أدبقصة

حقل الغريب

“هذا حقل الغريب، تجد فيه كلّ جديد”. كان هذا جواب الشّاب عندما سأله أبو محمود: أليس هذا حقل القمح الخاص بأبي أسعد؟
كيف هذا؟ أعرفُ أبا أسعد منذ ثلاثين عاما، وهو يتناوب زراعة الحقل بالقمح سنةّ، وبالبطّيخ أخرى!
يبدو أنّ هذا الشّابّ غريب، ولا يعرف صديقي وطباعه. أيعقل أنّه تعب ولم يعد يفلح الأرض، وسلّم الأمر لأولاده؟! لا بدّ أنّ هناك أمرا فادحا حصل في فترة انقطاعي عن زيارته، خلال السّنوات الثّلاث الماضية، وعدم مجيئي لشراء القمح، لكنّه لم يتأخّر عن زيارتي للاطمئنان على صحّتي خلال فترة مرضي تلك إلّا شهرا، ولم يذكر لي خلال أحاديثنا سوى أنّه بخير، وأنّ وضعه في تحسّن مستمرّ.

كيف غام فكري ولم أسأله عن مصدر كلّ تلك الخضراوات التي كان يجلبها حين يأتي إلينا؟ هل يجوز أنّه أُقنع بالتّنازل عن زراعة القمح والبّطيخ الذي لم تعرف المنطقة نوعا أجود وأطيب مذاقا منه؟ وإن نفد من كلّ الحقول، يظل حقل أبي أسعد المغدق والمزوّد لما نقص في الموسم المعدّ للبطّيخ؟!
انتفض ونفض عنه ركام الأفكار والتّساؤلات التي هاجمته وضايقته، وتوجّه صوب بيت صديقه. استقبله، والشّوق يفرد أجنحته لاحتضان صديقه العزيز (أبو محمود) مرحّبا فرحا. جلسا في غرفة الاستقبال ذات الأثاث الفاخر الذي لم يره من قبل، وبادره أبو أسعد، وهو ينظر بإعجاب للأريكة المميّزة التي يجلس عليها بالحديث قائلا:
أصرّت أم أسعد على تجديد أثاث البيت.
ثمّ بدأ يسرد على مسامعه قصّة حقله الجديد، وركّز على أنّ مرشدَين زراعيّين هما من أقنعاه بضرورة التّجديد والتّغيير، خاصّة وأنّ السّوق بات يحتاج إلى الأنواع العديدة من الخضار أكثر منه للقمح. خلال هذه اللحظات، تمنّى لو يستطيع وضع إصبعيه في أذنيه حذر صواعق صديقه المغيظة القاتلة. كرّر سؤاله عن إمكانيّة العودة لزراعة القمح، لكنّ الجواب كان مؤكّدا استحالة العودةَ لتلك الأيّام.

أحسّ بالدّوار، ولم يشأ أن يظهر حزنه وغضبه لصديقه بعد غيابه الطّويل عنه. أصرّ أبو أسعد على إبقائه لتناول طعام العشاء، ولم يشفع له مثله: “ضيف المَسا مالو عَشا”. زُيّن العشاء بأطباق ملئت بشتّى أنواع الخضار المطبوخ والنّيء، ولم ينتبه أبو أسعد أنّ صاحبه قد غصّ بالطّعام أكثر من ثلاث مرّات. بعد العشاء، نهض مستأذنا يبغي العودة إلى بلدته، ومعتذرا عن تلبية الدّعوة للعبة (المنقلة) التي يعشقها ويدمنها. لأوّل مرّة يشعر أنّ أذرع أخطبوط الغربة تحاصره، فأسرع في التّخلّص منها قبل أن تمتصّه.

غادر القرية ملقيا نظرة طويلة على الحقل الجديد، أو كما أسموه (حقل الغريب)، فاحتقن وجهه ثمّ أدمعت عيناه وأكمل طريقه. استغربت أمّ محمود عودة زوجها خالي الوفاض، حتّى من سلام أم أسعد وعائلتها، وأقلقها أمره حين لم ينادِ الأولاد لنقل القمح إلى المخزن. فقد ذهب ليشتري قمحا. سألته والدّهشة تنشرها حركات اليدين وملامح الوجه:
أين القمح؟ هل نسيك صاحبك أبو أسعد؟
لم يكن بمقدوره أن يجيب. وبالأحرى لم يطق سماع الاسم المذكور لحظتها، وتوجّه لغرفته طالبا عدم الإزعاج، فهو مرهق. ترى، هل صفعتك اليد النّاعمة، وأنت ذو الكفّ الخشنة التي تجرح من لامسها يا أبا أسعد؟!

لم تفارق مخيّلتَه صورُ زيارته، ولم تغادر ذاكرته السّمعيّة الأحاديث التي ألقاها على مسامعه. فلا يعقل أنّ صديق الشّباب الذي التقى به صدفة في إحدى الجمعيّات الزّراعيّة، حيث عمل فيها موظّفا، ولفت نظره اهتمام ذاك الشّابّ بأرضه وإصراره على التّمسّك بأكل خبزه من قمح حقله فقط، رافعا لواء: “الويل لأمّة لا تأكل خبزها من قمح حقلها!”، أن يفعل ما فعل!
أيعقل أن يتنازل عن مبادئه، ويسلّم أرضه لغريب؟ ومن هو هذا الغريب؟! كيف يجرؤ على إخباري بأنّ مرشدين زراعيّين – جنّدهما غريب – قد أقنعاه بضرورة تغيير نوع المزروعات، ولا ضرورة لقتل الأرض مقابل عدد أطنان قليلة من القمح؟ لماذا لم يصرّ على اعتراضه وهياجه، عندما عرضت عليه الفكرة مثلما أخبره؟

تساؤلات كثيرة وخزت أشواكها دماغ أبي محمود، وحرمّت النّوم عليه؛ ليتذكّر كلام صاحبه الذي بدا سعيدا لما هو فيه، وأشفق عليه إشفاقا مصحوبا بالغضب. لقد أخبره أنّ الصّفقة اقتضت بأن يسلّم مسؤوليّة أرض الحقل للغريب مقابل أن يزوّده بالأطنان التي كان يحصدها من القمح، وزيادة على ذلك، له ثلث ما ينبته الحقل من مزروعات. كانت تلك صفقة مربحة، فقد باع من القمح، وخزن مؤونة عائلته. وفي موسم البّطيخ، أليس حراما أن تنتج الأرض نوعا واحدا، وهناك العديد من الخضار التي ستملأ السّوق، وتسدّ حاجة سكان القرية وما يجاورها؟ عرض مغرٍ من قبل الغريب. لقد كبر وبدأ التّعب ينال منه فالبطّيخ يحتاج عناية وتعبا، والأولاد مشغولون بدراستهم ولا يعتنون بالأرض مثله. وكان الشّرط أن يعطى ثلث الأرباح، ووافق على ذلك بعد الإغراء الأوّل. أغرته الرّاحة، وأسعده المال، ودفع أقساط التّعليم بسهولة ونام مطمئن الحال!

في السّنة الثّالثة، ظلّ الاتّفاق مثل الثّانية، لكن حصل ما لم يكن بالحسبان، حيث ادّعى الغريب أنّ الدّيدان هاجمت الزّرع، وكذلك بعض الحشرات المؤذية، ويتطلّب الأمر المال الكثير لشراء الأدوية، ويجب عليه الدّفع؛ لأنّه شريك. وبما أنّ معظم المال قد سدّد للأقساط التّعليميّة، وجدّدت أم أسعد أثاث البيت، فإنّ الوضع صعب للغاية. ومن أين سيأتي بما طلب منه؟

عرف الغريب بالأمر فعرض عليه أن يرهن دونما من الأرض، وهو يقوم بما يجب. ويمكنه استرداده متّى توفّر لديه ذاك المبلغ المساوي لسعر الدّونم. برقت عيناه للفكرة، وهو الواثق بأنّ أرباح الموسم ستكون وفيرة، وسيرجع أرضه بأسرع وقت. تبّا لك يا أبا أسعد! لم أعهدك طوال سنين صداقتنا غبيّا وأحمق مثلما عهدتك اليوم! الجرذان تقرضك، وتبني أوكارها لتستوطن أرضك، والدّيدان تأكل زرعك، وسوس الخشب الجديد ينخر بيتك، ولا تنتبه لكلّ هذا؟!
صاح أبو محمود، فاستفاقت زوجه، وحسبته يحلم فذهبت لإحضار كوب ماء. بات يعدّ الدّقائق والسّاعات المتبقيّة على انبثاق الفجر؛ ليعود إلى صديقه ويلقي ما في جعبته، وإن أدّى ذلك إلى خسارة صديق عزيز.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى