.فدراسة الأصوات في خارطة النص الشعري تعدّ بوّابة للدخول في عالم النصّ الأدبي والغوص في عالمه الداخلي.من ثمّ نتناول دراسة الأصوات ضمن هذه القصیدة تبیینًا لطبیعة الأصوات وعلاقتها بالعناصر اللغوية والمظاهر الأسلوبية الأخری.
یعتبر الصوت عنصرًا أساسیًا وهامًا في نظام اللغة، إذ تتضح قیمة الأصوات من خلال ما تکشف عن المعنی والدلالة وهي أصغر وحدة في إطار اللغة،ذلك لأنّ الصوت «عرض یخرج مع النفس مستطیلًا حتی یعرض له في الحلق والفم والشفتین مقاطع تثنیه عن امتداده واستطالته، فیسمّی المقطع العارض له حرف.» (ابن جني، 1954م: 6)
من أکثر الأصوات تردادًا في هذه القصیدة، الأصوات المجهورة التي تدلّ علی القوّة والشدة، فالمراد بهذا النمط من الأصوات تلك الأصوات التي تخلق حرکة عند الخروج من الوترین الصوتیین حیث «علماء الأصوات اللغوية یسموّن هذه العملية بجهر الصوت والأصوات اللغوية تصدر بهذه الطریقة أي بطریقة ذبذبة الوترین الصوتیین في الحنجرة تسمّی أصواتًا مجهورة، فالصوت المجهور هو الذي یهتزّ معه الوتران الصوتیان.»(أنیس،1961م:21) تنطوي هذه الأصوات في اللغة العربية علی ثلاثة عشر حرفًا وهي: ب،ج،د،ذ،ز،ر،ض،ظ،ع،غ،ل،م،ن ویضاف إلیها أصوات اللین.
طبعًا لا یتسع لنا المجال لمعالجة کافّة هذه الأصوات المجهورة وفي هذه العجالة یشار إلی أکثرها ورودًا في نص القصیدة. وقد توزعت کما یبینه الجدول التالي:
الصوت | عدد التواتر |
العین | 25 |
الغین | 17 |
الهمزة | 21 |
الباء | 15 |
اللام | 32 |
النون | 44 |
الدال | 34 |
الجیم | 16 |
ذال | 14 |
ز | 8 |
ر | 7 |
ض | 6 |
ظ | 4 |
نلاحظ من خلال هذا الجدول أنّ الحروف المجهورة من أکثر الحروف توظیفًا ضمن خارطة النص الشعري لما له من تأثیر واضح في التعبیر عن التجربة الشعرية والشعورية للشاعر المقاوم.الذي یتمثل لنا خلال هذه القصیدة أنّ الشاعر حاول عبرها ترسیم إدانة الممارسات الإجرامية للکیان الصهیوني ضدّ الشعب الفلسطیني العزّل وتصویر ما حل بهم من قتل ودمار وإراقة دماء الأبریاء.أراد الشاعر في هذه القصیدة المعنونة “ملحمة الصمود” تصویر ذلك الصبر الحاسم والعزم الراسخ والمثابرة النموذجية لهذا الشعب المضطهد تجاه الکیان الصهیوني المدجّج رغم کل الحصار والقصف واغتصاب الأموال.
تبین لنا عبر هذه القصیدة أنّ صوت (اللام) و(النون) من أکثر الحروف توظیفًا في القصیدة حیث تدلّان علی الأمل والوجع والمرارة.کما أنّ اللام تعبّر عن معنی الألم والأنین وتحمل في طیاتها معنی عدم الاستسلام والرضوح من خلال الاقتران بألفاظ (الإباء، العلاء، اللُّجج، لیث،و…)،وأیضًا نجد هذا المعنی لحرف النون ضمن هذه المفردات (نار،نصر، نهار،سنابل، نوائب، عرین و…).یدلّ انتقاء هذه الأحرف المتلاحمة مع المواقف النفسية علی الجذور القدیمة في اللغة العربية لاختیار هذه الأحرف عند الشاعر العربي،لأنّ العرب «یجعلون الحرف الأضعف والألین والأخفض والأسهل والأهمس لما هو أدنی وأقلّ وأخفی عملًا وصوتًا،ویجعلون الحرف الأقوی والأشدّ والأظهر والأجهر لما هو أقوی عملًا وأعظم حسنًا.» (الرافعي،1974م:107) بناء علی ذلك، أکثر الشعراء المحدثون من توظیف هذین الحرفین – أعني اللام و النون- لما وجدوا فیهما من انحراف عن التعبیر عما خامرهم من مشاعر وأحاسیس تنسجم مع الواقع المحیط بهم،فاعتمدوا علی توظیفهما بکثرة في قصائدهم لتجسید ما ألمّ بهم من واقع وتصویر ما هو مرجوّ ومطلوب لیصبح واقعًا معاشًا،فظلّ هذان الحرفان متنفسین کبیرین یضافرانهم علی التعبیر عن الواقع ومختلجاتهم والتصریح عن مکنوناتهم ومشاعرهم تجاه الواقع المعیش، فلم یجد هذا الشاعر متنفسه، إلا عبر إیراد الحروف المجهورة لکثرة دلالاتها القوية والعمیقة لانسجامها مع المعاني التي تمّ تمثیلها ضمن خارطة النصّ الشعري لیخلق إیقاعًا موسیقیًا تستسیغه الأذن فیهیج مشاعر المتلقّي تجاه القضية أو القضایا المطروحة في النص المبدع (نورالدین، 1996م:79).
نلاحظ أنّ الأصوات المجهورة خاصة اللام والنون ضمن خارطة النص الشعري تعبّر عن معنی الألم والوجع والحزن الناتج عن الاحتلال الأجنبي للوطن الأمّ.
إذن،فاللام والنون تدلّان علی التفائل بحیاة أفضل ونموذجية بعد هذا التدمیر والتهجیر والتقتیل ولاتزال شمس الانتصار تبزغ في فضاء الوطن المقهور وسوف تبدّد الظلام الدامس.
إنّ المتأمل في امتداد هذه شبکة النصّ الشعري یجد أنّ هیمنة النون واللام فیها تجسّد ذلك الصراع المحتدم الذي ینتاب الشاعر المقاوم وتحیط بذاته الشاعرة وتمثّل نمطًا کبیرًا من الصراع بین الأمل والألم،بین الواقع المعیش المزري والواقع المأمول والمطلوب الذي سوف یتبلور وإن طال به الزمن.
لقد وظف الشاعر هذه الأصوات في موقف یعبّر فیه عن تلك المواقف الشعرية والشعورية لیمثل عبرها تلك التجربة الذاتية التي تعتصر نفسه وتثیر خلجانه الروحي،فلم یجد للتعبیر عنها سوی هذه الأحرف المجهورة لتوصیل الرسالة والغرض إلی المتلقي لیساهمه في الآلام والأوجاع،ومن ثمّ اتخذها متنفسًا یخفف من آلامه وأحزانه،فجاءت هذه الأحرف مفعمة بالمرارة والحرقة الروحية،لأنها تنبع من قلب أحرقه الاحتلال والاغتصاب والتهجیر.من أقلّ الأصوات استخدامًا في القصیدة (الضاد والظاء) والسبب یعود إلی أنّ کلا منهما یحتاج إلی مجهود قلیل في النطق به ولذلك لم یکثر الشاعر من توظیفهما.ولعلّ قلّة التوظیف تعود إلی استسلام الحکام العرب وبعض الدول الإسلامية أمام سطوة الکیان الصهیوني عثورًا علی مصالحههم الشخصية وترویج فکرة تطبیع العلاقات مع الکیان الصهیوني المزیف.وهذا یعني أنّ (الضاد والضاء) تعبّر عن معنی التماسك والتلاحم والتضامن علی خلاف ما ذهبت إلیه الدول العربية والإسلامية.
الحروف المهموسة
لاحظنا مسبقًا أنّ الشاعر عمد إلی توظیف الحروف المجهورة تعبیرًا عمّا خامره من مواقف روحية ونفسية خلقتها قضایا مختلفة خاصة ما یمتّ بصلة إلی قضية الاحتلال الأجنبي لفلسطین،مسقط رأسه،فقام بتوظیف الأحروف التي تمثّل هذه الحالة المأساویة أکثر تمثیل. استعمل الشاعر المقاوم الأحرف المهموسة أیضًا کأداة تناسب تلك المواقف الشعرية وصارت هذه الحروف وسیلة مطواعًا تخدم المواقف الرؤیوية للقصیدة.
المراد بالهمس هو ملمح صوتي یتمیز باللیونة في طبیعته وتکوینه،وفیه ملمح من الحزن وأحیانًا علی العکس من الجهر،فلا اهتزاز معه للأوتار الصوتية،فالصوت المهموس هو الذي لا یهتزّ معه الوتران الصوتیان،ولا سمع لها رنین حین النطق به والصوت المهموس بهذا المفهوم کل صوت تمّ إخفاؤه فیه لیونة یجري النفس مع الحرف لضعف الاعتماد علیه. (أنیس،1961م:20)
إنّ المتمعن في هذه القصیدة یجد ضربًا من التوظیف الدقیق لهذه الحروف المهموسة التي تناسب الموقف والأزمة الروحية التي اعتصرف نفس الشاعر وأثارت أحاسیسه وعواطفه الدفینة.یمثل هذا الجدول أکثر الحروف المهموسة دورانًا في هذه القصیدة:
الصوت | عدد التواتر |
التاء | 56 |
الحاء | 39 |
السین | 27 |
ث | 6 |
خ | 12 |
ش | 20 |
ص | 11 |
ط | 8 |
ف | 10 |
ق | 9 |
الکاف | 8 |
الهاء | 5 |
نلاحظ عبر إمعان النظر في ثنایا هذه القصیدة أنّ توظیف هذه الحروف تتلاحم والموقف الشعري والشعوري.کما نشاهد خلال هذا الجدول أنّ التاء من أکثر الحروف ورودًا في القصیدة وهي ما جاءت في المفردات التالية (الانعتاق،البطولة،التراب،البیت،التوت،التِّبر و…).لا ریب أنّ کثرة الورود لهذه الأصوات المهموسة تعمّق الدلالة والتمطیط عبر خارطة النص الشعري مما تجسّد تلك المواقف المتأزمة والمأساوية لدی الشاعر حیث تنسجم مع ثیمة الحزن والألم وتمثّل تلك المشاهد المأساوية والمحزنة للوطن المعیق.
یحیل بنا توظیف الحاء في القصیدة نحو ترسیم تلك العلاقات الوطیدة والمتشابکة بین الصوت ومعناه النفسي الذي ورد خلال ألفاظ ( الحماقة،الحقد، الحِمَم،البحر، الجراح،الحروب، الحصار،الأرواح…).فلا ریب أنّ هذه الحروف کلها توحي بالإعتاق والحرية التي جعلها الشاعر ملجأ ینفس به عن آهاته ومکنوناته فنثرها في ثنایا قصیدته لیضفي علیها ضربًا من السلاسة والخفّة التي تحمل في طیاتها دعوة إلی التغییر ونفض الغبار عن الماضي في محاولة لصنع غد أفضل تشرق فیه شمس الإسلام علی المظلوم،وتصان فیه الحقوق.(خمیس، 2009م: 26)
نلاحظ أنّ توظیف السین عبر القصیدة التي تکررت 27مرة واضحة في النص الشعري ومنه ما ورد في کلمات (استمرأ، السُّبل، الأنفاس، السیف، السلاح، السنین، الکأس و..).یدلّ هذا الحرف في کیان الشاعر المتأزّم علی ترسیم بسمات الأمل والرجاء نحو المستقبل المشرق للشعب المقهور،فضلًا عن الوظیفة الإیقاعية التي تنمّ عن عمق الشعور الإیماني بمستقبل أفضل وأعلی.
إذا قمنا بالمقارنة بین الحروف المجهورة والمهموسة عبر هذه المقطوعة الشعرية نجد أنّ الحروف المجهورة جاءت أکثر توظیفاً بالنسبة إلی المهموسة وهذا یدلّ علی أنَّ القصیدة المعنونة “ملحمة الصمود” لا تصور لنا حالة الهدوء والاطمئنان لدی الشاعر المقاوم،بل جاءت هذه الحروف لتعبر عن الرفض والتمرد والمواقف الثورية وترسیم الحقیقة المأساوية للشعب الفلسطیني العزّل وما یعیشه هذا الشعب من ظروف تعسة ومأساوية.
⇐ الجزء الثالث