مقدمة
تعدّ ظاهرة الانزياح من الظواهر الأسلوبية والألسنية في النقد اللساني الحديث والتي تدلّ على أنّ في اللغة بعض الأنماط التعبيرية والأساليب البيانية التي تخالف اللغة المألوفة وهذا مما يمثّل الإطار اللغوي العامّ ومن ثمّ لا ينشأ المعني الجديد إلاّ عن طريق الانزياح ومستوياته عبر الأنماط التعبيرية لغوياً ودلاليا. مما لا ريب فيه أنّ تقنية الانزياح من المصطلحات الحديثة في النقد اللساني المعاصر التي يستخدمها الشعراء والكتاب عبر إنتاجاتهم الأدبية ليميزوا خطابهم الشعري وإبراز براعتهم الفنية ومقدرتهم اللغوية محاولين بذلك الكشف عن تجربتهم الشعرية والشعورية فضلاً عن أنها من العناصر الهامّة التي تلعب دوراً جماليا بارزاً ولافتاً للنظر في شدّ انتباه المتلقّي ولفت الأنظار لتوصيل الرسالة الكامنة وراء الألفاظ إلى المتلقي. إذن، فالذي لا شك فيه أنّ استخدام هذه التقنية التعبيرية لم تكن صدفة واعتباطية، بل كان الشاعر على وعي تام وتبصير وافٍ بتوظيفه عبر الأسطر الشعرية ليضفي على نصه الشعري نمطًا من القيمة الجمالية والدلالية التي ترتقي بكلامه إلى مرتبة الأصالة والعراقة. يتبين لنا عبر التأمل في هذا المصطلح أنّه انحراف وعدول عن قواعد اللغة المعيارية والمعايير الحاسمة بين الشعر واللاشعر التي تختفي في كيفية التعبير أو طريقة توظيف اللغة. لا ريب أنّ ظاهرة الانزياح تدلّ على اتساع اللغة وعبقريتها حين توسّع أمام اللغة التعبيرية آفاقًا جديدة لتجعلها تتجاوز الاستعمال المألوف لتخلق عبر نظام اللغة المعهود نمطاً من التوتر والاضطراب ليكون هذا النظام الجديد ضرباً تعبيرياً جديداً يؤدي إلى تمطيط الدلالة والغوص إلى البنية العميقة للنصّ الشعري.
منهج البحث
تمّ إعداد هذا البحث وفق المنهج الأسلوبي لما فيه من إمكانيات كبيرة في كشف زوايا الظواهر الأسلوبية وطاقاتها الإبداعية وتفرُّد الشاعر من خلال إبداعه الأسلوبي ضمن خارطة النص الشعري.
تساؤلات البحث
يحاول البحث الإجابة عن الأسئلة التالية، من أهمّها ما يلي:
1- ما المراد بظاهرة الانزياح ومستوياته في النقد اللساني الحديث؟
2- ما طبيعة الانزياح التركيبي في شعر سمير العمري؟
3- ما مكانة الانزياح خاصة الانزياح التركيبي في الدراسات النقدية الحديثة؟
4- كيف استطاع الشاعر توظيف الأنماط المختلفة للانزياح عبر النص الشعري؟
5- ما هو دور مظاهر الانزياح التركيبي عند الشاعر في خلق المعاني الجديدة وتعميق الدلالة؟
فرضيات البحث
من أهمّ الفرضيات المطروحة في البحث ما يلي:
1- من المفترض في البحث أنّ توظيف الانزياح لدي الشاعر كان مقصودًا ومدروسًا من قِبَله وهو على وعي تامّ به.
2- افترضنا أنّ الانزياح تمّ توظيفه لدي الشاعر ليخدم المواقف الفكرية والهواجس الدفينة والرؤي الشعرية والشعورية.
3- من المفترض أنّ الشاعر وظّف الانزياح التركيبي رغبةً في إثراء الخطاب الشعري وإعدادًا للنص للانفتاح على مواقف القُرّاء.
4- من المفترض أنّ الشاعر استخدم الأسلوب التعبيري المألوف في اللغة المعيارية، إلاّ أنّه أراد من خلال التوظيف التعبير عن الدلالات الجديدة التي تُفهم من السياق اللغوي والتركيب الذي نسّقها فيه. وهنا تتضح عبقرية الشاعر.
أهمية الدراسة
تكمن أهمية البحث في الوقوف على شعر “سمير العمري” وتعريف ميزاته البيانية وقدرته على تجاوز اللغة المعيارية لكسر الرتابة واستجلاء مكوناته الأسلوبية عبر دراسة مظاهر الانزياح التركيبي ودورها في تكوين الدلالة.
خلفية البحث
لم يعثر الكاتب في المواقع الإلكترونية أو المجلات العلمية المحكمة على شيء من البحوث والدراسات التي تمّ نشرها فيما يمتّ بصلة إلى تحليل ظاهرة الانزياح في شعر هذا الشاعر الفلسطيني المقاوم، فلا يبعد إذا قلتُ إنّ هذه الدراسة مستقلة وقائمة بذاتها وفريدة في نوعها حيث تحاول تسليط الأضواء وإضاءة ما يكمن وراء الأسطر الشعرية من مقاصد ومواقف شعرية وشعورية في شعر الشاعر الفلسطيني الحديث. من أهم البحوث التي تم نشرها في تحليل شعره ما يلي:
إليات التماسك النصي في شعر سمير العمري قصيدة “قصيدة القدس” نموذجًا. د. عباس يداللهي فارساني. مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية. جامعة حسيبة بن بو على شلف.الجزائر.المجلد 11، العدد 2، 2019م، صص14-3.
مقاربة أسلوبية في قصيدة ملحمة الصمود لسمير العمري. مجلة إضاءات نقدية بين الأدبين العربي والفارسي. د. عباس يداللهي فارساني. جامعة آزاد .كرج (إيران).العدد 34، 2019م، صص 131-85.
نبذة عن الشاعر
يعتبر الدكتور سمير العُمَري أحد أبرز شعراء العرب من الطراز الأول ذا بصمة فريدة حيث يمازج بين الأسلوب وحداثة المضمون وهو مفكر عربي ذو همّ إنساني ممتدّ وله جهود رائدة في النهوض بالمشهد الأدبي ورعاية الإبداع وصقل المواهب.
ولد الشاعر عام 1964م في قطاع غزّة وهاجر وأسرته إلى “السوىد” عام 1998م ويحمل الجنسية الفلسطينية. يرأس الشاعر حاليا الاتحاد العالمي للإبداع الفكري والأدبي وهي منظمة ثقافية عالمية تسعي لبناء جسور التواصل الثقافي مع الآخرين وتقديم الهوية الثقافية الإسلامية كمنتج حضاري راقٍ ومساهمٍ. يعتبر أيضاً رئيس تحرير لمجلة “الواحة” الثقافية الصادرة عن رابطة الواحة الثقافية. أصدر الشاعر ديوانين شعريين معنونين “كفّ وإزميلٌ” و”شُرفة الوجدان” اللذين يتمحوران حول القضية الفلسطينية، إذ حاول الشاعر عبرهما تجسيد همومه ومعاناته النفسية والروحية تجاه جرائم الحرب ضدّ الشعب الفلسطيني المقهور.
مصطلح الانزياح عند الباحثين العرب والغربيين
اتفق النقاد على أنّ قضية الانزياح من الموضوعات التي تحظي باهتمام بالغ عند المفكرين العرب والغربيين حيث ناقشوها وسبروا غورها. إذا تأملنا في جذور التراث النقدي العربي نجد أنّ النقاد العرب لم يكونوا غرباء بالنسبة إلى هذا المصطلح، بل عرفوه ضمن المسميات المختلفة كالانحراف، العدول، التجاوز، و…يمكننا القول إنّ هذه الظاهرة تبلورت من خلال الصلات الوطيدة بين علمي البلاغة واللسانيات، فإذا «تبينا مسلمات الباحثين والمنظرين وجدناها تقرر أنّ الأسلوبية وليدة البلاغة ووريثها الشرعي»([1]).من البديهي أن يظهر هذا المعني المعرفي المستحدث من بطن المعني السابق ليكون امتداداً له، لأنّ ملاحظاتهم لقضية الاستخدام اللغوي وتعامل الشاعر مع عناصر اللغة دفعهم إلى الوقوف والتأمل والتفسير([2]).
لعلّ أبرز الظاهرة الأسلوبية التي نالت انتباه النقد الألسني الحديث هي ظاهرة الانحراف أو الانزياح الأسلويية، فمن النقاد من ذهب إلى أنّ أول من تحدث عن هذه الظاهرة في التراث الغربي “ليوسبيتزر” عبر الإلمام والاهتمام بقراءة الروايات الفرنسية الحديثة التي تميزت بابتعادها عن الاستخدام العام([3]). ظهر هذا المصطلح في أواخر القرن التاسع عشر غير أنّ جذوره ضربت في القدم حيث تعود إلى “أرسطو” ومن جاء بعده. لقد ميز “أرسطو” بين اللغة العادية المألوفة وغير المألوفة معتقداً بأنّ هنا بوناً شاسعاً بين لغة الشعر ولغة التخاطب.
ربما يعدّ “جان كوهن” من رواد النقاد الغربيين الذي أفاض الكلام في مجال الدراسات الشعرية والبلاغية. قد تطرق الشكلانيون الروس إلى دراسة هذا المصطلح اللساني حيث تناول “رومان جاكبسون” موضوع الانزياح وعرّفه بأنّه «الانتظار الخائب أو خيبة الانتظار»([4]).
مكانة الانزياح في الدراسات الأسلوبية
كثيرًا ما يتمحور هذا المصطلح كما تبين لنا حول فكرة الخروج عن اللغة الشائعة والأسلوب المعتاد مما يمثل لنا معنيين متقاربين: اللغة المعيارية والخروج عن قواعد اللغة المتفق عليها ليكتسب الكلام معني جديداً. إذا أمعنا النظر في النقد الأدبي القديم نجد أنّ هذا المصطلح ضرب جذوره فيها حيث تبلور عبر المسميات المختلفة منها العدول والمخالفة، فمن ثمّ كان حضوره لافتًا للنظر مما يدلّ على ارتباط النقد القديم بالأسلوبية ومعاييرها الجديدة حيث جعل النقد الأدبي القديم يتجاوز الاستشهاد بالأمثلة والنماذج نحو الاهتمام بالبنية العميقة والربط بين النصوص التي يجمعها رابط محدد عبر معالجة المفردات والجمل والمقاطع من خلال سياقاتها([5]). مما لا ريب فيه أنّ ظاهرة الانزياح التركيبي تتبلور عبر الخرق اللغوي التي تنتاب اللغة المعيارية، فمن الواضح أنّ هذه اللغة ذات أنظمة تحكمه القواعد والأسس الدقيقة، فبمقدار ما يلتزم الشاعر أو الكاتب بهذه الأسس والمعايير يصح كلامهما، غير أننا نجد في هذه اللغة المعيارية أن النحاة من القدامى يفرضون على اللغة ما لا يستحسنه النقاد المعاصرون وهذا يعود إلى سببين هامين: وجود عنصر الخيل في الأدب الذي نجد بينهما صلات وطيدة وعميقة حيث تتصادم مع اللغة المعيارية والمألوفة. التزام الأدب بالمعايير والأسس التعبيرية للغة المعيارية يبعده عن الإبداع مما يحصره في مجال ضيق يمنعه من التطرق إل الآفاق المتسعة الجديدة. ومن هنا يوسع الانزياح المجالات الإبداعية والفكرية لدي الشاعر أو الكاتب، وهو بذلك «لايحافظ على هذا الاطراد، وإنما تحكمه سياقات الكلام، فتتخلي عن الرتب المحفوظة إلى انتهاكات أو تكرارات أو منبهات أسلوبية، تبدو في شكل تدفقات تعبيرية لها طبيعة مختلفة عن الاطراد»([6]). لا ريب أنّ تحديد النتائج الحاصلة عن الانزياح عبر الأسطر الشعرية يفرض علينا «أن نتوفر على معرفة دقيقة وحساسة بإزاء القواعد العامة التي يقاس الانزياح في ضوئها، ومن دون تلك المعرفة، فإننا نغفل كثيراً من الانزياحات التي يتوفر عليها النص الأدبي»([7]).
إذا تأملنا في الانزياح التركيبي عبر الأسطر الشعرية نجد أنّ العدول عن اللغة المعيارية والمألوفة تسوقنا مساق الدلالات الجديدة للنص الإبداعي والعثور على القراءات المتعددة له والتي توفرها لنا هذا النمط التعبيري حيث إنّ هذا النمط البياني «المتميز في البناء الشعري من شأنه أن يحدد فاعلية النحو وإسهامه في بناء لغة شعرية خلاقة تستقطب اهتمام القارئ»([8]). وهذا مما يثير اهتمام المتلقي ويجذب انتباهه للكشف عما ورد في النص الشعري الذي يخالف اللغة المعيارية. والذي لا شك فيه أنّ عناية الشاعر واهتمامه بالدلالات الجديدة تعبّر عن مواقفه الشعرية والشعورية الحديثة عبر الأسطر الشعرية، ويدلّ مسلكه اللغوي الجديد على بلورة التجديد في إطار اللغة التي تظهر في مستوي التراكيب اللغوية، لأنّ «الإتيان باستخدامات لغوية جديدة يعني أنّ هناك بعدًا فنيا يكمن وراء مثل هذه الاستخدامات التي تتجاوز حدود ما هو مألوف»([9]).
مستويات الانزياح
يعود جلّ محاور البلاغة العربية إلى قضية الانزياح بمعناه الواسع، فعلى سبيل المثال لم تكن الاستعارة، التشبيه أو الكناية إلا صورة من صور الانزياح، إذ تبلورت على غير معناها الأصلي ضمن خارطة النصّ.
إنّ حقيقة اللذة الحاصلة من جرّاء التعبير بالصورة تكمن فيما يتيحه الانزياح من إمكانيات الحواجز النمطية، ومن هنا تحسن المقارنة التي تفصح عن أهمية الصورة في النص الأدبي عمومًا وما تتضمنه من قيم تحيل على إلىة الخيال الذي يغفل حواجز المألوف، ويسعف بذلك الأديب عندما يودّ أن يعبر إلى ما وراء المسلمات اللغوية النمطية ويتجاوز حدود العقلانية التي تزعم أنها تبرز من خلال تحليل ساذج ومبسّط لمكونات الاستعارة التشبيه والكناية([10]).
بناء على ذلك، ثمّ نماذج مختلفة من الانزياح في النقد الألسني الحديث، إلاّ أنّ ما يهمّنا هو ثلاثة: الانزياح الدلالي، الانزياح التركيبي، والانزياح الإيقاعي. مما يجدر بالذكر أنّ بعض النقاد تحدثوا عن أقسام الانزياح حتي عدّوه خمسة عشر أنواعاً، لكنّ المشهور منها هذه الأنواع الثلاثة. من أهم تمظهرات الانزياح التركيبي الذي نحن بصدده في هذا البحث، التقديم والتأخير، الحذف، الالتفات، التكرار والفصل.
الجزء الثاني من المقالة ⇐1- المسدي، 2006م،44.
2- ربابعة،2003م،43.
3-مسعود بودوخة، 2011م، 39.
4- نفسه، 55.
5- أبوالعدوس،1999م،171-170.
6- عبدالمطلب،1999م،305.
7- ناظم،2002م،4.
8- عياشي،2002م،88.
9- ربابعة،السابق،54.
10- عيد،1979م،159.