نقد

سيميائية العنوان في مجموعة “وداعا أحلام الغد” للقاصة سعيدة لقراري

إنَّ أولَ لقاء مادي محسوس يتم بين الكاتب والقارئ يكونُ على مستوى العنوان، على اعتبار أنه عتبة الكتاب بل وسمتهُ كما عرّفه ابن منظور. والسمة هي العلامة، كما ورد في الآية: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)1. ووظيفة العلامة هي التعريف كقوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)2. وفي سياق الكلام هي الدال على الشيء (المدلول) أو المشيرة إليه قصدَ إدراك المعنى المباشر الواضح من ظاهر اللفظ بغير واسطة، أو بُلوغ “معنى المعنى” الذي هو إدراكُ معنى معين من اللفظ ثم يُفضي إلى معنى آخر “ومدار هذا الأمر على الكناية والإستعارة والتمثيل”كما قال بذلك الجرجاني3، وهذا في اعتقادي هو المعنى الإيحائي.

لهذا، ونحن نروم قراءة المجموعة القصصية “وداعا أحلام الغد” للقاصة سعيدة لقراري، فإننا مُجبرون أمام عنوانها الصادم – المخطوط باللون الأحمر على إطار غلاف أبيض- أن نقف على عتبته مستائلين عن مفهوم الأحلام داخل الحقل الدلالي لهذا العنوان خصوصًا وفي المجموعة عمومًا، أهي أحلام متعلقة بالمنام مما يراه النائم من أحداث يتداخلُ فيها المُمكن بالمستحيل بحيث يؤسِّس عوالمه بعيدا عن سلطة الواقع ورقابة الزمن، أم هي دالة على الطموحات والأمنيات.. أو ما يستقر بعمق الإنسان من رؤى يطمح إلى تحقيقها في غده القادم.. بالبشائر..؟

ولفظ الحلم إذ يرتبط بالغد، فيمكن أن يُفسَّر على أنه الطموح والأمنية..، لأن عبارة “أحلام” في تركيب العنوان، مضافة إلى “الغد” إضافة تعلُّق وتلازم وانتساب، فهي جزء مبدئي من غد لم يأتِ بعد، أي هي في مقام “أجوبة اليوم على أسئلة الغد” كما قال إدغار كايس، هذا الغد الذي يُهيّأ في الغيب بعيدا عن الحاضر، كحمل تتشكل ملامحه في زحمة الأحداث والوقائع. ولما يكون الحاضر قاسيا عصيا فإنه يُجهِض الحمل/الحلم، الذي كان يرى فيه صاحبه غده المزهر، كمرآة تعكس صورة الغيب، أو كتصور مبني على البحث وانتظار الأفضل/البحث عن الأرقى/ عن الخلاص…

ورغم هذا  التفسير لا يمكن إغفال دور حلم المنام في احتواء مكبوتات الطامح، على اعتبار أنه يمثلُ فضاءً فسيحا يلجه الحالمُ بعد التحرر من قسوة الواقع (مؤقتا) كي يرى نفسه كما تمنى لها أن تكون أو كما قال أحدهم: “احلم وامنح لنفسك الإذن بأن ترى نفسك كما تختار لها أن تكون” وهذا بناء على شواغل الوعي واللاوعي عنده، كما حدث  لـ” دريس” في قصة “لمتعلم”، الذي استغرق في نوم عميق أنساه الجوع والعطش – بعد تعب يوم قاس- “ذهب به إلى أحلام يتساوى فيها مع “لمعلم المختار”، ومع أيمن أيضا، رأى نفسه يشاركه في لعبة كرة القدم وينتصر عليه”4. وكما جاء في قصة “طفلة المحطة” التي ملّت من انتظار أمها الغائبة، حتى قالت: “إيه، زاد الإنتظار من وحشتي.. حتى أني صرت أنتظر عودتها أثناء نومي أيضا”، فحلم المنام ما هو إلا عالم مواز للعالم الواقعي إليه يلجأ الإنسان رغما عن إرادته الفعلية حيث يضيق به الواقع، “فالأحلام تمنح جرعة كبيرة من الأحاسيس، وأحاسيس الإنسان تقوده مجددا إلى الأحلام” كما قال الأمريكي أموس برونسون ألكوت.

إن الحلمَ المُجهض أو الأحلام المُجهضة يودِّعُها صاحبُها كما يدل على ذلك العنوان، لهذا فإن دلالة الوداع (لغة) لا بد أن تُفهم أساسا على إلتقاء مُسبق، على اعتبار أن لدينا طرفان: المودِع والمودَع، فالأول يشيِّع الثاني بعد تلازم وبعد تلاق حقق علاقة تعاطف مكتملة يمكن أن تُفضي حسب دلالة العنوان الضمنية إلى تصوير مشهد تراجيدي/ مأساوي، (لأن الوداع يساوي الفراق). ولما كانت الأحلام جزءا من كينونة صاحبها فإنها تعبّرُ عن رؤية مستقبلية لحياة رهينة في قفص الحاضر، وبديهيا لم تَنْبنِ هذه الرؤية إلا على ترابط نفسي وعاطفي محض وتلازم قوي وعلى علاقة فكرية وطيدة، وبهذا يتحقق الشرط الأساسي للوداع، وبالتالي فإن الواقعَ المُهترئ  إن لم يُستدرك بالإصلاح لن يتجاوز دورَ المحطِّم ولن يكون إلا مساهما في إماتة الأحلام وإعدامها قبل تحققها.. وهنا يسطع المعنى الحقيقي لمفهوم الوداع أو بتعبير آخر: تشييع كل أحلامٍ أقبرها الواقعُ البائس حتى إن كانت هذه الأحلام بسيطة بقدر ما كانت تتمناه الطفلة نجمة: (أن تعود إلى مدرستها… أن تعود إلى حضن أسرتها… أن تعتني بعنزتها) قبل أن يُقضى على أحلامها وحياتها معا في عملية استغلال لا أخلاقية. أو بقدر حلم شخصية قصة “السقطة الأخيرة” التي كان أقصى أمنياتها أن تربي طفليها وتوفر لهما مأكلا وملبسا، بعد تخلّي الزوج عن دوره بسبب العبث والإنحراف، لكن حلمها يسقط مع سقطتها الأخيرة والمُميتة..

إن ما يُعلنه العنوان من وداع لأحلام الغد يُعلن معه أفقا مغلفا بالتشاؤم، وهذا هو المعنى المباشر، كنوع من إيهام القارئ، واستدراجه. رغم أن الكاتبةَ لا تكرس مفهوم التشاؤم ولا أنها تدعو إليه، وذلك واضح من عدة قرائن في النصوص ومنها هذه: “فأنا أحتاجني في غد قد يعترضني فيه ما أشتهيه… اشتدي هموم تنفرجي..”5، لهذا كان لابد من قراءة ما وراء العنوان أو بمعنى أدق إراك معنى المعنى (الذي تكلم عنه الجرجاني)، وهذا عن طريق تتبع الخيط الرابط بين النصوص، وما تطرح من إشكالات عصيبة مأزومة، حتى ندنو ولو قليلا من زعزعة فكرة التشاؤم التي تصدم كل قارئ من أول قراءة للعنوان أو عناوين النصوص. فالكاتبة وإن  نزعت إلى تشكيل “غلالة حزن مبطنة عكستها العناوين والعوالم” كما يقول ذ.الزياني عبد العالي في المقدمة  فهذا لأنها تحاكي من الواقع الجانب القبيح والأسوء، وهذا بغية إبراز الخلل، وشد انتباه القارئ إلى إعادة النظر، لأن التعود يلتهم الأشياء، والتكرار عدو الإهتمام يُفتر الاستجابة الفعلية،  لهذا فالنصوص دعوة للتأمل في دقائق الأحداث والوقائع والنظر في أسبابها.. فلكل مأساة في قصص المجموعة سبب داعم، وعليه، فإن استجلاب السؤال أمر مشروع، لأن “النص الأدبي لا يعرف الاستقرار والجمود، ذلك أنه يخضع لمنطق خاص هو “منطق السؤال والجواب”6 وبالتالي سنفترض هذا السؤال: (كيف سيكون الأمر لو عولجت الأسباب قبل وقوع الحدث؟) ألن تُمنح لأحلام الغد حق الحياة؟ ألم تقل في قصة عبور: “فهل لنا بتزيين الأنقى بالأبقى”؟ (الأنقى/ الأحلام، والأبقى/ الحياة)، هذا هو السؤال الذي أزعم أن الكاتبة تطرحه ضمن نسق المجموعة وتسوقه كإشارة مضمرة لأن بضدها تتضح الأشياء كما قيل، بل وكما عبرت عنه القاصة في المجموعة: “كلما اطلعت على الآلم البعض..، أزداد يقينا أن علي أن أتشبت بحياتي أكثر”7 ، والتشبت بالحياة هو الاصرار على الاستمرار في بناء أمل جديد وأحلام متجددة.

ورجوعا إلى المحور ذاته، فإن غالبية القضايا المتناولة في المجموعة لا تخرج عن إطارها الاجتماعي والنفسي، بل تمتاح وجودها من الواقع، فوَظفت (القاصة) داخل النصوص تقنية العين الراصدة قصد تتبع وإضاءة جانب من حياة شخوص أوهنها الضعف فاستسلمت للألم، وحتّمت عليها الحاجة والفاقة أن تنساق مرغمة لسيف الظروف في مسلسل الوجع الحارق، تماما كسيدة قصة “على باب الله” وهي (تدب خائبة بين البرك) كنوع من التخبط في ممشى تحفه المعيقات. وبهذا طرحت القاصة قضايا أساسية منها:

  • تشغيل الأطفال في سن التمدرس. أؤلئك الذين مازالت لديهم الرغبة في اقتناص لحضات اللعب والمرح والحلم…
  • قضية تشرد أو تشريد الصغار واستغلال براءتهم في عملية التسول، ووئد أحلامهم الصغيرة تحت تراب الأسباب…
  • الخادمات الصغيرات وما يتعرضن له من احتقار وعنف لفظي يقضي على زهرة أمانيهن وأحلامهن الوديعة، واستغلالهن جنسيا…
  •  معاناة نساء ساقتهن الظروف إلى العمل في الحقول والمزارع – ورحلة الشقاء اليومية- أو بيع المأكولات قرب المدارس لدعم أبنائهن بعد أن تخلى عنهن المعيل بسبب العبث واللامبالات، أو لسبب آخر…
  • عزلة بعض المناطق بسبب هشاشة الطرق والجسور حين تؤثر عليها الأمطار، والمخاطر التي يواجهها المواطنون في مغامرات العبور..

إنها حياة أشخاص على الهامش، قليلٌ من ينتبه إليهم وإلى معاناتهم في ركن الدنيا المنسي، يقولون بلسان حال شخصية نص عبور: “لا تبخسني حلمي خاصة وأنه أسلوب حياة في مجرى عمر لن يتوقف عن التقدم بي ولن أتوقف عن محاولة السعي به إلى حيث أريد..، كما ترى لم يعد هناك فيه متسع لحمل وتحمل متلاشيات الظنون..، لك ظنك ولي ظني الذي سأثق بركضي من خلاله..”8

وبهذا نستطيع أنْ نخلصَ إلى أنَّ هذه الإضاءة لجوانب من حياة هذه الفئات المجتمعية تُضمر بين طياتها رغبة ملحة في إعادة بعث الأمل في النفوس الواهنة، حتى لا تصطدم بأفق مظلم متشائم لا تعيش فيه الأحلام ولا تنمو، بل تموت، إنها ليست دعوة للتشاؤم لأن ” الأمل عال، والأيام دول” بتعبير ذ.الزياني عبد العاطي، بل هي دعوة إنسانية لتكريس مفهوم الإصلاح الصحيح والنظر في الأسباب… بعيدا عن أي شعار إيديولوجي لا صوت فيه إلا الطنين كصوت خشب التابوت..

هذا، وبعد:

فإن أسلوب القاصة سعيد لقراري فيه متسع لنبض شاعري يفتح عوالمَ لم تطأها قط قدمُ تعبير على مستوى تركيب اللغة (أزعم)، فهي تمتح لغتها المرنة من معجم عربي تحلى بالجمالية والرشاقة، فبين تفاصيل هذه النصوص – تحديدا- المعنونة بـ: (رحيل – المرحوم – صدى البقايا – نحو الشاطئ – عبور – رنة نهاية – نشيد الآتي – الرقص مع الغائب – نبض متآكل) نجد انسيابا في التعبير يساهم في دعم عملية السرد وتنميقه، ويقتنص من خلاله القارئ متعته القرائية، كما يجد نفسه معنيا – داخل إطار النص- بفهم علاقة كل شخصية بالأخرى، ويبني تفسيراته على الخطاب سواء النفسي (المونولوج) أو الموجه للمخاطب حاضرا كان أم غائبا، وبهذا الشكل فإن القاصة فتحت للقارئ فرصة كي ينتمي إلى النص قصد احتضانه وإشراك خياله في تتبع ورصد حركة الأشياء المساعدة في تصوير المشهد القصصي بتقنية مرنة ومطاطية، تقبل من القارئ تأسيس الإفتراضات، لأن النص في مجمله ليس معطى جاهز على اعتبار أن للقارئ مهمته الخاصة، التأويلية بالأساس.

مجموعة قصص “وداعا أحلام الغد” تقع في 58 صفحة من القطع المتوسط، لكاتبتها سعيدة لقراري / مطبعة مراكش. تتوسط الغلاف لوحة فنية للفنان التشكيلي المبدع محمد سعود، والتصميم الخارجي للمبدع حسن قرى.

 

  1. سورة الفتح، الآية: 29
  2. سورة محمد، الآية 30
  3. دلائل الإعجاز
  4. وداعا أحلام الغد، ص: 20
  5. عبور، ص: 39
  6. عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة ص: 51
  7. وداعا أحلام الغد، ص:41
  8. ص: 40

 

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى