تعكس قصائد الشاعرة الفلسطينية الأستاذة جهاد بدران شدة شعورها بالانتماء إلى الوطن المحتل، ومدى وفائها لقضيته، التي تمثل قضية العرب والمسلمين الأولى، وما في خلفية ذلك من كفاح الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للخذلان من قبل ولاة أمور المسلمين الذي تركوه وحيدا في الصراع لانشغالهم بكراسي الحكم ومتطلباتها من التبعية والخنوع لأميركا و(إسرائيل).
وفي هذه القصيدة التي جعلت عنوانها (نأمة البوح من جوف الروح) تسمعنا نأمة بوحها من جوف الروح، التي تعاني وتكابد شقاء الوطن في محنته، والتي لا يزيدها الزمن إلا اختناقا وضيقا.
وجلجل صوت الشّوق يُزجي خواطري
جوىً، وأنا المكدود بين الدّياجرِ
خلافاً للصوت الضعيف الخفي في حالة البوح (نأمة البوح) تبدأ الشاعرة مطلع القصيدة باستخدام الفعل (جلجل) الذي استعارته من صوت الأشياء المتحركة بعنف وشدة، لتقترح لحالة الشوق في نفسها مثل هذا الصوت المجلجل. ونحن نعلم في الواقع أن الشوق لا صوت له، وما هو إلا حالة نفسية عاطفية تسيطر على الشعور وتمتلكه فكيف ألحقت به الشاعرة صوت الجلجلة؟ هنا نتوقف عند لحظة التوهج الإبداعي عند الشاعرة، عندما تشعر بالاضطراب والتوتر العاطفي الذي تجد فيه كل خواطرها منساقة (يزجي خواطري) تحت إمرة الشوق باتجاه واحد في تيار شعوري يقود إلى الوطن فنرى في لغة المجاز أن أقرب تسمية لهذه الانفعالات العاطفية هي (الصخب الداخلي) وللصخب صوت يليق به أن يسمى (الجلجلة).
صخب داخلي يسوق ويوجه كل خواطرها باتجاه الوطن الذي وصلت بها حالة عشقه إلى مرحلة الجوى وهي شدة العشق وما يورثه من حزن، وهي الإنسان المتعب المكدود الذي يتقلب بين الدياجر أو الظلمات التي تحيط بالوطن.
ونلاحظ أن الشاعرة قد عمدت إلى صيغة التذكير في صيغة اسم المفعول في وصف نفسها (وأنا المكدود بين الدياجر) ليكون تعبيرا عاما وتكون ناطقة باسم الإنسان الفلسطيني في كل مكان سواء أكان رجلاً أو امرأة، ذلك لأن صيغة الخطاب العام في اللغة العربية هي صيغة التذكير كما هو معروف للجميع.
ألوذُ وفي قلبي شظايا لذكرهِ
ونبرةُ تحنانٍ، تغشّي بصائري
الفعل (ألوذ) يتعدى إلى مفعوله بحرفي الجر بـ أو إلى، ومادامت الشاعرة لم تذكر أو تحدد المفعول أو الملوذ إليه، فسيأخذ الفعل (ألوذ) معنى الهروب، فالشاعرة تلوذ أو تهرب إلى ملاذ ما وقلبها مملوء بشظايا ذكريات الوطن أو شظايا ذكره، بمعنى ذكر اسمه وحاله، ويرافق هذا الذكر المشظى نبرة تحنان -والتحنان هو الحنين الشديد – تؤثر على رؤية الشاعرة وتجعلها لا تبصر مما حولها شيئا (تغشى بصائري)،
أعجبني في هذا البيت دقة اختيار الفعل (ألوذ) لأن إيحاءه ودلالته المعنوية تمتد وتتصل بمعنى اللجوء الذي عانى منه الشعب الفلسطيني في أنحاء الأرض، كما تعاني منه بقية الشعوب العربية الآن في إثر الربيع العربي الفاشل. والشاعرة أرادت الإشارة إلى ظاهرة اللجوء عبر ذكر الفعل (ألوذ) دون تحديد الملاذ لأن الأهمية تتعلق بفعل اللجوء لا بمكان اللجوء.
فتوقظُ من حولي صدى كلُّ نأمةٍ
كأنّ غريباً فضّ سِرّ المشاعرِ
إن نبرة التحنان التي حدثتنا عنها الشاعرة في البيت السابق تمتزج مع صوت كل ما يمكن أن يصل إلى سمع الشاعرة، فكأنها توقظ وتثير تلك الأصوات الخفية الضعيفة التي تسمعها في ما حولها، وكأن هذه الأصوات تكشف أسرار مشاعرها الداخلية وتجعلها معلنة ظاهرة يطلع عليها الغريب ويلاحظها ويفض ختمها.
تُدثّرُني أحلامهُ تُعتقُ الجوى
يلوذ بحمّى الصّمت كتمان صابرِ
الهاء في (أحلامه) تعود على الوطن الذي تتحدث عنه الشاعرة بضمير الغائب في جميع أبيات القصيدة لتعبر بذلك عن افتقادها له في حضوره الذي تستشعر فيه غيابه. وأحلام الوطن تدثرها أو تغطيها كما يفعل الشخص القريب الحميم الذي يرعى من يدثره لتدفئته، فهذا التدثير يعتق الجوى/ عشق الوطن كما يتم تعتيق الخمرة بتغطيتها زمنا طويلا.
وتلتفت الشاعرة من استخدام ضمير ياء المتكلم في الفعل (تدثرني) إلى الضمير الغائب في الفعل (يلوذ) ففاعل (يلوذ) وهو (كتمان صابر) يعود عليها إذا اعتبرنا أنها هي ذلك الإنسان الصابر الذي يكتم شوقه للوطن ولا يجد له ملاذا، بعد أن دثرته أحلامه بالوطن سوى أن يلوذ بالصمت، كناية عن افتقاره إلى الوسيلة التي تعينه على الفعل بدلا من الصمت.
يُسائل عنّي النّجم والبدر شاهدٌ
متى يتجلّى الغيبُ بين النّواظرِ
لأن الشاعرة لم تجزم الفعل (يسائل) باعتباره جواباً مقدماً للشرط فلا بد لنا من اعتبار (متى) اسم استفهام في محل ظرف زمان، لا اسم شرط، وهكذا يكون معنى البيت: أن النجم يسائل عنها والبدر شاهد على ذلك، وتقدم لنا الشاعرة صيغة تساؤل النجم في التركيب اللغوي الكامل في العجز (متى يتجلى الغيب بين النواظر؟) غير أن الشاعرة لم ترسم إشارة الاستفهام بعد سؤال النجم، مما قد يدفع القارئ لقراءة (متى) كاسم شرط، وهو ما لا يؤيده عدم جزم كل من الفعلين (يتجلى ويسائل)
وكأني بالشاعرة تريد القول: إن النجم في السماء يفتقد الإنسان الفلسطيني الغائب عن وطنه.
فـ “الغيب ” من الغياب، والنجم يسائل عن هذا الغياب لأنه يريد للغائبين أن يحضروا ويكونوا منظورين في وطنهم من قِبَله. غير أن استخدام الشاعرة لصيغة اسم الفاعل (النواظر: جمع ناظر/ ناظرة) يعني أن النجم يريد لهؤلاء الغائبين أن يكونوا هم النواظر /الناظرين إليه. فهم الناظرون لا المنظورين، وبالتالي فإن سبب تفقده لغيابهم يبدو في هذه الحالة طمعاً بزيادة عدد الناظرين إليه، وكأن النظر إليه هو الهدف من سؤاله عنهم، مع أنهم يستطيعون النظر إليه في أي مكان ( فهم في الواقع من النواظر) ، وأستبعد تماما أن الشاعرة قد أرادت قول هذا . لذا فإنني أقترح صيغة اسم المفعول (المنظورات: جمع منظور) مع تعديل البيت؛ ليتم للنجم مراده من السؤال، وهو أن ينظر هو إليهم فيراهم في وطنهم. وفي كل الأحوال فإن الصورة الشعرية في البيت جميلة جداً ومبدعة.
فيأرجُ لحن النّاي مِن جوف جُبّهِ
ويأملُ كلّ الحين كشف السّتائرِ
الفعل (يأرج) قد يعني (يضطرب ويضج بالبكاء) وهذا يناسب صوت لحن الناي من جوف الجب، فثمة من يعزف على هذا الناي في أعماق جب.
أو يمكننا قراءة معنى الفعل (يأرج) بمعنى (يفوح عطره)، وتكون الشاعرة قد جعلت لصوت الناي رائحة الأريج فيما يسمى في الشعر بظاهرة (تراسل الحواس) وهذا أجمل، وقد وجدتُ صعوبة في فهم العلاقة بين (كشف الستائر) وأمل الناي الذي يأرج لحنه في جبه، وكأن الأولى به حسب تصوري أن يأمل الخروج من الجب، إلا أن يكون المقصود بلفظة الستائر هو الوجود أو الوقوع في الجب نفسه، فهنا حالة من التعتيم يتعرض لها الناي في الجب تشبه التعتيم الذي تحدثه الستائر عند إسدالها. غير أن صعوبة التخيل عندي جاءت من الصورة الحسية المعروفة للستائر والتي تجعلنا نتصور أن كشفها يعني إزاحتها عن النوافذ وهو بعيد في التصور الشكلي التجسيمي عن (الخروج من الجب). ولعل الشاعرة التي أبدعت هذه الصورة تسعفني كناقدة في فهم تلك العلاقة.
وشمعةُ بوحي من مُدىً بين كفّهِ
وزهرةُ نيسان عروسُ الخواطرِ
قد تعني الشاعرة (بشمعة بوحي) أن تلك الشمعة تضيء لها وعليها عندما ترغب هي بالبوح، على أن هذه الشمعة ما هي إلا سكين من السكاكين التي يحملها الوطن في كفه (مدى بين كفه)، ولدي هنا همسة تتعلق بطرف المكان (بين) الذي يقتضي إما أن يأتي الاسم بعده بصيغة الجمع أو أن يتم بعده ذكر أسماء متعددة فتقول مثلاً (بين الأشياء) أو (بين شيء وشيء).
لذا فإنني أقترح بدلا من الظرف (بين) الظرف (وَسْطَ) وهو يؤدي المعنى نفسه ولا يقتضي الجمع بعده.
وأجمل ما في هذا البيت عجزه (وزهرة نيسان عروس الخواطر) وكلٌ من شمعة البوح وزهرة نيسان مبتدأ والشاعرة تقدم لنا خبرين عنهما. فشمعة بوحها في الأصل مدية أو سكين، لذا فالبوح قد يجرحها. وأما زهرة نيسان فهي عروس الخواطر بمعنى أن تحتفظ بها في خواطرها لتخفف عنها معاناتها (كما أحسب).
أفتّشُ عنّي في قناديل ناسكٍ
ألوذُ وَداداً بين همسِ السّرائرِ
كررت الشاعرة الفعل (ألوذ) ثلاث مرات في القصيدة مما يدل على حساسية هذا الفعل في مخزونها اللغوي، على أن الحال (ودادا) غيَّر دلالة (ألوذ) هذه المرة إلى معنى جديد أرادت به الشاعرة القول: إن فعل اللواذ هذه المرة هو حالة من التودد أو لطلب الود ما بين همسات السرائر.
ولعلها تكنِّي بهمس السرائر عن ممارسة فعل الكتابة الإبداعية، وهذا ما ينسجم مع كون مكان التفتيش هو في “قناديل ناسك، أي: في ضوء الشريعة. فالمقصود من ممارسة الأدب هو البحث عن الذات والتعبير عنها طلبا للراحة النفسية التي يعود بها الأدب متجلية بالوداد.
أبوحُ وشعري عالقٌ بين نبضهِ
يردّدُ أنغاماً بِوَحيِ المحاذرِ
تزيد الشاعرة من تفصيل المعنى الذي قرأناه في البيت السابق عبر هذا البيت، وفيه تعبر عن القلق الذي ينتاب الشعراء من نتائج التعبير عن الرأي عبر الشعر، إذ أنها مع الفعل (أبوح) تستخدم الواو الحالية لتصف حالة الشعر العالق في نبضه أو بين نبضاته ” أبوح وشعري عالق” وهو في هذا الحالة عالق غير متحرر وما يزال يردد أنغاماً من وحي المحاذير التي يجب على الشاعر أن لا يتعداها أو لا يتمرد عليها. والحالة هنا تخرج عن إطارها القلق الذاتي إلى مشكلة عامة تتعلق بحرية الرأي والتعبير وعواقب ممارسة هذه الحرية في ظل تلك المحاذير المفروضة (ربما) من الأنظمة السياسية القمعية.
ولا بد لي من تكرار الهمسة حول الظرف (بين) لأن الاسم (نبض) مفرد وجمعه (أنباض).
بلا وهنٍ كحّلتُ أجفانَ حلمهِ
كطيفِ ملاكٍ وحيُهُ في السّواحِرِ
فأقضمُ أحزاني تراتيلَ عاشقٍ
وأزفر يأسي من بقايا الجوائرِ
بلا وهن أو تراخٍ تؤدي الشاعرة دور الملاك الذي يأتي بالوحي في أوقات السحر فتكحل أجفان الحلم بالوطن. والغرض من الهاء في (حلمه) تخصيص الحلم وتعليقه بالوطن، فهو الحلم المتعلق بالوطن. وقد توقفتُ عند اسم (السواحر) الذي قصدت به الشاعرة استخدام صيغة الجمع من وقت (السحر) وهو الوقت الذي ينزل فيه الملاك بالوحي” كطيفِ ملاكٍ وحيُهُ في السّواحِرِ” كما أرادت الشاعرة. لكن اللفظ الصحيح هو (الأسحار) وليس (السواحر)، وما السواحر إلا صيغة الجمع من الساحرة / الساحر. ولا يمكن أن تقصد الشاعرة أن وحي الملاك يكون في السواحر وفق معنى هذه الكلمة.
ثم (تقضم) أحزانها كما لو كانت هذه الأحزان تراتيل عاشق، وقد اختارت الفعل (أقضم) ليتلاءم مع تراتيل العاشق لكون عمليتي القضم والترتيل كلتاهما تحدثان في الفم، غير أني أتوقع أن أرادت كف دلالة الفعل (أقضم) عن التراتيل وقصرها فقط على الأحزان، وهنا تبدو الأحزان وهي تتعرض للقضم أشبه بعملية الندم أو عض الأصابع أو قضم الأظافر في حالات القلق والاضطراب العاطفي.
أتيتُ بتأويل الرؤى من دُجُنّةٍ
وفي وطني صلّيتُ كلّ البشائرِ
حالة تناقض وصراع نفسي يعيشها الإنسان الفلسطيني عموما بين تأويل الرؤى في كنف الظلام (من دجنة) والذي يعني التشاؤم والسوداوية في ذلك التأويل للرؤى والتي هي تنبؤات أو توقعات ما يأتي من المستقبل المظلم، وبين صلاة البشائر كلها والتي تؤديها الشاعرة في وطنها والتي تعني التفاؤل والرجاء والاستبشار بما هو آت. وهذا التناقض هو واقع الحال الذي يمكننا قراءته كنوع من الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام للهزيمة المعنوية التي تطرحها تأويلات الروى المظلمة، وقد رتبت الشاعرة فعل صلاة البشائر بعد الإتيان بتأويل الرؤى المظلمة ليكون التفاؤل والتبشير وبث روح الأمل في النفوس هو الكلمة الأخيرة وهو الأبقى في تفاعل الشاعرة مع الواقع المظلم.
فتضطربُ الأنفاسُ في غمرة الدّجى
فما عرفَت أيّانَ وجهُ المقابرِ
فكيف نهاري يخلعُ الأمسَ نبضهُ
وكلّ دمائي تحت موت الضّمائرِ
ذلك الاضطراب في الأنفاس في غمرة الدجى مرده إلى الحيرة في تبين وجه المقابر، وكأن الأنفاس تبحث عن المقابر فتضل طريقها وتتوه عنها بسبب الظلام السائد. ويبقى تساؤلنا عن المقصود من ضياع وجه المقابر، فهل هو اختلاط العقائد وعدم القدرة على تحديد حقيقة عقيدة من يموت فيما يأتي وكأنه سيدفن في مقابر لا تنتمي لملته مثلا؟
أم هو اختلاف أشكال الموت وتعددها وكونها موجودة في كل مكان نتيجة القصف والتفجيرات وما شابه، بحيث أن كل مكان بات يصلح لأن يسمى مقبرة فضاعت وجوه المقابر من اختلاطها؟
فكيف نهاري يخلعُ الأمسَ نبضهُ
وكلّ دمائي تحت موت الضّمائرِ
لا شك أن إرادة الحياة التي تستمر مع كل هذا الموت تدعو الإنسان للإعجاب بهذه القدرة العجيبة عند الشعب الفلسطيني البطل على متابعة الحياة اليومية بين أحضان الموت لذا فإن الإشارة الرائعة في البيت أعلاه إلى نبض النهار الذي يخلع أمسه يمكن أن تشير إلى تلك القدرة على الاستمرار مع تجاوز ما حصل من مصائب الأمس على الرغم من الشعور بموت الضمائر التي أباحت موت الدماء أو إماتة حق الثأر لها. هذا إذا قرأنا (كيف) بأسلوب التعجب والاندهاش.
أما إذا قرأنا (كيف) بأسلوب العتاب والاستنكار فالمعنى سيؤدي بنا إلى الإصرار على المقاومة أيضاً، ولكن من حيث الاستنكار والنفي لاحتمال أن يخلع نبض النهار أمسه، مع كل هذه الدماء التي يراد لها أن تموت بموت الضمائر. ولكنها في الحقيقة هي التي تمنع نبض الحياة من نسيان تاريخ مصائبه الذي سجله في الأمس.
سأشعلُ أكفاني سراجاً لظلّهِ
لتقرأها النّجمات عند المعابرِ
هذا البيت الرائع هو في رأيي أجمل أبيات القصيدة على الإطلاق. وهو في ذروة بلاغتها وصياغتها اللغوية والقصيدة كلها جميلة، ولكن هذا البيت يشهد للشاعرة بالإبداع والتمكن؛ إذ وصلت فيه الصورة الشعرية إلى مستوى من الشفافية والتكثيف رفيع جداً.
فالشاعرة ستشعل أكفانها سراجاً لظل الوطن. ومن الناحية الحسية فإن إشعال السراج يقتضي فتيلاً قابلاً للاشتعال والإنارة، وهنا تأتي دلالة الأكفان التي هي أكفان الشهيد لتعبر عن دور الشهادة في إذكاء نار المقاومة والجهاد وبث القوة والهمة في النفوس التي ضعفت وفترت وإنارة الطريق التي داهمها الليل وأظلمت.
لكنني مع جمال البيت أقترح استخدام (لليله) بدلا من (لظله) فالليل يعطي للسراج أهميته أكثر من الظل. هو مجدر رأي، وتبقى الكلمة للشاعرة المبدعة.
متى وطني بالحبّ نفديك صوتنا
متى دمنا يعنو لأقصى المنابرِ
أعتقد أنه ثمة سهو في الكتابة وأن الشاعرة قد أرادت من الفعل (يعنو) الفعل (يعلو)، وذلك لأنها تقيم في البيت علاقة بلاغية تعتمد على التضاد والتعاكس في الربط بين دلالات الألفاظ؛ إذ جعلت الفداء للوطن يتم عبر الصوت بدلا من الدم ” متى وطني بالحبّ نفديك صوتنا” والفداء بالصوت حباً بالوطن يتعلق بالتعبير الحقيقي عن الرأي والتصويت السياسي في الانتخابات.
كما أنها جعلت الدم يعنو/ يعلو لأقصى المنابر “متى دمنا يعنو لأقصى المنابرِ” والمنابر في الأصل مكان علو وارتفاع الصوت لا الدم؛ إشارة إلى أن الحق في امتلاك منابر السلطة هو لمن يقاوم ويضحي بدمائه، فصوت دمه هو الأجدر بأن يعلو إلى أقصى المنابر وأن يكون له هو الكلمة العليا.
وقد أعجبني جداً أن مطلع القصيدة قد بدأ بالحديث عن دلالة الصوت كما هو الأمر في آخر بيت فيها. فهذا الربط وهذا النسج المتكامل قد وفَّر للنص وحدته العضوية والموضوعية وعبَّر عن تمكن الشاعرة وخبرتها ومهارتها في صقل النص فنياً ودلالياً، فضلاً عن إمساكها بتلابيب القارئ عبر العاطفة العميقة المتوهجة التي عبرت عن انتمائها الروحي الشديد لفلسطين الأبية، فكانت هذه القصيدة حقاً ( نأمة البوح من جوف الروح ).
يا لاجراس حرفك حين دق على وتر المشاعر اهتزت الذائقة لتكتب وتحلل ما في العقد من لؤلؤ وعسجد فكان البوح نور على نور ملفوف بوتين الزهر المخبوء بغلال الفكر والمعرفة والقدرة على الغوص في أغوار القصيدة بهذا الشكل المدهش .. لكما يا عطر الياسمين كل الحب والتقدير